( 265 ) مسألة : قال : وأكل لحم الجزور وجملة ذلك أن على كل حال نيئا ومطبوخا ، عالما كان أو جاهلا . وبهذا قال أكل لحم الإبل ينقض الوضوء جابر بن سمرة ومحمد بن إسحاق وإسحاق وأبو خيثمة ويحيى بن يحيى ، وهو أحد قولي وابن المنذر . قال الشافعي : ذهب إلى هذا عامة أصحاب الحديث . الخطابي
وقال الثوري ومالك ، وأصحاب الرأي : لا ينقض الوضوء بحال ; لأنه روي عن والشافعي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { ابن عباس } وروي عن : الوضوء مما يخرج لا مما يدخل ، قال : { جابر } رواه كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار أبو داود . ولأنه مأكول أشبه سائر المأكولات . وقد روي عن أنه قال : في الذي يأكل من لحوم الإبل : إن كان لا يعلم ليس عليه وضوء ، وإن كان الرجل قد علم وسمع ، فهذا عليه واجب ; لأنه قد علم ، فليس هو كمن لا يعلم ولا يدري . قال أبي عبد الله : وعلى هذا استقر قول الخلال في هذا الباب . أبي عبد الله
ولنا : ما روى قال : { البراء بن عازب } رواه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الإبل ، فقال : توضئوا منها وسئل عن لحوم الغنم ، فقال : لا يتوضأ منها مسلم وأبو داود ، وروى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله أخرجه جابر بن سمرة وروى الإمام مسلم ، بإسناده ، عن أحمد ، وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أسيد بن حضير } توضئوا من لحوم الإبل ، ولا تتوضئوا من لحوم الغنم .
وروى عن ابن ماجه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ، قال عبد الله بن عمرو أحمد ، وإسحاق وابن راهويه : فيه حديثان صحيحان عن النبي صلى الله عليه وسلم ; حديث وحديث البراء . وحديثهم عن جابر بن سمرة لا أصل له ، وإنما هو من قول ابن عباس ، موقوف عليه ، ولو صح لوجب تقديم حديثنا عليه ; لكونه أصح منه وأخص والخاص يقدم على العام ، وحديث ابن عباس لا يعارض حديثنا أيضا ; لصحته وخصوصه . فإن قيل : فحديث جابر متأخر ، فيكون ناسخا . جابر
قلنا : لا يصح النسخ به لوجوه أربعة ; أحدها ، أن الأمر بالوضوء من لحوم الإبل متأخر عن نسخ الوضوء مما مست النار ، أو مقارن له ; بدليل أنه قرن الأمر بالوضوء من لحوم الإبل بالنهي عن الوضوء من لحوم الغنم ، وهي مما مست النار فإما أن يكون النسخ حصل بهذا النهي ، وإما أن يكون بشيء قبله ; فإن كان به ، فالأمر بالوضوء من لحوم الإبل مقارن لنسخ الوضوء مما غيرت النار فكيف يجوز أن يكون منسوخا به ؟ ومن شروط النسخ تأخر الناسخ ، وإن كان النسخ قبله ، لم يجز أن ينسخ بما قبله .
الثاني ، أن أكل لحوم الإبل إنما نقض ; لكونه من لحوم الإبل ، لا لكونه مما مست النار ، ولهذا ينقض [ ص: 122 ] وإن كان نيئا ، فنسخ إحدى الجهتين لا يثبت به نسخ الجهة الأخرى ، كما لو حرمت المرأة للرضاع ، ولكونها ربيبة ، فنسخ التحريم بالرضاع لم يكن نسخا لتحريم الربيبة .
الثالث ، أن خبرهم عام وخبرنا خاص ، والعام لا ينسخ به الخاص ; لأن من شروط النسخ تعذر الجمع ، والجمع بين الخاص والعام ممكن بتنزيل العام على ما عدا محل التخصيص .
الرابع : أن خبرنا صحيح مستفيض ، ثبتت له قوة الصحة والاستفاضة والخصوص ، وخبرهم ضعيف ; لعدم هذه الوجوه الثلاثة فيه ، فلا يجوز أن يكون ناسخا له . فإن قيل : الأمر بالوضوء في خبركم يحتمل الاستحباب ، فنحمله عليه . ويحتمل أنه أراد بالوضوء قبل الطعام وبعده غسل اليدين ; لأن الوضوء إذا أضيف إلى الطعام ، اقتضى غسل اليد ، كما كان عليه السلام يأمر بالوضوء قبل الطعام وبعده ، وخص ذلك بلحم الإبل ; لأن فيه من الحرارة والزهومة ما ليس في غيره .
قلنا أما الأول فمخالف للظاهر من ثلاثة أوجه : أحدها ، أن مقتضى الأمر الوجوب . الثاني ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن حكم هذا اللحم ، فأجاب بالأمر بالوضوء منه فلا يجوز حمله على غير الوجوب ; لأنه يكون تلبيسا على السائل ، لا جوابا . الثالث ، أنه عليه السلام قرنه بالنهي عن الوضوء من لحوم الغنم ، والمراد بالنهي هاهنا نفي الإيجاب لا التحريم ، فيتعين حمل الأمر على الإيجاب ، ليحصل الفرق .
وأما الثاني فلا يصح لوجوه أربعة :
أحدها : أنه يلزم منه حمل الأمر على الاستحباب ، فإن غسل اليد بمفرده غير واجب ، وقد بينا فساده .
الثاني : أن الوضوء إذا جاء على لسان الشارع ، وجب حمله على الموضوع الشرعي دون اللغوي ; لأن الظاهر منه ، أنه إنما يتكلم بموضوعاته .
الثالث : أنه خرج جوابا لسؤال السائل عن حكم الوضوء من لحومها ، والصلاة في مباركها فلا يفهم من ذلك سوى الوضوء المراد للصلاة .
الرابع : أنه لو أراد غسل اليد لما فرق بينه وبين لحم الغنم ; فإن غسل اليد منهما مستحب ولهذا قال : " من بات وفي يده ريح غمر فأصابه شيء ، فلا يلومن إلا نفسه " . وما ذكره من زيادة الزهومة فأمر يسير ، لا يقتضي التفريق . والله أعلم .
ثم لا بد من دليل نصرف به اللفظ عن ظاهره ويجب أن يكون الدليل له من القوة بقدر قوة الظواهر المتروكة ، وأقوى منها ، وليس لهم دليل ، وقياسهم فاسد ; فإنه طردي لا معنى فيه ، وانتفاء الحكم في سائر المأكولات لانتفاء المقتضي ، لا لكونه مأكولا ، فلا أثر لكونه مأكولا ، ووجوده كعدمه .
ومن العجب أن مخالفينا في هذه المسألة ، أوجبوا الوضوء بأحاديث ضعيفة تخالف الأصول ; أوجبه بالقهقهة في الصلاة دون خارجها ، بحديث من مراسيل فأبو حنيفة أبي العالية ومالك أوجباه بمس الذكر ، بحديث مختلف فيه ، معارض بمثله دون مس بقية الأعضاء ، وتركوا هذا الحديث الصحيح الذي لا معارض له ، مع بعده عن التأويل ، وقوة الدلالة فيه ، لمخالفته لقياس طردي . والشافعي