المفكـر والأستـاذ الجـامعي
وبالنسبة للمفكر وللأستاذ الجامعي فإن الأمر جدير بكثير من التأمل، وبمراجعة المناهج التي وضعت لتكوين شخصية الأستاذ الجامعي وبناء ثقافته الأكاديمية في مجال العلوم الإنسانية...
تلك المناهج التي تبدأ عادة بمرحلة الماجستير وتنتهي باجتياز الدكتوراه . ما مدى تكاملها؟ وما قدر سعتها؟ وهل تنتهي بالدارس إلى أن يصبح مفكرا أو أديبا أو أستاذا جامعيا؟ هـل يكفي أن يحقق طالب في التاريخ مخطوطة للماجستير وأخرى للدكتوراه ليحتل مقعد الأستاذية ويصبح مسئولا عن تكوين كوادر المثقفين أو المتعلمين تعلما عاليا؟!..
وقد تكون المخطوطتان المحققتان للمرحلتين من نمط واحد، وتتناولان موضوعا واحدا لن يأخذ وقت الأستاذ وهو يحاضر سوى دقائق ليغطيه، وينتقل إلى ما سواه من موضوعات المادة التي يتخصص فيها؛ فما هـو أثر عمله عدة سنوات في مرحلتي الماجستير والدكتوراه على تدريسه الجامعي؟
إن هـذا الانفصال بين تحصيل العلم، والعطاء العلمي جدير بالدراسة والمعالجة..
وأنا لا أدعو إلى إهمال تحقيق كتب التراث وإسقاطها من الحساب في [ ص: 78 ] تسجيل الرسائل الجامعية ... ولكن ينبغي ألا تمثل كل متطلبات الماجستير والدكتوراه .. بل توضع مقررات دراسية للمرحلتين، وينصب الاهتمام على كتابة البحوث الصغيرة المتنوعة في مصادرها وموضوعاتها، وتلقى محاضرات في مادة التخصص لتوسيع مدارك الطالب، وتفتيح آفاق المعرفة بتخصصه من ناحية وبمجمل الثقافة العامة من ناحية أخرى.. فليس الفكر في لزوم ترابط جوانبه مثل العملية الإنتاجية المادية، إذ يمكن أن يتخصص العامل في إنتاج وحدة مكملة لوحدات الآخرين، ولا يمكن للمثقف أن يحصر معلوماته في قضية واحدة من قضايا الفكر؛ إذا أراد أن يبقى مثقفا.
إن الوضع الحالي للمناهج وطرق التدريس والبحث لا يكفي لتكوين شخصية الأستاذ الجامعي، ومن هـنا وجدنا أساتذة لا يتمكنون من إلقاء محاضرة كاملة متصلة.. وآخرين يوصلون المعلومات بلغة عامية أو عربية ركيكة؛ مما يؤدي إلى ملء أسماع طلبتهم وذاكرتهم بالعجمة، وباللحن الذي ينشرونه في أوساط المؤسسات التعليمية.
ومن المسلم به أن مهمة الأستاذ الجامعي لا تقتصر على القدرة على توصيل المعلومات للطلبة بصورة صحيحة، بل تتعدى إلى القدرة على البحث العلمي في مجال تخصصه، والتمكن من الإضافة إلى المعرفة؛ بحيث لا ينقطع عن التحصيل والعطاء طيلة حياته، وبذلك وحده يكون قادرا على التجديد في محاضراته والإضافة إلى معلوماته. [ ص: 79 ]
ولا يعني ذلك أن مهمة الأستاذ الجامعي تعليمية بحتة؛ بل هـي مهمة تربوية تسعى لإضفاء المسحة الثقافية على الطلبة، والتأثير في سلوكهم، وعاداتهم، وطرق تفكيرهم؛ فتكسبهم النافع وتحذف منهم الضار، وتقومهم فكرا وسلوكا وهذا يتطلب أن يكون الأستاذ مؤهلا تربويا إلى جانب تأهيله العلمي الأكاديمي.