فرض الكفاية.. وفرض العين..
الفروض - كما يقول الفقهاء - قسمان: فرض عين .. وفرض كفاية .
يعنون بفرض العين ما يجب على الشخص نفسه ويسأل عنه وحده، أما فرض الكفاية فهو واجب على المجتمع وجوب شيوع!
ومن هـنا فإن المسلمين يعرفونه بهذه الخاصة، أنه إذا قام به البعض سقط عن الباقين ولا يجري على ألسنة العامة إلا مثل واحد له، هـو صلاة الجنازة..!
وقصة فروض العين وفروض الكفاية لا تحكى بهذا الأسلوب العليل، وسوء عرضها في مجال التربي والإعداد جعل المسلمين يتصرفون بطيش في أمور تمس حياتهم وبقاءهم، وقد تعلي رايتهم أو تنكسها.
والواجبات الكفائية تتطلب من الدولة أمرين ينبعان جميعا من تكليفها ابتداء باختيار من يحمل أعباء هـذه الواجبات ويستطيع أداءها:
الأول: الاطمئنان إلى أن هـذه الواجبات وجدت العدد الكافي من الاختصاصيين للنهوض بها، فإذا كانت الأمة تحتاج إلى مائة صيدلية مثلا ولم يتوفر إلا خمسون، اهتمت بالعدد الذي يضمن الصحة العامة، ولا يجوز أن تتغاضى عن هـذا النقصان.. [ ص: 28 ]
الثاني: أن تتابع بوسائلها الكثيرة حسن الأداء، ودقة الوفاء حتى تقوم المصلحة العامة على دعائم ثابتة..
إن الأمة العاجزة عن استخراج بركات الله من أرض الله لن تؤدي رسالة، والأمة العاجزة عن تجنيد مواهب المسلمين لإعزاز المسلمين أمة تلقي بأيديها إلى التهلكة.
ترى كم مصنعا لصنع الأسلحة يحتاج إليها تحرير المستضعفين؟ وكم فنيا يجب إعدادهم لتحقيق هـذه الغاية؟
إن فرض العين قد يتناول أركان العبادات من صلاة وزكاة، وأركان الأخلاق من صدق وحياء، وقد يتناول ترك الكبائر من ربا وخنا، وهذه أمور ترتبط عادة بالضمير الفردي والسلوك الخاص.
أما فرض الكفاية فإنه قد يتصل بحراسة الأمن، والقضاء بين الناس، القيام بشتى المناصب، وإجادة الفنون والصناعات التي ينهض بها العمران، وتحيا عليها الأمة.. وغير ذلك من الشئون المهمة..
فهل فرض الكفاية ـوذاك خطره - يكفي في وصفه أن يقال في حقه: إذا قام به البعض سقط عن الباقين؟
إن المجتمع الإنسان كيان متشابك المصالح، والناس ما يستغني بعضهم عن البعض الآخر، والأجهزة الإدارية والثقافية والصحية، والاقتصادية والعسكرية في بنيان الأمة تشبه الأجهزة العصبية والهضمية والتنفسية والدورية في الجسد البشري، ومن هـنا فإن فروض العين والكفاية تتداخل في الحياة العامة تداخلا تاما، ويتوزع الاهتمام الديني عليها كلها فلا يدع شيئا منها..
إن فرض الكفاية يأخذ هـذه التسمية قبل أن يختار الشخص المناسب يتحدد الجهد المطلوب! أما بعد الاختيار والتحديد فإنه يتحول إلى فرض عين، وعلى من كلف به أن يستفرغ الوسع في إتمامه. [ ص: 29 ]
ولنزد الأمر وضوحا.. الصلاة فرض عين لأن كل إنسان يستطيع الصلاة فما يستثنى أحد من وجوبه، أما القضاء والتدريس والهندسة فهي فروض كفاية لأنه ليس كل إنسان يقدر أن يكون قاضيا، أو مدرسا أو مهندسا.
فإذا ترشح امرؤ بمؤهلاته العلمية للقضاء، وعينته الدولة في المنصب المعد له، فإن قيامه بأعباء منصبه هـذا أصبح فرض عين كالصلاة والصيام، وما يجوز له أن يتراخي فيه أو يفرط، وكل ذرة من استهانة أو خيانة فهي عصيان لله، واعتداء على الدين، ولا يقبل أبدا الاعتذار بأن ذلك وقع في فرض كفاية ... إن الجهد البشري يجب أن يوزع بالقسطاط المستقيم بين الصلاة المفروضة عليه والقضاء المطلوب منه، حتى يشيع العدل في المجتمع وتبلغ الحقوق أصحابها..
وربما استغرقت دراسة القضايا عشرة أضعاف الوقت الذي تستغرقه إقامة الصلاة! ليكن فهذه عبادة وتلك عبادة، وفروض الكفاية غالبا تأخذ من الوقت أكثر مما تأخذ فروض العين، ولعلها تستغرق أعمار الناس، ليكن، فذلك هـو الطريق لإرضاء الله، وحماية الأمة، والحفاظ على الدين، وإنشاء دنيا تصونه وتنميه...!!
وما يقال في القضاء، يقال في التدريس، والتطبيب، وفي كل مهنة تحتاج الأمة إليها ويرتبط قيامها بها... والجماعات البشرية في القارات الخمس تدرك هـذه الحقيقة، وتنشئ ألوفا مؤلفة من الوظائف، وتعين ألوفا مؤلفا من الأشخاص، وتقر نفقات ضخمة في موازناتها العامة، لكي تضمن هـذه المصالح.
والمطلوب من كل مكلف أن يؤدي العمل على خير وجه، وأن يوفي بالعقد الذي التزم به مع الدولة، وهي لن تضن عليه بما يطمئنه... [ ص: 30 ]
وأعتقد أن ذلك بعض ما يعنيه قوله تعالى: ( والذين هـم لأماناتهم وعهدهم راعون ) (المؤمنون: 8)،
فإن المناصب كلها أمانات مسئولة، والقيام عليها عقد مرعى الزمام..
لكن المسلمين للأسف الشديد أكثر الأمم إضاعة لهذه الأمانات والعهود، والأعمال الرسمية في بلادهم مهددة الحرمة، والوظيفة مصدر للأخذ أكثر مما هـي وسيلة إلى العطاء...!! وجهالة المسلمين فاحشة بفروض الكفاية وطبيعتها وآثارها..
ويرجع - عند بعض المتدينين - إلى أنهم يفرقون بين صور العبادات المأثورة، وأداء الأعمال المدنية المختلفة، الأولى عندهم دين، والأخرى ليست عبادة إلا على ضرب من التجوز.
رأيت بعضهم على مكتبه جالسا بادي السآمة، يجيئه الناس لحاجاتهم فيرجئ ما يشاء، ويهمل ما يشاء، حتى إذا اقترب وقت الظهر شرع يستعد له قبل الأوان... قلت له:
إن ما تقوم عنه ليس بأهون مما تقوم له... ونشاطك في إنجاز مصالح الناس في أخصر وقت، وعلى أحسن وجه دين، وهو واجب كالصلاة والصيام!
قال: إننا نستعد للصلاة المكتوبة، وسنؤدي عملنا بعد أداء حق الله!
قلت:
جميل أن تحرص على الصلاة في وقتها، ولا عليك أن تصليها أول الوقت أو وسطه! وخير لك أن تعجل بإنجاز عمل هـذا القادم من بلده، القلق على مصلحته، خاصة وأن الصلاة تربي الإنسان على الشعور بالواجب، لا تستغرق من الزمن أكثر من بضع دقائق معدودة..
ونحن لا نهون من شأن الصلاة المكتوبة وأدائها على وقتها، ويمكن وضع [ ص: 31 ] نظام لأدائها جماعة أول الوقت، أو بعد انتهاء المحاضرة في المدرسة، والنوبة في المصنع، والجراحات والكشوف في المستشفى، ويحدد لذلك زمن معتدل لا يستغله أهل البطالة...
أما عد الأعمال شيئا تافها، أو شيئا يقبل فيه العبث والتسويف فهذا تضييع لفرض يحرم تضييعه!!