التدين وصلته بآلاء الله في الكون
وثم أمر آخر يتصل برسالة الدين بين الأحياء، إنني أكره التدين المحجوب عن جمال الكون وعظمته، المشلول عن فهم أسراره وتسخيرها لمصلحته..
وبين الحين والحين يساورني - وأنا أتلو القرآن - شعور بأن الله يريد لفتنا إلى إبداعه في الأنفس والآفاق، يريد إشعارنا بما في كونه من دقة ورقة ولطافة واقتدار، يريد من الناس أن يطالعوا آيات عظمته في هـذا الكون الدال على ربه، الموجه إليه بالليل والنهار..
وهل يقسم الله بعناصر كون تافه؟ انظر إلى هـذه الصورة!
( فلا أقسم بالشفق * والليل وما وسق * والقمر إذا اتسق ) (الانشقاق: 16 - 18).
إنها صورة الأصيل المحمر الأفق يعقبه الغروب، وبزوغ القمر.. ثم صورة أخرى لمرحلة تابعة من مراحل الزمان. [ ص: 34 ]
( والليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس ) (التكوير: 17،18)، لقد تحركت الدنيا واهتز صدرها بأنفاس اليقظة الباكرة!
إن الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، يطلب منا أن نستكشف صفاته في أرجاء ملكوته، وأن ننظر إلى العالم على أنه مجلى أسمائه الحسنى، وأن نبني سلوكنا بعد ذلك على إيمان وثيق، وخضوع مطلق، وأن نسترشد بوحيه ونحن نكدح على الثرى استعدادا لرحلة العودة، وهي رحلة لا بد منها.
( هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ) (الأنعام: 2).
إنه أمر مثير للعجب أن يعيش جمهور المسلمين من بضعة قرون، لا يعرفون عن الكون شيئا يذكر، وأن تكون علومه ثانوية في ثقافتهم الخاصة والعامة، وأن يكون التعرف على أسراره وقواه شيئا كماليا خفيف الوزن عند البعض، وضربا من اللغو والعبث عند البعض الآخر!!
فما الذي استحوذ على انتباههم من فنون المعرفة؟ كلام في دين الله لو عرفه سلفهم ما فتحوا بلدا ولا أنشأوا حضارة!!
في الوقت الذي صد فيه المسلمون عن الدراسات الكونية أوغل آخرون في طريقها، وحققوا مآرب رهيبة، ثم طوعوها لنصرة عقائد باطلة وفلسفات وضيعة..!!
إن هـذه القطيعة الموحشة بين الدين من ناحية وبين الكون والحياة من ناحية أخرى ينكرها الإسلام كل الإنكار، ويطلب من عباد الله الصالحين مسلكا يناقضها كل المناقضة...
قد تقول: نحن نعرف ذلك ولا جديد فيما تحكي..!
وأجيب: لا يزال الشباب الذي يريد المتاب والعمل للإسلام يدير [ ص: 35 ] ظهره للدنيا وعلومها، ويخفف حقائبه من البحوث الكشافة للقوى الحيوية الكثيرة، ويظن الذكر والشكر في العبادات المحضة!
كنت في بعثة إلى (( نواكشوط )) عاصمة موريتانيا الإسلامية تهتم بشئون الدعوة... ورأيت هـناك جماعة من الشيوعيين الصينيين لا يعملون للسماء وإنما يعملون للأرض، استطاعوا اكتشاف منابع للمياه العذبة، ومدوا شبكة للأنابيب إلى الأراضي التي كانت تحتاج إلى المياه!
ورأيت هـؤلاء الشيوعيين الصينيين في اليمن الشمالي يشقون في قلب الصحراء، وبين سلاسل الجبال طرقا ((مزفتة)) أو ((مسفلتة)) بتعبير العوام!
فقلت في نفسي: من أقصى الشرق، من بعيد بعيد، يجيء هـؤلاء ليصنعوا في بلادنا ما يصنعون! فماذا نعمل نحن؟
لقد شعرت بالغيظ عندما علمت أن قطرا إسلاميا كان يصدر القمح أيام كان مستعمرة، فلما استقل، ووقع زمامه بين أيدي أهله اقشعرت الأرض، وبدأ استيراد القمح من الخارج!!
وشعرت بالاستحياء وأنا أحصي الدول الصناعية المنتجة فلا أجد، بين العشر الأولى، ولا بين العشر الثانية، ولا... دولة مسلمة واحدة!!
ومعروف أن اليابان بدأت نهضتها من قرن تقريبا، وأن شعوبا إسلامية بدأت نهضتها في الزمان نفسه، ووصلت اليابان إلى الذروة وبقينا نحن في السفح..
ما السبب؟ قد يكون لفساد الجو السياسي دخل كبير! ولكن فساد الجو الثقافي له - في نظري - دخل أكبر.
ما تقول في فتيان يريدون إشعال معركة من أجل قضايا جزئية تتعلق باللباس وغيره هـي أقرب إلى سنن العادة منها إلى سنن العبادة، وقد تأتي في نهاية سلم الأولويات. [ ص: 36 ]
إن دين الله لا يقدر على حمله ولا على حمايته الفاشلون في مجالات الحضارة الإنسانية الذكية، الثرثارون في عالم الغيب، الخرس في عالم الشهادة..
وأشعر بأن فقر المسلمين إلى الاستبحار العلمي لخدمة دينهم ودنياهم يحتاج إلى شرح أكثر، فإن تبجح الجهال بما لديهم من معارف مغشوشة أو قاصرة أمر لا يطاق، وإذا لم نوضح لأمتنا الحق كله تعرضت وتعرضنا معها للهلاك.. ولأنقل إلى القارئ خلاصات وجيزة عن سير التقدم العلمي في العالم الحديث، ليعرف أي هـاوية سنتردى فيها إذا لم نغير أنفسنا...