المسألة الثانية : اختلفت الروايات في ؟ . أنه عليه الصلاة والسلام هل رأى الجن أم لا
فالقول الأول : وهو مذهب أنه عليه السلام ما رآهم ، قال : ابن عباس عيسى ومحمد فيستمعون أخبار السماء ويلقونها إلى الكهنة , فلما بعث الله محمدا عليه السلام حرست السماء ، وحيل بين الشياطين وبين خبر السماء , وأرسلت الشهب عليهم فرجعوا إلى إبليس وأخبروه بالقصة فقال : لا بد لهذا من سبب فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها واطلبوا السبب , فوصل جمع من أولئك الطالبين إلى تهامة فرأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر , فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا : هذا والله هو الذي حال بينكم وبين خبر السماء , فهناك رجعوا إلى قومهم وقالوا : يا قومنا ( إنا ) [ ص: 135 ] ( سمعنا قرآنا عجبا ) فأخبر الله تعالى محمدا عليه السلام عن ذلك الغيب وقال : ( قل أوحي إلي ) كذا وكذا ، قال : وفي هذا دليل على أنه عليه السلام لم ير الجن ؛ إذ لو رآهم لما أسند معرفة هذه الواقعة إلى الوحي, فإن ما عرف وجوده بالمشاهدة لا يسند إثباته إلى الوحي ، فإن قيل : إن الجن كانوا يقصدون السماء في الفترة بين ؟ قلنا : فيه وجهان : الذين رموا بالشهب هم الشياطين, والذين سمعوا القرآن هم الجن فكيف وجه الجمع
الأول : أن الجن كانوا مع الشياطين فلما رمي الشياطين أخذ الجن الذين كانوا معهم في تجسس الخبر .
الثاني : أن الذين رموا بالشهب كانوا من الجن إلا أنه قيل لهم شياطين كما قيل شياطين الجن والإنس, فإن الشيطان كل متمرد بعيد عن طاعة الله ، واختلفوا في أن أولئك ؟ فروى الجن الذين سمعوا القرآن من هم عاصم عن أبي ذر قال : قدم رهط زوبعة وأصحابه مكة على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم, ثم انصرفوا فذلك قوله : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ) [الأحقاف : 29] وقيل : كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عددا, وعامة جنود إبليس منهم .
القول الثاني : وهو مذهب ابن مسعود أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمسير إليهم ليقرأ القرآن عليهم, ويدعوهم إلى الإسلام ، قال ابن مسعود : قال عليه الصلاة والسلام : " أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي ؟ فسكتوا ، ثم قال الثانية فسكتوا ، ثم قال الثالثة ، فقال عبد الله قلت : أنا أذهب معك يا رسول الله قال : فانطلق حتى إذا جاء الحجون عند شعب ابن أبي دب ، خط علي خطا فقال : لا تجاوزه ، ثم مضى إلى الحجون فانحدروا عليه أمثال الحجل كأنهم رجال الزط يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها حتى غشوه ، فغاب عن بصري فقمت ، فأومأ إلي بيده أن اجلس ، ثم تلا القرآن ، فلم يزل صوته يرتفع ، ولصقوا بالأرض حتى صرت أسمع صوتهم ولا أراهم " .
وفي رواية أخرى " فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنت ؟ قال : أنا نبي الله ، قالوا : فمن يشهد لك على ذلك ؟ قال : هذه الشجرة ، تعالي يا شجرة ، فجاءت تجر عروقها لها قعاقع حتى انصبت بين يديه ، فقال على ماذا تشهدين لي ؟ قالت : أشهد أنك رسول الله ، قال : اذهبي ، فرجعت كما جاءت حتى صارت كما كانت . قال ابن مسعود : فلما عاد إلي ، قال : أردت أن تأتيني ؟ قلت : نعم يا رسول الله . قال : ما كان ذلك لك ، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن ، ثم ولوا إلى قومهم منذرين ، فسألوني الزاد فزودتهم العظم والبعر ، فلا يستطيبن أحد بعظم ولا بعر .
واعلم أنه لا سبيل إلى تكذيب الروايات ، وطريق التوفيق بين مذهب ومذهب ابن عباس ابن مسعود من وجوه :
أحدها : لعل ما ذكره وقع أولا ، فأوحى الله تعالى إليه بهذه السورة ، ثم أمر بالخروج إليهم بعد ذلك ، كما روى ابن عباس ابن مسعود .
وثانيها : أن بتقدير أن تكون واقعة الجن مرة واحدة ، إلا أنه عليه السلام أمر بالذهاب إليهم ، وقراءة القرآن عليهم ، إلا أنه عليه السلام ما عرف أنهم ماذا قالوا ، وأي شيء فعلوا ، فالله تعالى أوحى إليه أنه كان كذا وقالوا كذا .
وثالثها : أن الواقعة كانت مرة واحدة ، وهو عليه السلام رآهم وسمع كلامهم ، وهم آمنوا به ، ثم لما رجعوا إلى قومهم قالوا لقومهم على سبيل الحكاية : ( إنا سمعنا قرآنا عجبا ) وكان كذا وكذا ، فأوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما قالوه لأقوامهم ، وإذا كانت هذه الوجوه محتملة فلا سبيل إلى التكذيب .
[ ص: 136 ] المسألة الثالثة : اعلم أن قوله تعالى : ( قل ) أمر منه تعالى لرسوله أن يظهر لأصحابه ما أوحى الله في واقعة الجن ، وفيه فوائد :
إحداها : أن يعرفوا بذلك أنه عليه السلام كما بعث إلى الإنس ، فقد بعث إلى الجن .
وثانيها : أن يعلم قريش أن الجن مع تمردهم لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه ، فآمنوا بالرسول .
وثالثها : أن يعلم القوم أن الجن مكلفون كالإنس .
ورابعها : أن يعلم أن الجن يستمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا .
وخامسها : أن يظهر أن المؤمن منهم يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان ، وفي كل هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس .
المسألة الرابعة : الإيحاء إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء كالإلهام وإنزال الملك, ويكون ذلك في سرعة من قولهم : الوحي الوحي, والقراءة المشهورة : أوحي بالألف ، وفي رواية يونس وهارون ، عن أبي عمرو "وحي" بضم الواو بغير ألف وهما لغتان ، يقال : وحي إليه وأوحي إليه, وقرئ أحي بالهمز من غير واو ، وأصله وحي ، فقلبت الواو همزة كما يقال أعد وأذن ( وإذا الرسل أقتت ) [المرسلات : 11] وقوله تعالى : ( أنه استمع نفر من الجن ) فيه مسائل :
المسألة الأولى : أجمعوا على أن قوله : ( أنه استمع ) بالفتح وذلك لأنه نائب فاعل أوحي فهو كقوله : ( وأوحي إلي هذا القرآن ) [الأنعام : 19] وأجمعوا على كسر إنا في قوله : ( إنا سمعنا ) لأنه مبتدأ محكي بعد القول ، ثم ههنا قراءتان :
إحداهما : أن نحمل البواقي على الموضعين اللذين بينا أنهم أجمعوا عليهما فما كان من الوحي فتح ، وما كان من قول الجن كسر ، وكلها من قول الجن إلا الآخرين وهما قوله : ( وأن المساجد لله ) [الجن : 18] ( وأنه لما قام ) [الجن : 19] .
وثانيهما : فتح الكل, والتقدير : ( فآمنا به ) وآمنا بأنه تعالى ( جد ربنا ) وبأنه كان يقول سفيهنا وكذا البواقي ، فإن قيل : ههنا إشكال من وجهين :
أحدهما : أنه يقبح إضافة الإيمان إلى بعض هذه السورة فإنه يقبح أن يقال : وآمنا بأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا .
والثاني : وهو أنه لا يعطف على الهاء المخفوضة إلا بإظهار الخافض, لا يقال : آمنا به وزيد ، بل يقال : آمنا به وبزيد ( والجواب ) عن الإشكالين أنا إذا حملنا قوله آمنا على معنى صدقنا وشهدنا زال الإشكالان .
المسألة الثانية : نفر من الجن جماعة منهم ما بين الثلاثة إلى العشرة, روي أن ذلك النفر كانوا يهودا ، وذكر الحسن أن فيهم يهودا ونصارى ومجوسا ومشركين ، ثم اعلم أن الجن حكوا أشياء :