التعليم الإسلامي.. وتكنولوجيا التعليم
لا يزال التعليم الإسلامي يستخدم طرقا بدائية بعيدة عن الإفادة من تكنولوجيا التعليم التي تستخدمها الجامعات المتقدمة في عالمنا المعاصر، كما تستخدمها مراكز البحث العلمي المرتبطة بالجامعات والمستقلة عنها؟
فما أثر ذلك على مستوى البحوث الإسلامية، ومستوى التعليم الإسلامي؟ [ ص: 130 ]
إن الطالب في الجامعات الإسلامية يحتاج إلى عدة أشهر ليتمكن من جرد كتاب " وفيات الأعيان لابن خلكان " للحصول على معلومات معينة، بينما يتمكن باحث آخر في باريس مثلا من الحصول على المعلومات نفسها خلال خمس دقائق فقط، لأن جهاز الكمبيوتر التابع لمعهد الأبحاث وتاريخ النصوص بباريس قد غذي بكتاب " وفيات الأعيان لابن خلكان " ، وصار يتمكن من الإجابة المدونة على أسئلة الباحثين المتنوعة.
" ويهدف المشروع الذي يتبناه القسم العربي في هـذا المعهد، وتشارك فيه عدة دول، إلى تصنيف وفهرسة كل الشخصيات التي برزت في العصور الوسطى للإسلام وذلك في حقل السير الشخصية والتاريخية والجغرافية، بالإضافة إلى ما يتعلق بهذه التراجم من معلومات شخصية " وقد بدأوا بتغذية الكمبيوتر منذ بضع سنوات، ولا شك أن ذلك سيعطيهم قدرات هـائلة على التأليف السريع والموثق، ويقوي موقفهم العلمي في الدراسات الإسلامية مما يتهدد بزيادة خطر الغزو الفكري في المستقبل، ويعظم من قيمة مؤلفاتهم.
إن وجود مثل هـذا الجهاز يمكن الباحثين بالإضافة للحصول على المعلومات من صنع الفهارس وغيرها من الإنجازات العلمية بصورة متقنة وسريعة توفر الوقت والجهد، ويلاحظ أن الدول المتقدمة تقنيا اعتمدت معطيات العصر العلمية في التعليم، مثلا: الولايات المتحدة لكل أربعمائة طالب في مراحل التعلم الابتدائي والمتوسط والثانوي جهاز [ ص: 131 ] كمبيوتر يستخدم في الأغراض التعليمية، وبالطبع فإن النسبة تزداد في المرحلة الجامعية وما بعدها من الدراسات العليا، في حيث إن العديد من جامعاتنا لما تبدأ بعد في الإفادة من هـذه المعطيات.
وبالطبع لا بد من دراسة خصائص هـذه الأجهزة وآثارها على الإنسان في المستقبل من حيث قدرته على استعادة المعلومات من الذاكرة، وهل تتأثر بالاعتماد على الكمبيوتر.. ومرانه الذهني في الرياضيات مثلا ومدى تأثره بعدم حفظه ربما حتى لجداول الضرب البسيطة خاصة عندما يسمح للطالب بإدخال الآلة الحاسبة إلى الامتحانات.. إذن ستتأثر قدرات الذاكرة والمران العقلي، وما هـو تأثير ذلك على تدريس العلوم الإسلامية بالذات؟ هـنا لا بد من الإشارة إلى ضرورة مراعاة خصائص الثقافة الإسلامية ومدى ملاءمة طرق التدريس المعاصرة لها، وهل يمكن أن تفي طرق التدريس المعاصرة باحتياجات الثقافة الإسلامية؟ وإن كانت تفي بذلك فهل نقتصر على طرق التدريس القديمة التي كانت سائدة في عصور ازدهارنا الحضاري واستمر دون تطوير في الفترات التي أعقبت ذلك حتى مطلع القرن العشرين؟
وهل يمكن الإفادة من الجمع بين الأصالة والمعاصرة في طرق التدريس لمواءمة الثقافة الإسلامية بخصائصها المتميزة؟
إن الإبقاء على الطرق التقليدية في تدريس العلوم الإسلامية لا يحقق الأهداف التربوية في إيجاد المتعلم الذي يمكنه التكيف لظروف العالم المعاصر المتغيرة بسرعة فائقة؛ لأنها ترتكز على الحفظ للمتون [ ص: 132 ] والانغمار في الشروح بحيث لا يفرغ المتعلم للإحاطة بمشاكل الحياة المعاصرة، ولا تتكون لديه النظرة الشمولية.
ولكن الأخذ بطرق التدريس المعاصرة والقائمة على تعويد المتعلم على التفكير والاستنتاج بدلا من الحفظ مع إهمال الحفظ لا يتلاءم مع خصائص الثقافة الإسلامية، فلا بد للمثقف المسلم من حفظ قدر من القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وحفظ بعض القواعد النحوية والأصولية والفقهية وبعض قواعد مصطلح الحديث، وتظهر أهمية الحفظ بصورة خاصة بالطبع في تدريس علم القراءات، فالقراءات لا يمكن لطالبها الحصول عليها إلا عن طريق التلقي من لفظ " القارئ الشيخ " الذي يمتلك إجازة بالقراءات من شيوخه، ولا يمكن التلقي من لفظ الشيخ إلا بعد حفظ القرآن الكريم، وحقا فإن هـذا الأنموذج شاذ، ولكنني اخترته وأبرزته لأنه يوضح خصائص تمتاز بها الثقافة الإسلامية لا بد من مراعاتها عند اختيار طرق التدريس الملائمة لها.
ويبدو أنه لا يمكن الاستمرار في طرق تدريس تقليدية تهتم بالحفظ وحده لتكون المثقف المعاصر الذي يستطيع إثبات وجوده في الحياة الحديثة وأخذ مكانة فيها.
ثم لا بد من اعتماد أسلوب التعليم الذاتي والموازنة بين التخصيص الدقيق مع الترشيد لضخامة المكتبة وبين الثقافة العامة، إذ ينبغي تجنيب شبابنا الضياع وسط المكتبة الذاتية الضخمة والمليئة بالغث والسمين معا، ولا بد من وضع قائمة معتمدة من المؤلفات العميقة الناضجة يتم [ ص: 133 ] انتقاؤها بدقة وذكاء من بين كتب التراث والدراسات المعاصرة لتكوين ثقافة الدارس، وعدم تركه أمام التجارب التي تضيع وقته وتمتص وقته وجهده.
لقد سبق بعض علماء السلف إلى وضع قائمة بالكتب الأساسية أو الأكثر أهمية لطالب العلم كما فعل الخطيب البغدادي في الجامع [1] ، للتركيز على تكوين ذهنية وملكة لدى الطالب تجعله قادرا على النقد، متمكنا من التمييز وفق مقاييس محدودة واضحة، وبذلك يصبح قادرا على انتقاء الأفكار والكتب، كذلك لا بد من إعانته على تحقيق رغباته وعدم إغراقه في جزئيات العلوم وذلك باعتماد أسلوب " التعليم الذاتي " الذي يؤدي فيه المتعلم دورا كبيرا.
إنه لا بد للمثقف المسلم من التصور الشامل للحياة المعاصرة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، إذ ينبغي أن يهيأ ليكون عنصرا قياديا في المجتمع، فلا يمكن أن يعزل عن مشاكل وأحداث المجتمع الذي سيحتل موقعا توجيهيا فيه، ولا شك أن حصر نشاطه في دراسة مشكلة معينة محدودة أو تحقيق نص لكتاب من التراث لسنوات عديدة قد يؤدي إلى عزله عن التيارات الفكرية المعاصرة والأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتجددة، وهنا يلزم أن يستعان ببرامج مكثفة يلزم بها لسد النقص في تكوينه الثقافي، وأن يستعان على ذلك بالتعليم الذاتي والتربية المستديمة الذاتية. [ ص: 134 ]