إفراط... وتفريط..
والخلاف الفقهي لا يوهي بين المؤمنين أخوة، ولا يحدث وقيعة! وهؤلاء يجعلون من الحبة قبة، ومن الخلاف الفرعي أزمة.
والخلاف إذا نشب يكون لأسباب علمية وجيهة، وهؤلاء تكمن وراء خلافاتهم علل تستحق الكشف!
كتب أحدهم ردا علي جاء فيه أن الدعوة كانت تسبق القتال في صدر الإسلام، ثم نسخ ذلك وأمسى القتال يقع دون حاجة إلى دعوة تسبقه! وساق حديثا لم يحسن فهمه! وبدت لي خلال السطور المكتوبة صورة المؤلف المتحمس، إنها صورة قاطع طريق يشن الغارات على الناس باسم الدين..!!
ولم يكتف المسكين بتدوين هـرائه حتى ضم إليه سعاية إلى أولى الأمر بأني أسأت إلى الملك عبد العزيز رحمه الله (!) هـل ذلك مسلك الأتقياء الذين يخدمون التراث النبوي؟
إن التدين يوم يفقد طيبة القلب، ودماثة الأخلاق، ومحبة الخلائق يكون لعنة على البلاد والعباد.. والغريب إن التطرف لا يقع في مزيد من الخدمات الاجتماعية، ولا في مزيد من مظاهر الإيثار والفضل، إنه يقع في الحرص البالغ على الأمور الخلافية كالتنطع في مكان وضع اليدين أو طريقة وضع الرجلين خلال الصلاة! [ ص: 120 ]
والاهتمام الهائل هـنا تقابله قلة اكتراث ببناء دولة الإسلام الغاربة، والإقبال على تجميع العناصر التي لا بد منها لإقامة حضارتنا واستعادة كياننا..
والمجال المستحب للغالين في دينهم ينفسح عندما ينظرون في ذنوب الناس، إنهم يسارعون إلى الحكم بالفسق أو الكفر وكأن المرء عندهم مذنب حتى تثبت براءته، على عكس القاعدة الإسلامية..
ومنذ أيام ثار جدل حول تارك الصلاة كسلا، فلم يذكر أحد في شأنه إلا أنه كافر، مستوجب للقتل، مخلد في النار!
قلت:
إن تارك الصلاة كسلا مجرم حقا، ولكن الحكم الذي ذكرتموه هـو في تاركها جحدا، وإنكار ما هـو معلوم من الدين بالضرورة خروج من الدين، أما الكسول فهو مقر بأصل التشريع!
قالوا:
يقتل حتما.
قلت:
لماذا تنسون حديث أصحاب السنن في أن الرجل لا عهد له عند الله - بتكاسله - إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه!
ودخول هـذه الجريمة فيما دون الشرك، أعني إمكان العفو الإلهي عنه، هـو رأي جمهور المسلمين، ومذهب الأحناف ألا يقتل الكسول..
وعلينا بالتلطف والنصح الحسن، أن نقوده إلى المسجد لا إلي المشنقة..
بيد أن المتطرفين يأبون إلا القول بالقتل، وأن هـذا وحده هـو الإسلام!! [ ص: 121 ] ومجال آخر هـو قضايا المرأة، إن حبسها وتجهيلها، واتهامها هـو محور النظر في شئونها العبادية والعادية جميعا، ويجب لي النصوص والآثار التي تربطها بالمسجد، وبالأمر والنهي، والتعليم، وإذا خرجت من البيت لضرورة قاهرة فلا ينبغي أن يرى لها ظفر، هـي عورة كلها، لا ترى أحدا ولا يراها أحد!!
ومن هـؤلاء المتطرفين ناس لهم نيات صالحة، ورغبة حقة في مرضاة الله وعيبهم - إن خلوا من العلل والعقد - ضحالة المعرفة وقصور الفقه، ولو اتسعت مداركهم لاستفاد الإسلام من حماسهم وتفانيهم..
حدث في إحدى القرى أن أرسل العمدة إلى إمام المسجد يخبره أن المهندس الزراعي قادم، وأنه ينبغي الاجتماع بالأهالي كي يقدم لهم إرشادا مهما، ويرجو العمدة إعلام المصلين بذلك حتى يتم اللقاء.
وعندما حاول الإمام الكلام في مكبر الصوت، قال له طالب متدين: إن النبي صلى الله عليه وسلم منع نشدان الضالة في المسجد، وقال: إنما بنيت الصلاة لما بنيت لله! - يعني العبادة - ومنعه من أخذ المكبر! ولما اشتد النزاع قال الطالب: لن يؤخذ المكبر إلا على جثتي!!
إن قياس الإرشاد الزراعي على نشدان جمل تائه لأحد البدو قياس غير صحيح، ولو فرض صحيحا، فالأمر أهون من أن تقدم في سبيله جثة!!
ونحن مع رفضنا لهذه المسالك نرى أن الصلف اليهودي لا يكسر حده إلا فداء يستند إلى هـذا اليقين، وأن على المربين والقادة أن يعاملوا هـذا الشباب بحكمة، وأن يتعهدوهم بالعلماء الواعين المتجردين، فإن هـؤلاء الشبان يكرهون اتباع السلطة، ويزدرون علمهم إن كان لديهم علم... [ ص: 122 ]