سابعا- افتقاد القدوة بمجالات الحياة
يحس الشباب خلال التناقض الذي يعيشه أنه يفتقد القدوة الصالحة في القيادات المتعددة، وتأثير القدوة في النفوس أقوى من تأثير الأقلام والخطب، وتاريخ المسلمين مليء بنماذج من الرجال الأكفاء الذين كانوا منارات هـدى وسبل نجاح للأمة، وعلى رأسهم الرسول القائد صلى الله عليه وسلم ، الذي خرج جيلا من القادة ما جاد الزمان بمثلهم، ثم كان في تاريخ الإسلام رجال غيروا وجه الحياة وعكسوا مجرى التاريخ للأحسن، وكانت القدوة في كل مكان: في السياسة والعلم، في الحرب والدولة، [ ص: 66 ] في الدعوة والجهاد... وقد دفع هـذا النقص الشباب إلى أن يدرس حياة شخصيات زينها الباطل، وأوجدتها الدعاية؛ من علماء وسياسيين ومفكرين؛ كفرة ومسلمين، ولم تكن شخصية من هـذه الرموز المسلمة إلا ولها عداء للإسلام وحرب عليه، ولذلك يفتقد العالم العربي مثل القدوة التي غيرت وجه التاريخ وحققت الانتصارات الحربية والعلمية والأدبية، ونقلت المجتمع إلى مصاف المجتمعات التي تنتج، وتبتكر، وتكتشف، وتضيف إلى التمدن والحضارة مثل ما أضاف جيل الحضارة الإسلامية الزاهر.
والشباب يعلم أن الزيف استشرى في أوجه الحياة، وأن اليأس من التغيير يكاد يجمد النفوس الضعيفة منها، ومناهج الدراسة لا تجد في حياة المعاصرين ما يمثل تلك القدوة فتلجأ إلى قادة المسلمين السابقين، وربما كانت السلسلة لا تتعدى عهد صلاح الدين الأيوبي إلا قليلا؛ مع تعمد إهمال بعض الرموز التي غيرت من فكر الشباب واعتزازه بدينه وتاريخه وأمته وفكره، بل بتشويه الصورة الطيبة التي قدموها أنموذجا للأجيال، ثم إبراز شخصيات كانت سببا في تعاسة الشعوب وتخلفها وهزائمها، الأمر الذي يقابله الشباب بالسلبية والتعجب؛ حيث انقلبت الموازين وأصبح الزيف حقيقة والباطل حقا، والجبان بطلا والخائن أمينا، والبخيل كريما.
أما العلماء فهم القدوة التي اهتزت ثقة الشباب فيها، فأعرضوا عنهم، وعمموا الأحكام حتى على المخلصين الصادقين منهم: (ولا ريب أن مع الشباب كثيرا من الحق فيما قالوا: فقد أصبح كثير من " العلماء الكبار " أدوات في يد السلطان إن شاء أن [ ص: 67 ] ينطقوا بما يريد من شأن نطقوا وأفصحوا، وإن شاء أن يصمتوا صمتوا حيث يجب البيان، ويحرم الكتمان، والساكت عن الحق كالناطق بالباطل، كلاهما شيطان. ) [1]
.
يقول الدكتور القرضاوي : " إنه قال لأحد الشبان: يجب أن تأخذوا العلم من أهله، وتسألوا أهل الذكر من العلماء فيما لا تعلمون " فرد عليه: وأين نجد هـؤلاء العلماء الذين نطمئن إلى دينهم وعلمهم؟ إننا لا نجد إلا هـؤلاء الذين يدورون في فلك الحكام؛ إن أرادوا الحل حللوا، وإن أرادوا الحرمة حرموا؛ إذا كان الحاكم اشتراكيا باركوا الاشتراكية ووصلوا نسبها بالإسلام، وإذا كان رأسماليا أيدوا الرأسمالية باسم الإسلام؛ العلماء الذين إذا أراد حاكمهم الحرب فالسلم حرام ومنكر، وإذا تغيرت سياسته فأراد السلم صدرت الفتاوى بالتبرير والتأييد، يحلونه عاما ويحرمونه عاما، العلماء الذين سووا بين الكنيسة والمسجد، وبين الهند الوثنية وباكستان الإسلامية. قلت له: لا ينبغي أن تحمل كل العلماء ذنب بعضهم، وأن تأخذ المحسنين بتقصير المسيئين، فمن العلماء من رفض الباطل، ومن تصدى لظلم، ومن أبى الانحناء للطاغوت، ومن قاوم إغراء الوعد وإرهاب الوعيد، واحتمل العذاب وصبر على البلاء، ورضي بالسجن والتنكيل، بل رحب بالشهادة في سبيل الله، ولم يقبل المساومة على دينه، أو التهاون في شأن عقيدته. قال الشاب: لا أجحد هـذا، ولكن المسيئين هـم الكبار المرموقون، والقادة المسئولون الذين بأيديهم مقاليد الفتوى والتوجيه والإرشاد " [2] [ ص: 68 ] وهذا كله صحيح وملاحظ في بلاد كثيرة للمسلمين، وهو في النهاية اكتشاف لرأي الشباب، والثقة المزعزعة في قدوتهم من العلماء والمفكرين.