[ ص: 155 ] ( إن ناشئة الليل ) .
قوله تعالى : ( إن ناشئة الليل ) يقال : نشأت تنشأ نشأ ، فهي : ناشئة ، والإنشاء الإحداث ، فكل ما حدث [فهو ناشئ] فإنه يقال للذكر ناشئ ، وللمؤنث ناشئة ، إذا عرفت هذا فنقول في الناشئة قولان :
أحدهما : أنها عبارة عن ساعات الليل .
والثاني : أنها عبارة عن الأمور التي تحدث في ساعات الليل .
أما القول الأول ، فقال أبو عبيدة : ناشئة الليل ساعاته وأجزاؤه المتتالية المتعاقبة فإنها تحدث واحدة بعد أخرى ، فهي ناشئة بعد ناشئة . ثم القائلون بهذا القول اختلفوا ، فمنهم من قال : الليل كله ناشئة ، روى ، قال سألت ابن أبي مليكة ابن عباس وابن الزبير عن ناشئة الليل ، فقالا : الليل كله ناشئة .
وقال زين العابدين رضي الله عنه : ناشئة الليل ما بين المغرب إلى العشاء ، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك والكسائي ، قالوا : لأن ناشئة الليل هي الساعة التي منها يبتدئ سواد الليل .
القول الثاني : هو بأمور تحدث في الليل ، وذكروا على هذا القول وجوها : تفسير الناشئة
أحدها : قالوا : (ناشئة الليل) هي النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة أي تنهض وترتفع ، من نشأت السحابة إذا ارتفعت .
وثانيها : ناشئة الليل ، عبارة عن قيام الليل بعد النوم ، قال إذا نمت من أول الليل نومة ثم قمت فتلك النشأة ، ومنه ناشئة الليل . ابن الأعرابي
وعندي فيه وجه ثالث : وهو أن الإنسان إذا أقبل على العبادة والذكر في الليل المظلم في البيت المظلم في موضع لا تصير حواسه مشغولة بشيء من المحسوسات ألبتة ، فحينئذ يقبل القلب على الخواطر الروحانية والأفكار الإلهية ، وأما النهار فإن الحواس تكون مشغولة بالمحسوسات, فتصير النفس مشغولة بالمحسوسات ، فلا تتفرغ للأحوال الروحانية ، فالمراد من ناشئة الليل تلك الواردات الروحانية والخواطر النورانية ، التي تنكشف في ظلمة الليل بسبب فراغ الحواس ، وسماها ناشئة الليل ؛ لأنها لا تحدث إلا في الليل بسبب أن الحواس الشاغلة للنفس معطلة في الليل ومشغولة في النهار ، ولم يذكر أن تلك الأشياء الناشئة منها تارة أفكار وتأملات ، وتارة أنوار ومكاشفات ، وتارة انفعالات نفسانية من الابتهاج بعالم القدس أو الخوف منه ، أو تخيلات أحوال عجيبة ، فلما كانت تلك الأمور الناشئة أجناسا كثيرة لا يجمعها جامع ، إلا أنها أمور ناشئة حادثة لا جرم لم يصفها إلا بأنها ناشئة الليل .