( وكل شيء أحصيناه كتابا )
واعلم أنه تعالى لما بين أن فساد حالهم في القوة العملية وفي القوة النظرية بلغ إلى أقصى الغايات وأعظم النهايات بين أن تفاصيل تلك الأحوال في كميتها وكيفيتها معلومة له، وقدر ما يستحق عليه من العقاب معلوم له، فقال : ( وكل شيء أحصيناه كتابا ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الزجاج : ( كل ) منصوب بفعل مضمر يفسره ( أحصيناه ) والمعنى : وأحصينا كل شيء ، وقرأ أبو السمال : (وكل) بالرفع على الابتداء .
المسألة الثانية : قوله : ( وكل شيء أحصيناه ) أي علمنا كل شيء كما هو علما لا يزول ولا يتبدل، ونظيره قوله تعالى : ( أحصاه الله ونسوه ) [المجادلة : 6] واعلم أن هذه الآية تدل على واعلم أن مثل هذه الآية لا تقبل التأويل; وذلك لأنه تعالى ذكر هذا تقريرا لما ادعاه من قوله : ( كونه تعالى عالما بالجزئيات، جزاء وفاقا ) كأنه تعالى يقول : أنا عالم بجميع ما فعلوه، وعالم بجهات تلك الأفعال وأحوالها واعتباراتها [ ص: 18 ] التي لأجلها يحصل استحقاق الثواب والعقاب، فلا جرم لا أوصل إليهم من العذاب إلا قدر ما يكون وفاقا لأعمالهم، ومعلوم أن هذا القدر إنما يتم لو ثبت كونه تعالى عالما بالجزئيات، وإذا ثبت هذا ظهر أن كل من أنكره كان كافرا قطعا .
المسألة الثالثة : قوله : ( أحصيناه كتابا ) فيه وجهان :
أحدهما : تقديره أحصيناه إحصاء، وإنما عدل عن تلك اللفظة إلى هذه اللفظة لأن الكتابة هي النهاية في قوة العلم، ولهذا قال عليه السلام : " " ، فكأنه تعالى قال : وكل شيء أحصيناه إحصاء مساويا في القوة والثبات والتأكيد للمكتوب، فالمراد من قوله : ( كتابا ) تأكيد ذلك الإحصاء والعلم، واعلم أن هذا التأكيد إنما ورد على حسب ما يليق بأفهام أهل الظاهر، فإن المكتوب يقبل الزوال، قيدوا العلم بالكتابة لأنه واجب لذاته . وعلم الله بالأشياء لا يقبل الزوال
القول الثاني : أن يكون قوله : ( كتابا ) حالا في معنى مكتوبا، والمعنى كقوله : ( وكل شيء أحصيناه حال كونه مكتوبا في اللوح المحفوظ، وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ) [يس : 12] أو في صحف الحفظة .