قوله تعالى : ( وقيل من راق ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في " راق " وجهان :
الأول : أن يكون من الرقية ، يقال : رقاه يرقيه رقية ، إذا عوذه بما يشفيه ، كما يقال : بسم الله أرقيك ، وقائل هذا القول على هذا الوجه ، هم الذين يكونون حول الإنسان المشرف على الموت ، ثم هذا الاستفهام يحتمل أن يكون بمعنى الطلب كأنهم طلبوا له طبيبا يشفيه ، وراقيا يرقيه ، ويحتمل أن يكون استفهاما بمعنى الإنكار ، كما يقول القائل عند اليأس : من الذي يقدر أن يرقي هذا . الإنسان المشرف على الموت
الوجه الثاني : أن يكون قوله : ( من راق ) من رقي يرقي رقيا ، ومنه قوله تعالى : ( ولن نؤمن لرقيك ) [ الإسراء : 93] وعلى هذا الوجه يكون قائل هذا القول هم الملائكة . قال : إن ابن عباس ، فيقول ملك الموت : من يرقى بهذا الكافر ، وقال الملائكة يكرهون القرب من الكافر الكلبي : يحضر العبد عند الموت سبعة أملاك من ملائكة الرحمة ، وسبعة من ملائكة العذاب مع ملك الموت ، فإذا بلغت نفس العبد التراقي نظر بعضهم إلى بعض ، أيهم يرقى بروحه إلى السماء ، فهو ( من راق ) .
المسألة الثانية : قال الواحدي : إن إظهار النون عند حروف الفم لحسن ، فلا يجوز إظهار نون " من " في قوله ( من راق ) ، وروى حفص عن عاصم إظهار النون في قوله : ( من راق ) و ( بل ران ) قال أبو علي الفارسي : ولا أعرف وجه ذلك ، قال الواحدي : والوجه أن يقال : قصد الوقف على " من " و " بل " ، فأظهرها ثم ابتدأ بما بعدهما ، وهذا غير مرضي من القراءة .
قوله تعالى : ( وظن أنه الفراق ) قال المفسرون : المراد أنه أيقن بمفارقته الدنيا ، ولعله إنما سمي اليقين ههنا بالظن لأن الإنسان ما دام يبقى روحه متعلقا ببدنه ، فإنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة على ما قال : ( كلا بل تحبون العاجلة ) ولا ينقطع رجاؤه عنها فلا يحصل له يقين الموت ، بل الظن [ ص: 205 ] الغالب مع رجاء الحياة ، أو لعله سماه بالظن على سبيل التهكم .
واعلم أن الآية دالة على أن ، لأنه تعالى سمى الموت فراقا ، والفراق إنما يكون لو كانت الروح باقية ، فإن الفراق والوصال صفة ، والصفة تستدعي وجود الموصوف . الروح جوهر قائم بنفسه باق بعد موت البدن
ثم قال تعالى : ( والتفت الساق بالساق ) الالتفاف هو الاجتماع ، كقوله تعالى : ( جئنا بكم لفيفا ) [ الإسراء : 104] وفي الساق قولان :
القول الأول : أنه الأمر الشديد ، قال أهل المعاني : لأن الإنسان إذا دهمته شدة شمر لها عن ساقه ، فقيل للأمر الشديد : ساق ، وتقول العرب : قامت الحرب على ساق ، أي اشتدت ، قال الجعدي :
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
ثم قال : والمراد بقوله : ( والتفت الساق بالساق ) أي التفت شدة مفارقة الدنيا ولذاتها وشدة الذهاب ، أو التفت شدة ترك الأهل ، وترك الولد ، وترك المال ، وترك الجاه ، وشدة شماتة الأعداء ، وغم الأولياء ، وبالجملة ، كشدة الذهاب إلى الآخرة ، والقدوم على الله ، أو التفت شدة ترك الأحباب والأولياء ، وشدة الذهاب إلى دار الغربة . فالشدائد هناك كثيرة
والقول الثاني : أن المراد من الساق هذا العضو المخصوص ، ثم ذكروا على هذا القول وجوها :
أحدها : قال الشعبي وقتادة : هما ساقاه عند الموت ، أما رأيته في النزع كيف يضرب بإحدى رجليه على الأخرى .
والثاني : قال الحسن : هما ساقاه إذا التفتا في الكفن . وسعيد بن المسيب
والثالث : أنه إذا مات يبست ساقاه ، والتصقت إحداهما بالأخرى .