النوع الرابع : من تفاريع الحشر ، وهو قوله تعالى : ( تعظيم يوم القيامة وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في الخطاب في قوله : ( وما أدراك ) فقال بعضهم : هو خطاب للكافر على وجه الزجر له ، وقال الأكثرون : إنه خطاب للرسول ، وإنما خاطبه بذلك لأنه ما كان عالما بذلك قبل الوحي .
المسألة الثانية : الجمهور على أن التكرير في قوله : ( وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين ) لتعظيم ذلك اليوم ، وقال الجبائي : بل هو لفائدة مجددة ، إذ المراد بالأول أهل النار ، والمراد بالثاني أهل الجنة ، كأنه قال : وما أدراك ما يعامل به الفجار في يوم الدين ؟ ثم ما أدراك ما يعامل به الأبرار في يوم الدين ؟ وكرر يوم الدين تعظيما لما يفعله تعالى من الأمرين بهذين الفريقين .
[ ص: 79 ] المسألة الثالثة : في : ( يوم لا تملك ) قراءتان الرفع والنصب ، أما الرفع ففيه وجهان .
أحدهما : على البدل من يوم الدين .
والثاني : أن يكون بإضمار هو فيكون المعنى هو يوم لا تملك ، وأما النصب ففيه وجوه :
أحدها : بإضمار يدانون لأن الدين يدل عليه .
وثانيها : بإضمار اذكروا .
وثالثها : ما ذكره الزجاج يجوز أن يكون في موضع رفع إلا أنه يبنى على الفتح لإضافته إلى قوله : ( لا تملك ) وما أضيف إلى غير المتمكن قد يبنى على الفتح ، وإن كان في موضع رفع أو جر كما قال :
لم يمنع الشرب منهم غير أن نطقت حمامة في غصون ذات أوقال
فبني غير على الفتح لما أضيف إلى قوله أن نطقت ، قال الواحدي : والذي ذكره الزجاج من البناء على الفتح إنما يجوز عند الخليل ، إذا كانت الإضافة إلى الفعل الماضي ، نحو قولك على حين عاتبت ، أما مع الفعل المستقبل ، فلا يجوز البناء عندهم ، ويجوز ذلك في قول الكوفيين ، وقد ذكرنا هذه المسألة عند قوله : ( وسيبويه هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ) [ المائدة : 119 ] .
ورابعها : ما ذكره أبو علي وهو أن اليوم لما جر في أكثر الأمر ظرفا ترك على حالة الأكثرية ، والدليل عليه إجماع القراء والعرب في قوله : ( منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ) [ الأعراف : 168 ] ولا يرفع ذلك أحد . ومما يقوي النصب قوله : ( وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس ) [ القارعة : 3 - 4 ] وقوله : ( يسألون أيان يوم الدين يوم هم على النار يفتنون ) [ الذاريات : 13 ، 12 ] فالنصب في ( يوم لا تملك ) مثل هذا .
المسألة الرابعة : تمسكوا في نفي بقوله : ( الشفاعة للعصاة يوم لا تملك نفس لنفس شيئا ) وهو كقوله تعالى : ( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) [ البقرة : 123 ] والجواب : عنه قد تقدم في سورة البقرة .
المسألة الخامسة : أن أهل الدنيا كانوا يتغلبون على الملك ويعين بعضهم بعضا في أمور ، ويحمي بعضهم بعضا ، فإذا كان يوم القيامة بطل ملك بني الدنيا وزالت رياستهم ، فلا يحمي أحد أحدا ، ولا يغني أحد عن أحد ، ولا يتغلب أحد على ملك ، ونظيره قوله : ( والأمر يومئذ لله ) وقوله : ( مالك يوم الدين ) [ الفاتحة : 4 ] وهو وعيد عظيم من حيث إنه عرفهم أنه لا يغني عنهم إلا البر والطاعة يومئذ دون سائر ما كان قد يغني عنهم في الدنيا من مال وولد وأعوان وشفعاء . قال الواحدي : والمعنى أن الله تعالى لم يملك في ذلك اليوم أحدا شيئا من الأمور ، كما ملكهم في دار الدنيا . قال الواسطي : في قوله : ( يوم لا تملك نفس لنفس شيئا ) إشارة إلى فناء غير الله تعالى ، وهناك تذهب الرسالات والكلمات والغايات ، فمن كانت صفته في الدنيا كذلك كانت دنياه أخراه .
وأما قوله : ( والأمر يومئذ لله ) فهو إشارة إلى أن ، والأمر كذلك في الأزل وفي اليوم وفي الآخرة ، ولم يتغير من حال إلى حال ، فالتفاوت عائد إلى أحوال الناظر ، لا إلى أحوال المنظور إليه ، فالكاملون لا تتفاوت أحوالهم بحسب تفاوت الأوقات ، كما قال : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ، البقاء والوجود لله وكحارثة لما أخبر بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " كأني أنظر وكأني وكأني " والله سبحانه وتعالى أعلم ، والحمد لله رب العالمين .