( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت )
قوله تعالى ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت )
اعلم أنه تعالى لما حكم بمجيء يوم القيامة وقسم أهل القيامة إلى قسمين الأشقياء والسعداء ، ووصف أحوال الفريقين وعلم أنه لا سبيل إلى إثبات ذلك إلا بواسطة إثبات الصانع الحكيم ، لا جرم أتبع ذلك بذكر هذه الدلالة فقال : ( أفلا ينظرون إلى الإبل ) وجه الاستدلال بذلك على صحة المعاد أنها تدل على وجود الصانع الحكيم ، ومتى ثبت ذلك فقد ثبت القول . بصحة المعاد
أما الأول : فلأن الأجسام متساوية في الجسمية فاختصاص كل واحد منها بالوصف الذي لأجله امتاز على الآخر ، لا بد وأن يكون لتخصيص مخصص وإيجاد قادر ، ولما رأينا هذه الأجسام مخلوقة على وجه الإتقان والإحكام علمنا أن ذلك الصانع عالم ، ولما علمنا أن ذلك الصانع لا بد وأن يكون مخالفا لخلقه في نعت الحاجة والحدوث والإمكان علمنا أنه غني ، فهذا يدل على أن فوجب أن يكون في غاية الحكمة ، ثم إنا نرى الناس بعضهم محتاجا إلى البعض ، فإن الإنسان الواحد لا يمكنه القيام بمهمات نفسه ، بل لا بد من بلدة يكون كل واحد من أهلها مشغولا بمهم آخر حتى ينتظم من مجموعهم مصلحة كل واحد منهم ، وذلك [ ص: 143 ] الانتظام لا يحسن إلا مع التكليف المشتمل على الوعد والوعيد ، ذلك لا يحصل إلا بالبعث والقيامة وخلق الجنة والنار فثبت أن للعالم صانعا قادرا عالما غنيا فلهذا السبب ذكر الله دلالة التوحيد في آخر هذه السورة ، فإن قيل : فأي مجانسة بين الإبل والسماء والجبال والأرض ، ثم لم بدأ بذكر الإبل ؟ إقامة الدلالة على الصانع الحكيم توجب القول بصحة البعث والقيامة
قلنا : فيه وجهان :
الأول : أن جميع المخلوقات متساوية في هذه الدلالة وذكر جميعها غير ممكن لكثرتها وأي واحد منها ذكر دون غيره كان هذا السؤال عائدا ، فوجب الحكم بسقوط هذا السؤال على جميع التقادير ، وأيضا فلعل الحكمة في ذكر هذه الأشياء التي هي غير متناسبة التنبيه على أن هذا الوجه من الاستدلال غير مختص بنوع دون نوع بل هو عام في الكل على ما قال : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) [ الإسراء : 44 ] ولو ذكر غيرها لم يكن الأمر كذلك لا جرم ذكر الله تعالى أمورا غير متناسبة بل متباعدة جدا ، تنبيها على أن جميع الأجسام العلوية والسفلية صغيرها وكبيرها حسنها وقبيحها متساوية في الدلالة على الصانع الحكيم ، فهذا وجه حسن معقول وعليه الاعتماد .
الوجه الثاني : وهو أن نبين ما في كل واحد من هذه الأشياء من المنافع والخواص الدالة على الحاجة إلى الصانع المدبر ، ثم نبين أنه كيف يجانس بعضها بعضا .
أما المقام الأول : فنقول : الإبل له خواص منها ، فتارة يقتنى ليؤكل لحمه وتارة ليشرب لبنه وتارة ليحمل الإنسان في الأسفار وتارة لينقل أمتعة الإنسان من بلد إلى بلد وتارة ليكون له به زينة وجمال ، وهذه المنافع بأسرها حاصلة في الإبل ، وقد أبان الله عز وجل عن ذلك بقوله : ( أنه تعالى جعل الحيوان الذي يقتنى أصنافا شتى أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ) [ يس : 72 ] ، وقال : ( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ) [ النحل : 7 ] وإن شيئا من سائر الحيوانات لا يجتمع فيه هذه الخصال فكان اجتماع هذه الخصال فيه من العجائب .
وثانيها : أنه في كل واحد من هذه الخصال أفضل من الحيوان الذي لا يوجد فيه إلا تلك الخصلة لأنها إن جعلت حلوبة سقت فأروت الكثير ، وإن جعلت أكولة أطعمت وأشبعت الكثير ، وإن جعلت ركوبة أمكن أن يقطع بها من المسافات المديدة ما لا يمكن قطعه بحيوان آخر ، وذلك لما ركب فيها من قوة احتمال المداومة على السير والصبر على العطش والاجتزاء من العلوفات بما لا يجتزئ حيوان آخر ، وإن جعلت حملة استغلت بحمل الأحمال الثقيلة التي لا يستقل بها سواها ، ومنها أن هذا الحيوان كان أعظم الحيوانات وقعا في قلب العرب ، ولذلك فإنهم جعلوا دية قتل الإنسان إبلا ، وكان الواحد من ملوكهم إذا أراد المبالغة في إعطاء الشاعر الذي جاءه من المكان البعيد أعطاه مائة بعير ، لأن امتلاء العين منه أشد من امتلاء العين من غيره ، ولهذا قال تعالى : ( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ) [ النحل : 6 ] ومنها أني كنت مع جماعة في مفازة فضللنا الطريق فقدموا جملا وتبعوه فكان ذلك الجمل ينعطف من تل إلى تل ومن جانب إلى جانب ، والجميع كانوا يتبعونه حتى وصل إلى الطريق بعد زمان طويل فتعجبنا من قوة تخيل ذلك بالحيوان أنه بالمرة الواحدة كيف انحفظت في خياله صورة تلك المعاطف حتى أن الذي عجز جمع من العقلاء إلى الاهتداء إليه فإن ذلك الحيوان اهتدى إليه ، ومنها أنها مع كونها في غاية القوة على العمل مباينة لغيرها في الانقياد والطاعة لأضعف الحيوانات كالصبي الصغير ، ومباينة لغيرها أيضا في أنها يحمل عليها وهي باركة ثم تقوم ، فهذه الصفات [ ص: 144 ] الكثيرة الموجودة فيها توجب على العاقل أن ينظر في خلقتها وتركيبها ويستدل بذلك على وجود الصانع الحكيم سبحانه ، ثم إن العرب من أعرف الناس بأحوال الإبل في صحتها وسقمها ومنافعها ومضارها فلهذه الأسباب حسن من الحكيم تعالى أن يأمر بالتأمل في خلقتها .