[ ص: 66 ] قوله تعالى : ( فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس ) الكلام في قوله : ( لا أقسم ) قد تقدم في قوله : ( لا أقسم بيوم القيامة ) [ القيامة : 1 ] ، ( بالخنس الجواري الكنس ) فيه قولان : الأول : وهو المشهور ، الظاهرة أنها النجوم الخنس جمع خانس ، والخنوس والانقباض والاستخفاء ، تقول: خنس من بين القوم وانخنس ، وفي الحديث " الشيطان يوسوس إلى العبد فإذا ذكر الله خنس " أي انقبض ولذلك سمي الخناس و( الكنس ) جمع كانس وكانسة ، يقال : كنس إذا دخل الكناس وهو مقر الوحش يقال كنس الظباء في كنسها ، وتكنست المرأة إذا دخلت هودجها تشبه بالظبي إذا دخل الكناس .
ثم اختلفوا في خنوس النجوم وكنوسها على ثلاثة أوجه .
فالقول الأظهر : أن ذلك إشارة إلى رجوع الكواكب الخمسة السيارة واستقامتها ، فرجوعها هو الخنوس ، وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس ، ولا شك أن هذه حالة عجيبة وفيها أسرار عظيمة باهرة .
القول الثاني : ما روي عن علي عليه السلام وعطاء ومقاتل وقتادة أنها هي جميع الكواكب , وخنوسها عبارة عن غيبوبتها عن البصر في النهار ، وكنوسها عبارة عن ظهورها للبصر في الليل أي تظهر في أماكنها كالوحش في كنسها .
والقول الثالث : أن السبعة السيارة تختلف مطالعها ومغاربها على ما قال تعالى : ( برب المشارق والمغارب ) [ المعارج : 40 ] ولا شك أن فيها مطلعا واحدا ومغربا واحدا هما أقرب المطالع والمغارب إلى سمت رءوسنا ، ثم إنها تأخذ في التباعد من ذلك المطلع إلى سائر المطالع طول السنة ، ثم ترجع إليه فخنوسها عبارة عن تباعدها عن ذلك المطلع ، وكنوسها عبارة عن عودها إليه ، فهذا محتمل فعلى القول الأول يكون القسم واقعا بالخمسة المتحيرة ، وعلى القول الثاني يكون القسم واقعا بجميع الكواكب وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرته يكون القسم واقعا بالسبعة السيارة ، والله أعلم بمراده .
والقول الثاني : أن ( بالخنس الجواري الكنس ) وهو قول ابن مسعود أنها بقر الوحش ، وقال والنخعي : هي الظباء ، وعلى هذا الخنس من الخنس في الأنف وهو تقعير في الأنف فإن البقر والظباء أنوفها على هذه الصفة ( الكنس ) جمع كانس وهي التي تدخل الكناس والقول هو الأول ، والدليل عليه أمران : سعيد بن جبير
الأول : أنه قال بعد ذلك : ( والليل إذا عسعس ) وهذا بالنجوم أليق منه ببقر الوحش .
الثاني : أن محل قسم الله كلما كان أعظم وأعلى رتبة كان أولى ، ولا شك أن الكواكب أعلى رتبة من بقر الوحش .
الثالث : أن ( الخنس ) جمع خانس من الخنوس ، وأما جمع خنساء وأخنس من الخنس خنس بالسكون والتخفيف ، ولا يقال : الخنس فيه بالتشديد إلا أن يجعل الخنس في الوحشية أيضا من الخنوس وهو اختفاؤها في الكناس إذا غابت عن الأعين .
قوله تعالى : ( والليل إذا عسعس ) ذكر أهل اللغة أن عسعس من الأضداد ، يقال : عسعس الليل إذا أقبل ، وعسعس إذا أدبر ، وأنشدوا في ورودها بمعنى أدبر قول العجاج :
حتى إذا الصبح لها تنفسا وانجاب عنها ليلها وعسعسا
وأنشد أبو عبيدة في معنى أقبل :
[ ص: 67 ]
مدرجات الليل لما عسعسا
ثم منهم من قال : المراد هاهنا أقبل الليل ، لأن على هذا التقدير يكون القسم واقعا بإقبال الليل وهو قوله : ( إذا عسعس ) وبإدباره أيضا وهو قوله : ( والصبح إذا تنفس ) ومنهم من قال : بل المراد " أدبر " وقوله : ( والصبح إذا تنفس ) أي امتد ضوءه وتكامل فقوله : ( والليل إذا عسعس ) إشارة إلى أول طلوع الصبح ، وهو مثل قوله : ( والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر ) ، وقوله : ( والصبح إذا تنفس ) إشارة إلى تكامل طلوع الصبح فلا يكون فيه تكرار .
وأما قوله تعالى : ( والصبح إذا تنفس ) أي إذا أسفر كقوله : ( والصبح إذا أسفر ) ثم في كيفية المجاز قولان :
أحدهما : أنه إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم ، فجعل ذلك نفسا له على المجاز ، وقيل تنفس الصبح .
والثاني : أنه ، واجتمع الحزن في قلبه ، فإذا تنفس وجد راحة . فهاهنا لما طلع الصبح فكأنه تخلص من ذلك الحزن فعبر عنه بالتنفس وهو استعارة لطيفة . شبه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي جلس بحيث لا يتحرك
واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به أتبعه بذكر المقسم عليه فقال : ( إنه لقول رسول كريم ) وفيه قولان :
الأول : وهو المشهور أن المراد أن جبريل . القرآن نزل به
فإن قيل : هاهنا إشكال قوي وهو أنه حلف أنه قول جبريل ، فوجب علينا أن نصدقه في ذلك ، فإن لم نقطع بوجوب حمل اللفظ على الظاهر ، فلا أقل من الاحتمال ، وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن هذا القرآن يحتمل أن يكون كلام جبريل لا كلام الله ، وبتقدير أن يكون كلام جبريل يخرج عن كونه معجزا ، لاحتمال أن جبريل ألقاه إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الإضلال ، ولا يمكن أن يجاب عنه بأن جبريل معصوم لا يفعل الإضلال ، لأن العلم بعصمة جبريل مستفاد من صدق النبي ، وصدق النبي مفرع على كون القرآن معجزا ، وكون القرآن معجزا يتفرع على عصمةجبريل ، فيلزم الدور وهو محال . والجواب : الذين قالوا : بأن القرآن إنما كان معجزا للصرفة ، إنما ذهبوا إلى ذلك المذهب فرارا من هذا السؤال ؛ لأن الإعجاز على ذلك القول ليس في الفصاحة ، بل في سلب تلك العلوم والدواعي عن القلوب ، وذلك مما لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى .
القول الثاني : أن هذا الذي أخبركم به محمد من أمر الساعة على ما ذكر في هذه السورة ليس بكهانة ولا ظن ولا افتعال ، إنما هو قول جبريل أتاه به وحيا من عند الله تعالى ، واعلم أنه تعالى جبريل هاهنا بصفات ست . وصف
أولها : أنه رسول ولا شك أنه رسول الله إلى الأنبياء فهو رسول وجميع الأنبياء أمته ، وهو المراد من قوله : ( ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ) [ النحل : 2 ] وقال : ( نزل به الروح الأمين على قلبك ) [ الشعراء : 193 ] .
وثانيها : أنه كريم ، ومن كرمه أنه يعطي أفضل العطايا ، وهو المعرفة والهداية والإرشاد .
[ ص: 68 ] وثالثها : قوله : ( ذي قوة ) ثم منهم من حمله على الشدة ، روي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال لجبريل : " ذكر الله قوتك ، فماذا بلغت ؟ قال رفعت قريات قوم لوط الأربع على قوادم جناحي حتى إذا سمع أهل السماء نباح الكلاب وأصوات الدجاج قلبتها " وذكر مقاتل أن شيطانا يقال له الأبيض صاحب الأنبياء قصد أن يفتن النبي - صلى الله عليه وسلم - فدفعه جبريل دفعة رقيقة وقع بها من مكة إلى أقصى الهند ، ومنهم من حمله على القوة في أداء طاعة الله وترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف ، وعلى القوة في معرفة الله وفي مطالعة جلال الله .
ورابعها : قوله تعالى : ( عند ذي العرش مكين ) وهذه العندية ليست عندية المكان ، مثل قوله : ( ومن عنده لا يستكبرون ) [ الأنبياء : 19 ] وليست عندية الجهة بدليل قوله " أنا عند المنكسرة قلوبهم " بل عندية الإكرام والتشريف والتعظيم . وأما ( مكين ) فقال الكسائي : يقال قد مكن فلان عند فلان بضم الكاف مكنا ومكانة ، فعلى هذا المكين هو ذو الجاه الذي يعطي ما يسأل .
وخامسها : قوله تعالى : ( مطاع ثم ) اعلم أن قوله : ( ثم ) إشارة إلى الظرف المذكور ، أعني ( عند ذي العرش ) والمعنى أنه عند الله مطاع في ملائكته المقربين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه ، وقرئ " ثم " تعظيما للأمانة وبيانا لأنها أفضل صفاته المعدودة .
وسادسها : قوله : ( أمين ) أي هو أمين على وحي الله ورسالاته ، قد عصمه الله من الخيانة والزلل .
ثم قال تعالى : ( وما صاحبكم بمجنون ) واحتج بهذه الآية من جبريل على محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنك إذا وازنت بين قوله : ( فضل إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين ) وبين قوله : ( وما صاحبكم بمجنون ) ظهر التفاوت العظيم : ( ولقد رآه بالأفق المبين ) يعني حيث تطلع الشمس في قول الجميع ، وهذا مفسر في سورة النجم ( وما هو على الغيب بضنين ) أي وما محمد على الغيب بظنين والغيب هاهنا القرآن وما فيه من الأنباء والقصص والظنين المتهم يقال : ظننت زيدا في معنى اتهمته ، وليس من الظن الذي يتعدى إلى مفعولين ، والمعنى ما محمد على القرآن بمتهم أي هو ثقة فيما يؤدي عن الله ، ومن قرأ بالضاد فهو من البخل يقال ضننت به أضن أي بخلت ، والمعنى ليس ببخيل فيما أنزل الله ، قال الفراء : يأتيه غيب السماء ، وهو شيء نفيس فلا يبخل به عليكم ، وقال أبو علي الفارسي : المعنى أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ذلك ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلوانا ، واختار أبو عبيدة القراءة الأولى لوجهين :
أحدهما : أن الكفار لم يبخلوه ، وإنما اتهموه فنفي التهمة أولى من نفي البخل .
وثانيها : قوله : ( على الغيب ) ولو كان المراد البخل لقال بالغيب لأنه يقال : فلان ضنين بكذا وقلما يقال على كذا .
ثم قال تعالى : ( وما هو بقول شيطان رجيم ) أهل مكة يقولون : إن هذا القرآن يجيء به شيطان فيلقيه على لسانه ، فنفى الله ذلك ، فإن قيل القول بصحة النبوة موقوف على نفي هذا الاحتمال ، فكيف يمكن نفي هذا الاحتمال بالدليل السمعي ؟ قلنا : بينا أن على القول بالصرفة لا تتوقف صحة النبوة على نفي هذا الاحتمال ، فلا جرم يمكن نفي هذا الاحتمال بالدليل السمعي . كان
[ ص: 69 ] ثم قال تعالى : ( فأين تذهبون ) وهذا استضلال لهم يقال لتارك الجادة اعتسافا : أين تذهب ؟ مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل ، والمعنى أي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم ، قال الفراء : العرب تقول إلى أين تذهب وأين تذهب ، وتقول ذهبت الشام وانطلقت السوق ، واحتج أهل الاعتزال بهذه الآية ووجهه ظاهر .
ثم بين أن القرآن ما هو ، فقال : ( إن هو إلا ذكر للعالمين ) أي هو بيان وهداية للخلق أجمعين .