( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية )
قوله تعالى : ( ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية )
اعلم أنه تعالى لما وصف حال من اطمأن إلى الدنيا ، وصف حال من اطمأن إلى معرفته وعبوديته ، فقال : ( ولا تقتلوا النفس ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تقدير هذا الكلام : يقول الله للمؤمن : ( ولا تقتلوا النفس ) فإما أن يكلمه إكراما له كما كلم موسى عليه السلام أو على لسان ملك ، وقال القفال : هذا وإن كان أمرا في الظاهر لكنه خبر في المعنى ، والتقدير أن النفس إذا كانت مطمئنة رجعت إلى الله ، وقال الله لها : فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ) قال : ومجيء الأمر بمعنى الخبر كثير في كلامهم ، كقولهم : إذا لم تستح فاصنع ما شئت . (
المسألة الثانية : الاطمئنان هو الاستقرار والثبات ، وفي كيفية هذا الاستقرار وجوه :
أحدها : أن تكون متيقنة بالحق ، فلا يخالجها شك ، وهو المراد من قوله : ( ولكن ليطمئن قلبي ) [ البقرة : 260 ] .
وثانيها : النفس الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن ، ويشهد لهذا التفسير قراءة يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة ، وهذه الخاصة قد تحصل عند الموت عند سماع قوله : ( أبي بن كعب ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة ) [ فصلت : 30 ] وتحصل عند البعث ، وعند دخول الجنة لا محالة .
وثالثها : وهو تأويل مطابق للحقائق [ ص: 161 ] العقلية ، فنقول : القرآن والبرهان تطابقا على أن هذا ، أما القرآن فقوله : ( الاطمئنان لا يحصل إلا بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) [ الرعد : 28 ] وأما البرهان فمن وجهين :
الأول : أن القوة العاقلة إذا أخذت تترقى في سلسلة الأسباب والمسببات ، فكلما وصل إلى سبب يكون هو ممكنا لذاته طلب العقل له سببا آخر ، فلم يقف العقل عنده ، بل لا يزال ينتقل من كل شيء إلى ما هو أعلى منه ، حتى ينتهي في ذلك الترقي إلى واجب الوجود لذاته مقطع الحاجات ومنتهى الضرورات ، فلما وقفت الحاجة دونه وقف العقل عنده واطمأن إليه ، ولم ينتقل عنه إلى غيره ، فإذا كلما كانت القوة العاقلة ناظرة إلى شيء من الممكنات ملتفة إليه استحال أن تستقر عنده ، وإذا نظرت إلى جلال واجب الوجود ، وعرفت أن الكل منه استحال أن تنتقل عنه ، فثبت أن الاطمئنان لا يحصل إلا بذكر واجب الوجود .
الثاني : أن البقاء والقوة إلا بإمداد الله ، وغير المتناهي لا يصير مجبورا بالمتناهي ، فلا بد في مقابلة حاجة العبد التي لا نهاية لها من كمال الله الذي لا نهاية له ، حتى يحصل الاستقرار ، فثبت أن كل من آثر معرفة الله لا لشيء غير الله فهو غير مطمئن ، وليست نفسه نفسا مطمئنة ، أما حاجات العبد غير متناهية وكل ما سوى الله تعالى فهو متناهي ، وكل من كان كذلك كان أنسه بالله وشوقه إلى الله وبقاؤه بالله وكلامه مع الله ، فلا جرم يخاطب عند مفارقته الدنيا بقوله : ( من آثر معرفة الله لشيء سواه فنفسه هي النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية ) وهذا كلام لا ينتفع الإنسان به إلا إذا كان كاملا في القوة الفكرية الإلهية أو في التجريد والتفريد .
المسألة الثالثة : اعلم أن الله تعالى ذكر مطلق النفس في القرآن فقال : ( ونفس وما سواها ) [ الشمس : 7 ] وقال : ( تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ) [ المائدة : 116 ] وقال : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) [ السجدة : 17 ] وتارة وصفها بكونها أمارة بالسوء ، فقال : ( إن النفس لأمارة بالسوء ) [ يوسف : 53 ] وتارة بكونها لوامة ، فقال : ( بالنفس اللوامة ) [ القيامة : 2 ] وتارة بكونها مطمئنة كما في هذه الآية . واعلم أن نفس ذاتك وحقيقتك وهي التي تشير إليها بقولك : ( أنا ) حين تخبر عن نفسك بقولك فعلت ورأيت وسمعت وغضبت واشتهيت وتخيلت وتذكرت ، إلا أن المشار إليه بهذه الإشارة ليس هو هذه البنية لوجهين :
الأول : أن المشار إليه بقولك : ( أنا ) قد يكون معلوما حال ما تكون هذه البنية المخصوصة غير معلومة ، والمعلوم غير ما هو غير معلوم .
والثاني : أن هذه البنية متبدلة الأجزاء والمشار إليه بقولك : ( أنا ) غير متبدل ، فإني أعلم بالضرورة أني أنا الذي كنت موجودا قبل هذا اليوم بعشرين سنة ، والمتبدل غير ما هو غير متبدل ، فإذا ليست النفس عبارة عن هذه البنية ، وتقول : قال قوم إن النفس ليست بجسم لأنا قد نعقل المشار إليه بقوله : ( أنا ) حال ما أكون غافلا عن الجسم الذي حقيقته المختص بالحيز الذاهب في الطول والعرض والعمق . والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم ، وجواب المعارضة بالنفس مذكور في كتابنا المسمى بلباب الإشارات ، وقال آخرون : بل هو جوهر جسماني لطيف صاف بعيد عن مشابهة الأجرام العنصرية نوراني سماوي مخالف بالماهية لهذه الأجسام السفلية ، فإذا صارت مشابكة لهذا البدن الكثيف صار البدن حيا وإن فارقته صار البدن ميتا ، وعلى التقدير الأول يكون وصفها بالمجيء والرجوع بمعنى التدبير وتركه ، وعلى التقدير الثاني يكون ذلك الوصف حقيقا .
المسألة الرابعة : من القدماء من زعم أن النفوس أزلية ، واحتجوا بهذه الآية وهي قوله : ( ارجعي إلى ربك ) فإن هذا إنما يقال لما كان موجودا قبل هذا البدن . [ ص: 162 ]
واعلم أن هذا الكلام يتفرع على أن هذا الخطاب متى يوجد ؟ وفيه وجهان :
الأول : أنه إنما يوجد عند الموت ، وههنا تقوى حجة القائلين بتقدم الأرواح على الأجساد ، إلا أنه لا يلزم من تقدمها عليها قدمها .
الثاني : أنه إنما يوجد عند البعث والقيامة ، والمعنى : ارجعي إلى ثواب ربك ، فادخلي في عبادي ، أي ادخلي في الجسد الذي خرجت منه .
المسألة الخامسة : المجسمة تمسكوا بقوله : ( إلى ربك ) وكلمة " إلى " لانتهاء الغاية وجوابه : إلى حكم ربك ، أو إلى ثواب ربك أو إلى إحسان ربك والجواب الحقيقي المفرع على القاعدة العقلية التي قررناها : أن القوة العقلية بسيرها العقلي تترقى من موجود إلى موجود آخر ، ومن سبب إلى سبب حتى تنتهي إلى حضرة واجب الوجود ، فهناك انتهاء الغايات وانقطاع الحركات .
أما قوله تعالى : ( راضية مرضية ) فالمعنى : راضية بالثواب مرضية عنك في الأعمال التي عملتها في الدنيا ، ويدل على صحة هذا التفسير ، ما روي أن رجلا قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات ، فقال أبو بكر : ما أحسن هذا فقال عليه الصلاة والسلام : " أما إن الملك سيقولها لك " .