قوله تعالى : ( انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر ويل يومئذ للمكذبين )
اعلم أن هذا هو النوع الخامس من وجوه تخويف الكفار ، وهو بيان ، فأما قوله : ( كيفية عذابهم في الآخرة انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون ) فالمعنى أنه يقال لهم : ( انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون ) من العذاب ، والظاهر أن القائلين هم خزنة النار ، و " انطلقوا " الثاني تكرير ، وقرأ يعقوب : " انطلقوا " على لفظ الماضي ، والمعنى أنهم انقادوا للأمر لأجل أنهم مضطرون إليه ، لا يستطيعون امتناعا منه ، وهذا بعيد ؛ لأنه كان ينبغي أن يقال : " فانطلقوا " بالفاء ليرتبط آخر الكلام بأوله ، قال المفسرون : إن ، وليس عليهم يومئذ لباس ولا كنان ، فتلفحهم الشمس وتسفعهم وتأخذ بأنفاسهم ، ويمتد ذلك اليوم ، ثم ينجي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظله ، فهناك يقولون : ( الشمس تقرب يوم القيامة من رءوس الخلائق فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم ) [ الطور : 27 ] ويقال للمكذبين : ( انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون ) من عذاب الله وعقابه . وقوله : ( إلى ظل ) يعني دخان جهنم ؛ كقوله : ( وظل من يحموم ) [ الواقعة : 43 ] ثم إنه تعالى وصف هذا الظل بصفات :
الصفة الأولى : قوله ( ذي ثلاث شعب ) وفيه وجوه :
أحدها : قال الحسن : ما أدري ما هذا الظل ، ولا سمعت فيه شيئا .
وثانيها : قال قوم : المراد بقوله : ( إلى ظل ذي ثلاث شعب ) كون النار من فوقهم ومن تحت أرجلهم ومحيطة بهم ، وتسمية النار بالظل مجاز من حيث إنها محيطة بهم من كل جانب ، كقوله : ( لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ) [ الزمر : 16 ] ، وقال تعالى : ( يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) [ العنكبوت : 55 ] .
وثالثها : قال قتادة : بل المراد الدخان ، وهو من قوله : ( أحاط بهم سرادقها ) [ الكهف : 29 ] ، وسرادق النار هو الدخان ، ثم إن شعبة من ذلك الدخان على يمينه ، وشعبة أخرى على يساره ، وشعبة ثالثة من فوقه ، وأقول : هذا غير مستبعد ؛ لأن الغضب عن يمينه والشهوة عن شماله ، والقوة الشيطانية في دماغه ، ومنبع جميع الآفات الصادرة عن الإنسان في عقائده وفي أعماله ليس إلا هذه الثلاثة ، فتولدت من [ ص: 243 ] هذه الينابيع الثلاثة أنواع من الظلمات ، ويمكن أيضا أن يقال : ههنا درجات ثلاثة ، وهي الحس والخيال والوهم ، وهي مانعة للروح عن الاستنارة بأنوار عالم القدس والطهارة ، ولكل واحد من تلك المراتب الثلاثة نوع خاص من الظلمة .
ورابعها : قال قوم : هذا كناية عن كون ذلك الدخان عظيما ؛ فإن الدخان العظيم ينقسم إلى شعب كثيرة .
وخامسها : قال أبو مسلم : ويحتمل في " ثلاث شعب " ما ذكره بعد ذلك ، وهو أنه غير ظليل ، وأنه لا يغني من اللهب ، وبأنها ترمي بشرر كالقصر .
الصفة الثانية لذلك الظل : قوله ( لا ظليل ) ، وهذا تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين ، والمعنى أن ذلك الظل لا يمنع حر الشمس .
الصفة الثالثة : قوله تعالى : ( ولا يغني من اللهب ) يقال : أغن عني وجهك ، أي أبعده ؛ لأن الغني عن الشيء يباعده ، كما أن المحتاج يقاربه ، قال صاحب " الكشاف " : إنه في محل الجر ، أي : وغيره مغن عنهم من حر اللهب شيئا ، قال القفال : وهذا يحتمل وجهين :
أحدهما : أن هذا الظل إنما يكون في جهنم ، فلا يظلهم من حرها ، ولا يسترهم من لهيبها ، وقد ذكر الله في سورة الواقعة الظل فقال : ( في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم ) [ الواقعة : 42-44 ] وهذا كأنه في جهنم إذا دخلوها ، ثم قال : ( لا بارد ولا كريم ) [ الواقعة : 44 ] فيحتمل أن يكون قوله : ( لا ظليل ) في معنى : " لا بارد " ، وقوله : ( ولا يغني من اللهب ) في معنى : " ولا كريم " أي لا روح له يلجأ إليه من لهب النار .
والثاني : أن تكون ذلك إنما يكون قبل أن يدخلوا جهنم ، بل عندما يحبسون للحساب والعرض ، فيقال لهم : إن هذا الظل لا يظلكم من حر الشمس ولا يدفع لهب النار .
وفي الآية ( وجه ثان ) وهو الذي قاله قطرب : وهو أن اللهب ههنا هو العطش ، يقال : لهب لهبا ، ورجل لهبان ، وامرأة لهبى .
الصفة الرابعة : قوله تعالى : ( إنها ترمي بشرر ) قال الواحدي : يقال : شررة وشرر وشرارة وشرار ، وهو ما تطاير من النار متبددا في كل جهة ، وأصله من شررت الثوب إذا أظهرته وبسطته للشمس ، والشرار ينبسط متبددا ، واعلم أن الله تعالى التي كان ذلك الظل دخانا لها بأنها ترمي بالشرارة العظيمة ، والمقصود منه بيان أن تلك النار عظيمة جدا ، ثم إنه تعالى شبه ذلك الشرر بشيئين : وصف النار
الأول : بالقصر ، وفي تفسيره قولان :
أحدهما : أن المراد منه البناء المسمى بالقصر ، قال : يريد القصور العظام . ابن عباس
الثاني : أنه ليس المراد ذلك ، ثم على التقدير ففي التفسير وجوه :
أحدها : أنها جمع قصرة ساكنة الصاد كتمرة وتمر ، وجمرة وجمر ، قال : يقال للواحد من الحطب الجزل الغليظ : قصرة ، والجمع قصر ، قال المبرد عبد الرحمن بن عابس : سألت عن القصر ، فقال : هو خشب كنا ندخره للشتاء نقطعه ، وكنا نسميه القصر . وهذا قول ابن عباس سعيد بن جبير ومقاتل والضحاك ، إلا أنهم قالوا : هي أصول النخل والشجر العظام ، قال صاحب " الكشاف " : قرئ " كالقصر " بفتحتين ، وهي أعناق الإبل أو أعناق النخل ، نحو شجرة وشجر ، وقرأ ابن مسعود " كالقصر " بمعنى القصر ؛ كرهن ورهن ، وقرأ : " كالقصر " في جمع قصرة كحاجة وحوج . سعيد بن جبير
التشبيه الثاني : قوله تعالى : ( كأنه جمالة صفر ) وفيه مسألتان : [ ص: 244 ] المسألة الأولى : " جمالات " جمع جمال ؛ كقولهم : رجالات ورجال وبيوتات وبيوت ، وقرأ : " جمالات " بضم الجيم ، وهو قراءة ابن عباس يعقوب ، وذكروا وجوها :
أحدها : قيل : الجمالات بالضم الحبال الغلاظ ، وهي حبال السفن ، ويقال لها : القلوس ، ومنهم من أنكر ذلك وقال : المعروف في الحبال إنما هو الجمل بضم الجيم وتشديد الميم ، وقرئ : " حتى يلج الجمل " .
وثانيها قيل : هي قطع النحاس ، وهو مروي عن عليه السلام علي بن أبي طالب ، ومعظم أهل اللغة لا يعرفونه . وابن عباس
وثالثها : قال الفراء : يجوز أن يكون الجمالات بالضم من الشيء المجمل ، يقال : أجملت الحساب ، وجاء القوم جملة ، أي : مجتمعين ، والمعنى أن هذه الشررة ترتفع كأنها شيء مجموع غليظ أصفر ، وهذا قول الفراء .
ورابعها : قال الفراء : يجوز أن يقال : جمالات بضم الجيم ، جمع جمال بضم الجيم ، وجمال بضم الجيم يكون جمع جمل ، كما يقال : رخل ورخال ورخال .
القراءة الثانية : " جمالة " بكسر الجيم ؛ هي جمع جمل ؛ مثل حجر وحجارة ، قال أبو علي : والتاء إنما لحقت جمالا لتأنيث الجمع ، كما لحقت في فحل وفحالة .
القراءة الرابعة : " جملة " بضم الجيم ، وهي القلس . وقيل : " صفر " لإرادة الجنس . أما قوله : " صفر " فالأكثرون على أن المراد منه سود تضرب إلى الصفرة ، قال الفراء : لا ترى أسود من الإبل إلا وهو مشوب صفرة ، والشرر إذا تطاير فسقط وفيه بقية من لون النار كان أشبه بالجمل الأسود الذي يشوبه شيء من الصفرة ، وزعم بعض العلماء أن المراد هو الصفرة لا السواد ؛ لأن الشرر إنما يسمى شررا ما دام يكون نارا ، ومتى كان نارا كان أصفر ، وإنما يصير أسود إذا انطفأ ، وهناك لا يسمى شررا ، وهذا القول عندي هو الصواب .
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى شبه الشرر في العظم بالقصر ، وفي اللون والكثرة والتتابع وسرعة الحركة بالجمالات الصفر ، وقيل أيضا : إن ابتداء الشرر يعظم فيكون كالقصر ، ثم يفترق فتكون تلك القطع المتفرقة المتتابعة كالجمالات الصفر ، واعلم أنه نقل عن أنه قال في تفسير قوله : ( ابن عباس إنها ترمي بشرر كالقصر ) : إن هذا التشبيه إنما ورد في بلاد العرب ، وقصورهم قصيرة السمك جارية مجرى الخيمة ، فبين تعالى أنها ترمي بشرر كالقصر ، فلما سمع بهذا تصرف فيه وشبهه بالخيمة من الأديم ، وهو قوله : أبو العلاء المعري
حمراء ساطعة الذوائب في الدجى ترمي بكل شرارة كطراف
ثم زعم صاحب الكشاف أنه ذكر ذلك معارضة لهذه الآية ، وأقول : كان الأولى لصاحب الكشاف أن لا يذكر ذلك ، وإذ قد ذكره فلا بد لنا من تحقيق الكلام فيه ، فنقول : تشبيه الشرارة بالطراف يفيد التشبيه في الشكل والعظم ، أما الشكل فمن وجهين :
الأول : أن الشرارة تكون قبل انشعابها كالنقطة من النار ، فإذا انشعبت اتسعت ، فهي كالنقطة التي تتسع ، فهي تشبه الخيمة ، فإن رأسها كالنقطة ، ثم إنها لا تزال تتسع شيئا فشيئا .
الثاني : أن الشرارة كالكرة أو الأسطوانة ، فهي شديدة الشبه بالخيمة المستديرة ، وأما التشبيه بالخيمة في النظم فالأمر ظاهر ، هذا منتهى هذا التشبيه ، وأما وجه القدح فيه فمن وجوه :
الأول : أن لون الشرارة أصفر يشوبها شيء من السواد ، وهذا المعنى حاصل في الجمالات الصفر ، وغير حاصل في الخيمة من الأديم .
الثاني : أن الجمالات متحركة ، والخيمة لا تكون متحركة ، فتشبيه الشرار المتحرك بالجمالات المتحركة أولى .
والثالث : أن الشرارات متتابعة بعضها خلف البعض ، وهذا المعنى حاصل في الجمالات [ ص: 245 ] الصفر ، وغير حاصل في الطراف .
الرابع : أن القصر مأمن الرجل وموضع سلامته ، فتشبيه الشرر بالقصر تنبيه على أنه إنما تولدت آفته من الموضع الذي توقع منه الأمن والسلامة ، وحال الكافر كذلك ؛ فإنه كان يتوقع الخير والسلامة من دينه ، ثم إنه ما ظهرت له آفة ولا محنة إلا من ذلك الدين ، والخيمة ليست مما يتوقع منها الأمن الكلي .
الخامس : أن العرب كانوا يعتقدون أن كل الجمال في ملك الجمال ، وتمام النعم إنما يحصل بملك النعم ، ولهذا قال تعالى : ( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ) [ النحل : 6 ] فتشبيه الشرر بالجمال السود كالتهكم بهم ، كأنه قيل لهم : كنتم تتوقعون من دينكم كرامة ونعمة وجمالا إلا أن ذلك الجمال هو هذه الشرارات التي هي كالجمال ، وهذا المعنى غير حاصل في الطراف .
السادس : أن الجمال إذا انفردت واختلط بعضها بالبعض ، فكل من وقع فيما بين أيديها وأرجلها في ذلك الوقت نال بلاء شديدا وألما عظيما ، فتشبيه الشرارات بها حال تتابعها يفيد حصول كمال الضرر ، والطراف ليس كذلك .
السابع : الظاهر أن القصر يكون في المقدار أعظم من الطراف ، والجمالات الصفر تكون أكثر في العدد من الطراف ، فتشبيه هذه الشرارات بالقصر وبالجمالات يقتضي الزيادة في المقدار وفي العدد ، وتشبيهها بالطراف لا يفيد شيئا من ذلك ، ولما كان المقصود هو التهويل والتخويف كان التشبيه الأول أولى .
الثامن : أن التشبيه بالشيئين في إثبات وصفين أقوى في ثبوت ذينك الوصفين من التشبيه بالشيء الواحد في إثبات ذينك الوصفين ، وبيانه أن من سمع قوله : ( إنها ترمي بشرر كالقصر ) تسارع ذهنه إلى أن المراد إثبات عظم تلك الشرارات ، ثم إذا سمع بعد ذلك قوله : ( كأنه جمالة صفر ) تسارع ذهنه إلى أن المراد كثرة تلك الشرارات وتتابعها ولونها ، أما من سمع أن الشرار كالطراف يبقى ذهنه متوقفا في أن المقصود بالتشبيه إثبات العظم أو إثبات اللون ، فالتشبيه بالطراف كالمجمل ، والتشبيه بالقصر وبالجمالات الصفر كالبيان المفصل المكرر المؤكد ؛ ولما كان المقصود من هذا البيان هو التهويل والتخويف ، فكلما كان بيان وجوه العذاب أتم وأبين كان الخوف أشد ، فثبت أن هذا التشبيه أتم .
التاسع : أنه قال في أول الآية : ( انطلقوا إلى ظل ) والإنسان إنما يكون طيب العيش وقت الانطلاق والذهاب إذا كان راكبا ، وإنما يجد الظل الطيب إذا كان في قصره ، فوقع تشبيه الشرارة بالقصر والجمالات ، كأنه قيل له : مركوبك هذه الجمالات ، وظلك في مثل هذا القصر ، وهذا يجري مجرى التهكم بهم ، وهذا المعنى غير حاصل في الطراف .
العاشر : من المعلوم أن تطاير القصر إلى الهواء أدخل في التعجب من تطاير الخيمة ؛ لأن القصر يكون مركبا من اللبن والحجر والخشب ، وهذه الأجسام أدخل في الثقل والاكتناز من الخيمة المتخذة إما من الكرباس أو من الأديم ، والشيء كلما كان أثقل وأشد اكتنازا كان تطايره في الهواء أبعد ، فكانت النار التي تطير القصر إلى الهواء أقوى من النار التي تطير الطراف في الهواء ، ومعلوم أن المقصود تعظيم أمر النار في الشدة والقوة ، فكان التشبيه بالقصر أولى .
الحادي عشر : وهو أن سقوط القصر على الإنسان أدخل في الإيلام والإيجاع من سقوط الطراف عليه ، فتشبيه تلك الشرارات بالقصر يفيد أن تلك الشرارات إذا ارتفعت في الهواء ثم سقطت على الكافر فإنها تؤلمه إيلاما شديدا ، فصار ذلك تنبيها على أنه لا يزال يسقط عليه من الهواء شرارات كالقصور ، بخلاف وقوع الطراف على الإنسان ؛ فإنه لا يؤلم في الغاية .
الثاني عشر : أن الجمال في أكثر الأمور تكون موقرة ، فتشبيه الشرارات بالجمال تنبيه على أن مع كل واحد من تلك الشرارات أنواعا من البلاء والمحنة لا يحصي عددها إلا الله ، فكأنه قيل : تلك الشرارات كالجمالات الموقرة بأنواع المحنة والبلاء ، وهذا المعنى غير حاصل في الطراف ، فكان التشبيه [ ص: 246 ] بالجمالات أتم .
واعلم أن هذه الوجوه توالت على الخاطر في اللحظة الواحدة ، ولو تضرعنا إلى الله تعالى في طلب الأزيد لأعطانا أي قدر شئنا بفضله ورحمته ، ولكن هذه الوجوه كافية في بيان الترجيح ، والزيادة عليها تعد من الإطناب ، والله أعلم .