المحكم والمتشابه..
قلت: [ ص: 126 ]
في القرآن آيات محكمة وأخرى متشابهة لكن ما نسبة المتشابه إلى المحكم ؟ إن المحكم هـو أم الوحي، وصلب الكتاب، وأساس للتكاليف، ويعني هـذا أن العزائم تتجه إلى المحكم تعمل به، وتقف نشاطها عليه، أما غيره - وهو محدود النطاق - فإن الانشغال به عوج في الفكر وزيغ في القلب، حسبنا أن نمر به مر الكرام لا نستقصي ولا نتكلف، فإن طول الوقوف عنده لا يفيد أولا، ثم إنه يكون على حساب المحكم ثانيا، سنقصر فيه بعدما بددنا الوقت في غيره..
قال قائل:
لكن آباءنا اختلفوا بعدما فكروا، ما نستطيع إنكار ذلك، وفي البلاد من يتعصب للسلف الذين أقروا الآيات على ظاهرها، وفيهم من يتعصب للخلف الذين أولوها والتمسوا لها معاني معقولة، فماذا نصنع؟
قلت:
إن التعصب الأعمى مرفوض! وعند التدبر نجد أمرا لا بد من إبرازه، إن السلف والخلف جميعا يسبحون بحمد ربهم ويقدسون له، ويرجون رحمته ويخافون عذابه، إنهم جميعا يؤمنون بوجوده، وأنه الحي القيوم، وأنه ليس كمثله شيء، وأن ما ينسبه إليه اليهود والنصارى من تجسد، أو تعدد، أو مظاهر بشرية خطأ محض!!
وعبارات السلف والخلف تتجه كلها إلى تلك الغاية، وقد تضطرب أساليب الأداء! وإذا لم يكن الخلاف لفظيا فهو قريب من الخلاف اللفظي.
إن القرآن كتاب يؤسس اليقين في القلوب، وينشر الخير في المجتمع، ويحدث الناس عن الله ليعرفهم بعظمته، وينشئهم على تقواه! وقد نزل القرآن باللغة العربية، وجرى على قواعدها وأساليبها في التصوير والتأثير، وعندما [ ص: 127 ] نتدبره على الوجه الصحيح نلزم الصراط المستقيم، بيد أن للعقل الإنسان شطحات تكلفه أحيانا أن يسأل عما لا جواب له:
إذا كنت أحفظ القرآن فأين مكان المحفوظ من رأسي أو قلبي؟ لست أدري..
إن الذاكرة مستودع عجيب فكيف يغيب في أعماقها ما ننساه، ويطفو على سطحها ما تبقى صورته، لست أدري! ثم ما قيمة الحرص على هـذا التساؤل إذا كان الجواب فوق الطاقة؟
هل تدري النملة كيف ينظم الشاعر قصيدة ما؟ أو كيف يحل الأستاذ معادلة جبرية؟ إنها لا تدري ولن تدري!!
فلم يحاول أمرؤ منا أن يعرف كنه الألوهية؟ وهو لا يعرف نفسه التي بين جنبيه؟ بل لا يعرف جنبيه كليهما..!!
إن تحول الطعام إلى خلايا حية، ثم تحول الخلايا الحية إلى أجسام ميتة تتلاشى، ثم تتجدد، أمر مذهل للعقل، ومع ذلك فهو كثير كثرة هـائلة في كل لحظة من ليل أو نهار عند من قال عن نفسه.
( كل يوم هـو في شأن ) (الرحمن: 29).
( هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) (غافر: 68).