( ولسوف يعطيك ربك فترضى )
قوله تعالى : ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) واعلم اتصاله بما تقدم من وجهين :
الأول : هو أنه تعالى لما بين أن الآخرة " خير له من الأولى " ولكنه لم يبين أن ذلك التفاوت إلى أي حد يكون ، فبين بهذه الآية مقدار ذلك التفاوت ، وهو أنه ينتهي إلى غاية ما يتمناه الرسول ويرتضيه .
الوجه الثاني : كأنه تعالى لما قال : ( وللآخرة خير لك من الأولى ) فقيل ولم قلت إن الأمر كذلك ، فقال : لأنه يعطيه كل ما يريده وذلك مما لا تتسع الدنيا له ، فثبت أن الآخرة خير له من الأولى ، واعلم أنه إن حملنا هذا الوعد على الآخرة فقد يمكن حمله على المنافع ، وقد يمكن حمله على التعظيم ، أما المنافع ، فقال : ألف قصر في الجنة من لؤلؤ أبيض ترابهم المسك وفيها ما يليق بها ، وأما التعظيم فالمروي عن ابن عباس عليه السلام علي بن أبي طالب أن هذا هو الشفاعة في الأمة ، يروى أنه عليه السلام لما نزلت هذه الآية قال : وابن عباس إذا لا أرضى وواحد من أمتي في النار ، واعلم أن الحمل على الشفاعة متعين ، ويدل عليه وجوه :
أحدها : أنه تعالى أمره في الدنيا بالاستغفار فقال : ( واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) [ محمد : 19 ] فأمره بالاستغفار ، عبارة عن طلب المغفرة ، ومن طلب شيئا فلا شك أنه لا يريد الرد ولا يرضى به وإنما [ ص: 193 ] يرضى بالإجابة ، وإذا ثبت أن الذي يرضاه الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإجابة لا الرد ، ودلت هذه الآية على أنه تعالى يعطيه كل ما يرتضيه . علمنا أن هذه الآية دالة على والاستغفار . الشفاعة في حق المذنبين
والثاني : وهو أن مقدمة الآية مناسبة لذلك كأنه تعالى التفسير يقول : لا أودعك ولا أبغضك بل لا أغضب على أحد من أصحابك وأتباعك وأشياعك طلبا لمرضاتك وتطييبا لقلبك ، فهذا أوفق لمقدمة الآية .
والثالث : الأحاديث الكثيرة الواردة في الشفاعة دالة على أن رضا الرسول عليه الصلاة والسلام في العفو عن المذنبين ، وهذه الآية دلت على أنه تعالى يفعل كل ما يرضاه الرسول ، فتحصل من مجموع الآية والخبر ، وعن حصول الشفاعة عليه السلام أنه قال : رضاء جدي أن لا يدخل النار موحد ، وعن جعفر الصادق : أهل القرآن يقولون : أرجى آية قوله : ( الباقر ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ) [الزمر : 53] وإنا أهل البيت نقول : أرجى آية قوله : ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) والله إنها الشفاعة ليعطاها في أهل لا إله إلا الله حتى يقول : رضيت ، هذا كله إذا حملنا الآية على أحوال الآخرة ، أما لو حملنا هذا الوعد على أحوال الدنيا فهو إشارة إلى ما أعطاه الله تعالى من الظفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة ودخول الناس في الدين أفواجا ، والغلبة على قريظة والنضير وإجلائهم وبث عساكره وسراياه في بلاد العرب ، وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن ، و[ما] هدم بأيديهم من ممالك الجبابرة ، وأنهبهم من كنوز الأكاسرة ، وما قذف في أهل الشرق والغرب من الرعب وتهييب الإسلام وفشو الدعوة ، واعلم أن الأولى حمل الآية على خيرات الدنيا والآخرة ، وههنا سؤالات :
السؤال الأول : لم لم يقل : يعطيكم مع أن هذه السعادات حصلت للمؤمنين أيضا ؟
الجواب : لوجوه :
أحدها : أنه المقصود وهم أتباع .
وثانيها : أني إذا أكرمت أصحابك فذاك في الحقيقة إكرام لك ، لأني أعلم أنك بلغت في الشفقة عليهم إلى حيث تفرح بإكرامهم فوق ما تفرح بإكرام نفسك ، ومن ذلك حيث تقول الأنبياء : نفسي نفسي ، أي ابدأ بجزائي وثوابي قبل أمتي ، لأن طاعتي كانت قبل طاعة أمتي ، وأنت تقول : أمتي أمتي ، أي ابدأ بهم ، فإن سروري أن أراهم فائزين بثوابهم .
وثالثها : أنك عاملتني معاملة حسنة ، فإنهم حين شجوا وجهك ، قلت : " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " وحين شغلوك يوم الخندق عن الصلاة ، قلت : " " فتحملت الشجة الحاصلة في وجه جسدك ، وما تحملت الشجة الحاصلة في وجه دينك ، فإن وجه الدين هو الصلاة ، فرجحت حقي على حقك ، لا جرم فضلتك فقلت : من ترك الصلاة سنين ، أو حبس غيره عن الصلاة سنين لا أكفره ، ومن آذى شعرة من شعراتك ، أو جزءا من نعلك أكفره . اللهم املأ بطونهم نارا
السؤال الثاني : ولسوف ) ولم لم يقل : وسيعطيك ربك ؟ ما الفائدة في قوله : (
الجواب : فيه فوائد :
إحداها : أنه يدل على أنه ما قرب أجله ، بل يعيش بعد ذلك زمانا .
وثانيها : أن المشركين لما قالوا : ودعه ربه وقلاه فالله تعالى رد عليهم بعين تلك اللفظة ، فقال : ( ما ودعك ربك وما قلى ) ثم قال المشركون : سوف يموت محمد ، فرد الله عليهم ذلك بهذه اللفظة فقال : ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) .
السؤال الثالث : كيف يقول الله : ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) ؟
الجواب : هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام جبريل عليه السلام معه ، لأنه كان شديد الاشتياق إليه وإلى كلامه كما ذكرنا ، فأراد الله تعالى أن يكون هو المخاطب له بهذه البشارات .
[ ص: 194 ] السؤال الرابع : ما هذه اللام الداخلة على سوف ؟ الجواب : قال صاحب "الكشاف" : هي لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة ، والمبتدأ محذوف تقديره : ولأنت سوف يعطيك ربك والدليل على ما قلنا أنها إما أن تكون لام القسم ، أو لام الابتداء ، ولام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد ، فبقي أن تكون لام ابتداء ، ولام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة من المبتدأ والخبر ، فلا بد من تقدير مبتدأ وخبر ، وأن يكون أصله : ولأنت سوف يعطيك ، فإن قيل : ما معنى الجمع بين حرفي التوكيد والتأخير ؟ قلنا معناه : أن العطاء كائن لا محالة ، وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة .