[4] المشكلـة الثقافيـة
(أ ) انحراف المنهج الاستشراقي في الدراسات الإسلامية والدعوة إلى إحياء المنهج الإسلامي في البحث العلمي:
إن حركة الإحياء في الغرب بدأت من الداخل، وتشكلت أبعادها وأهدافها، وتم تنفيذها على يد الغربيين وفق مناهج محددة وضعت لهذا الغرض.
أما إحياء التراث - بمعناه الضيق المتصل بنشر المصادر الكلاسيكية للثقافة العربية الإسلامية - فبدأ على يد الاستشراق الذي كانت له أهداف خاصة في التعرف على شعوب المنطقة تعرفا صحيحا ينفذ إلى الجذور، ويتابع الفروع، ثم يتدخل في التخطيط والتوجيه.
لقد استخدم المستشرقون منهج البحث الغربي في دراسة الإسلام قرآنا وحديثا وحضارة وتاريخا، وكان منهج البحث في الكتب المقدسة (التوراة والإنجيل ) قد تبلور على يد العلماء الألمان خاصة ممثلا بالمنهج النقدي (CriticismMethod) ثم ساد بين علماء الغرب جميعا فأعملوا مباضعهم في تراثنا مطبقين عليه منهجهم، وصدروه إلينا بشكل دراسات، ظاهرها: العلم والموضوعية والتجرد، وباطنها: التعسف والجهل والتعصب، وأول ذلك التعسف تطبيق منهج وضع ليتحكم في تراث صاغته يد البشر في كتاب هـو من وحي السماء لم تصغه أيدي [ ص: 59 ] الأتباع، وفي تراث يختلف شكلا ومضمونا وروحا عن تراث الغرب.
وماذا سيحدث لو عكسنا الأمر وحكمنا مقاييس منهجنا الإسلامي في تراث الغرب؟ ماذا لو اعتمدنا شروط المحدثين في قبول الرواية، بأن تكون من نقل العدل الضابط إلى منتهاه؟ ماذا لو حكمنا هـذا المقياس في التاريخ الأوروبي؟ هـل يسلم ثمة شيء؟
وللإنصاف أطرح السؤال بنطاق أضيق، فأقول: ماذا لو حكمنا هـذا المقياس في دراسة الكتب الدينية، كالتوراة والإنجيل والتلمود (شرح التوراة ) ؟؟!
وبالطبع فإن هـذا كان سيحدث لو استمر زمام الحضارة بيد المسلمين، ولم ينتكسوا حضاريا منذ قرون طويلة.
إن أية قراءة في " المفصل " لابن حزم أو " هداية الحيارى " لابن القيم ؛ ستوضح أن إعمال المنهج الإسلامي في دراسة عقائد وأديان النصارى واليهود ستهدم معظم جوانبها وتشكك بها دون تعسف ولا تعصب.
(ب ) الدعوة إلى إحياء منهج البحث الإسلامي:
إننا مدعوون لإحياء منهج البحث الإسلامي والعمل على تطويره؛ ذلك المنهج الذي انبثق عن الوحي الإلهي، قال تعالى:
( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) (الإسراء:36 ) . ففي هـذه الآية يبين الله عز وجل [ ص: 60 ] مسئولية حواس الإنسان عن العلم، وينهاه عن قول ما لا يعلم، وقد ذهب المفسرون إلى حصر حدود المسئولية في نطاق العلاقات الاجتماعية، فذكروا النهي عن رمي الناس بمجرد الظن والتوهم والشهادة عليهم بغير الحق، فذلك معنى قوله تعالى: (ولا تقف ) عندهم؛ لأن أصل القفو: البهتان.
ولكن معنى الآية يتسع لأكثر من نطاق العلاقات الاجتماعية، فنهي الإنسان عن قول ما لا يعلم هـو أمر له بالسعي في التحقيق وطلب البرهان والدليل كما في قوله تعالى:
( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) (البقرة:111 - النمل:64 ) . فالجهل يفضي إلى الكذب كما في قوله تعالى: ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ) (يونس:39 ) . من أجل ذلك رفع الله قدر العلماء فقال:
( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) (المجادلة:11 ) .
وقد أدت هـذه التوجيهات القرآنية إلى توصل المسلمين في القرون الأولى الزاهرة إلى مناهج دقيقة للبحث العلمي، فاكتشفوا العلاقات السببية، والقوانين الطبيعية، والعلوم الرياضية عن طريق اتباع منهج [ ص: 61 ] البحث التجريبي الذي سبقوا الأوروبيين إليه بعشرة قرون؛ ولكنهم للأسف تخلوا عنه بعد ذلك، في حين أخذه عنهم الأوروبيون منذ مطلع عصر النهضة الأوروبية، وقاموا بالإضافة إليه وتطويره حتى أثمر النتائج العلمية والصناعية الضخمة التي تتسم بها المدنية الغربية المعاصرة.