الفصل الرابع: محنة اللغة العربية والأخطار التي تكتنفها
من عهد بعيد والعرب لا يقومون بواجبهم تجاه لغة الوحي، ولا عذر لهم في ذلك عند الله ولا بين الناس...
إن المصريين والشاميين وغيرهم، تركوا لغاتهم الأولى وآثروا لغة القرآن، أي: إن حبهم للإسلام هـو الذي عربهم، فهجروا دينا إلى دين، وتركوا لغة إلى أخرى..
وإذا كان للعرب فضل فهو أنهم حملوا الإسلام إلى العالم، وبلغوه بشجاعة وبسالة فائقتين، لم تعرفا عن أتباع نبي من قبل، إن أصحاب عيسى [ ص: 87 ] عليه السلامعجزوا عن مثل هـذا الصنيع، ومكنوا رجلا يهوديا، كبولس أن يحول الرسالة عن غايتها، وأن يزحزح دين عيسى عليه السلام عن قواعده الأولى..
ويجب أن نثني على العرب لأنهم صانوا بدقة، وبلغوا بأمانة، وقدموا أرواحهم فدى لما يعتقدون..
لكن العرب بعد ذلك تركوا الدين واللغة ودائع لدى غيرهم، فلم ينهضوا بنشر اللغة، ولم يبذلوا جهدا يذكر في شرح قواعدها وآدابها للآخرين! واضطر الأعاجم إلى النهوض بهذا العبء، فكانوا علماء النحو والصرف والبلاغة بفنونها الثلاثة: المعاني، والبيان، والبديع..
وإذا كان المسلمون من غرب آسيا وشمال أفريقية قد استعربوا بالإسلام فإن تعميم ذلك على سكان الأرض متعذر، وكان يجب على الجنس العربي أن يبذل جهودا شاقة في توسيع دائرة العربية، حتى تجتذب الهنود والأتراك والفرس والأندونيسيين.. إلخ.
ونحن نسجل بحزن أنه لم يبذل جهد يذكر في تعريب الأتراك، وهم الجنس الحاكم طيلة ستة قرون، وأن الإسلام دخل البلقان، ولم تدخله اللغة، فخرج تاركا آثارا مهتزة، وأن جنوب آسيا وشرقها كذلك...
والعرب هـم سبع المسلمين فقط، وواجبهم تعليم لغتهم لإخوان العقيدة، بل واجبهم نشر لغتهم في أقطار الأرض كلها، لأن رسالتهم عالمية، وفرض عليهم أن يمهدوا الطريق إليها...
قد تقول: إن العرب بدعوتهم إلى الإسلام يدعون ضمنا إلى تعلم العربية، لغة الوحي، وأسلوب المناجاة بين الله وخلقه في الصلوات المكتوبات..
ونقول: إن أصحاب الرسالات لا يخدمون أنفسهم بالدلالات الضمنية، [ ص: 88 ] واللغة العربية لغة متشعبة القواعد، وتعليمها يحتاج إلى معاناة ومشقة، وعلينا أن نخترع طرقا لتيسير قواعدها وضبط أصواتها، ونحن نرى الإنكليز في عصرنا يفعلون العجب في تعميم لغتهم، ويبتكرون الحيل الطريفة لتحبيبها إلى النفوس حتى أصبحت الإنجليزية لغة العالم، ولغة العلم معا..
أما نحن فلا نفعل شيئا من ذلك حتى غزينا في عقر دارنا، وأخذت اللغات الأخرى تغير علينا، وتكتسح لغتنا في مواطنها الأولى.