تقديم
بقلم: عمر عبيد حسنة
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هـادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، وبعد:
فهذا كتاب الأمة الحادي عشر (مشكلات الشباب: الحلول المطروحة والحل الإسلامي ) يأتي إضافة جديدة في مجال المساهمة في تحقيق التحصين الثقافي والوعي الحضاري؛ التي عزمت " الأمة " على المضي بهما إلى جانب العطاء الصحفي. والحقيقة أن مشكلات الشباب تعتبر من القضايا المستمرة في حياة الأمم، ولعلها من أخطر قضايا الأمم على الإطلاق. وقد لا نلمح نحن هـنا في العالم الإسلامي [ ص: 7 ] الأبعاد الكاملة لمشكلات الشباب والمخاطر المترتبة على ا لخطأ في التعامل معهم؛ لأننا لا نزال على بقية من عقيدة الإسلام، وميراثه الثقافي، وروابطه الأسرية التي تضمن لنا تماسك مؤسساتنا الاجتماعية، فلا تظهر عندنا المشكلة بصورتها الحادة التي بدأت تتفاقم في المجتمعات الأخرى وتهدد كيانها، تلك المجتمعات التي انسلخت عن دين الله، وتحللت من كل الضوابط، وكسر شبابها الموازين والقوانين الاجتماعية كلها؛ وإن كانت العدوى بدأت تتسرب إلينا - ومعبرها الشباب - من خلال بعض الشقوق والثقوب التي أحدثها دعاة التغريب والتشريق ومؤسساتهما في مجتمعنا الإسلامي، أولئك الذين استطاعوا أن ينقلوا إلينا أمراض الحضارة الغربية، ولم يقدروا على التحقق بإنتاجها، فبدت نذر الخطر تصل إلينا لنعيش أمراض هـذه الحضارة، ونحرم من القدرة على تحصيل علومها وتحقيق إنتاجها؛ ويكفينا لتحديد ملامح المستقبل الذي نسير إليه أن نرى الفوارق الكبيرة في الشكل والمضمون - بين الشاب وأبيه، والشابة وأمها - التي بدأت بالظهور في مجتمعنا الإسلامي، فإذا لم نتنبه لخطورة المشكلة ونحسن التعامل معها بكثير من الدقة، والحكمة، والروية، والوسيلة الصحيحة، والحوار الهادئ، فسوف يكون من قبلها الإعصار المدمر الذي لا يبقي ولا يذر.
فالشباب إذا فقد الهدف والانتماء تحول إلى طاقات مبعثرة تبدد في فراغ، وتستهلك في غير المواقع الصحيحة، وتنتهي إلى الحيرة والقلق والتمزق والعدمية؛ وعاش حالة من الضياع تسهل على الأعداء احتلال نفسه وعقله وروحه وأرضه؛ وإذا فقد الالتزام والانضباط [ ص: 8 ] بالمثل التي يؤمن بها انقلب إلى شر محض يدمر نفسه وأمته.
ولا شك أن حركات التغيير في التاريخ العالمي اتجهت إلى الشباب لتجعل منه وسيلتها، ومادتها، ومحل أفكارها، وإطار حركتها، ومنجم تضحياتها. ومن طبيعة الشباب أن يستهويه كل جديد، ويراوده كل أمل في التغيير. وقدرته على التضحية في سبيل ما يؤمن به تصل إلى صورة المغامرة وحد التهور، لذلك كان التركيز دائما على الشباب واستجابته السريعة في عمليات التغيير، لأنه بذلك يثبت ذاته، ويرضى تطلعاته، ويحقق طموحاته؛ وإن أي خطأ في التعامل مع الشباب، أو في التقدير الدقيق لنفسيته وظروفه، وأي تجاهل لمعاناته - وقد خلق لغير زماننا - سوف يخرجه إلى ساحة أعداء الإسلام الذين يغرونه بمصطلحات تجد هـوى في نفسه، كالثورة، والتمرد، والرفض، والعنف، والخروج، والصراع؛ إلى درجة قد تصل به إلى رفض كل شيء دون تمييز، وإلى الثورة العمياء على كل شيء؛ الأمر الذي قد يعني بالنسبة له الانتحار الجماعي.
ولعل أخطر وسيلة يمارسها أعداء الإسلام لسرقة الشباب والتسلق على أكتافه، هـي: استغلال حبه للسلطة، ونزوعه إلى إثبات وجوده، وفورته الجنسية؛ فيقيمون له التجمعات الإباحية التي ترضي شهوته، ويمنحونه المال والسلاح والسلطة، ويسوغون له التسلط على حياة الناس وأعراضهم وممتلكاتهم باسم الثورة الدائمة والصراع الحتمي، ويثيرون في نفسه الأحقاد التي تؤصل فيه نزعة الانتقام والتشفي، ويبررون له كل وسيلة للوصول إلى رغباته. [ ص: 9 ] من هـنا كان الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم يرعى الشباب رعاية خاصة؛ يقربهم إليه، ويجالسهم، ويستمع إلى آرائهم وأقوالهم ليشعرهم بذواتهم، ويربي فيهم الشخصية الاستقلالية، ويدربهم على المسؤولية، ويعتبر التزامهم بالإسلام، ونشوءهم على طاعة الله تعالى من أجل الأعمال وأرقاها، ويقدر دورهم وعطائهم في نشر الدعوة الإسلامية، وسرعة استجابتهم لدواعي التغيير، ويوصي بهم خيرا، لأنهم أرق أفئدة، وألين قلوبا، وأنه صلى الله عليه وسلم قال في بدء البعثة:
( آمن بي الشباب، وكفر بي الشيوخ ) ذلك أن نفوس الشباب صافية لما تلوث بعد برواسب الوثنية، واستحكام التقاليد والعادات المنكرة؛ وأجهزتهم الذهنية سليمة، بعيدة عن أي غبش، أو كدر، لذلك نرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجعل من الشباب محلا لشوراه ويعلل ذلك بصفاء عقولهم وقدرتهم على اللمح والنفاذ، وعلى الرغم من تجربة الشيوخ وخبرتهم؛ فقد تكون أذهانهم مثقلة بما يحول بينها وبين أن تكون لماحة للحق؛ وكان يقدم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما - وهو حديث السن - في مجلس كبار الصحابة، ويستمع إليه، ويميل إلى رأيه.
وفي تقديرنا: أن تأصيل الشورى، كما شرعها الإسلام، والتدريب عليها ضمن الأسرة والمدرسة والنادي ومحاضن الشباب جميعها هـي العلاج الأساسي لاجتناب جنوح الشباب، وعبور فترة الانتقال من الطفولة إلى الرجولة دون مخاطر، حيث تبدأ شخصية الشاب في التشكل، ويبدأ إحساسه بذاته وقيمته، ذلك أن التجاهل والإهمال وعدم إشعار الشاب بقيمته وإهمال أخذ رأيه؛ قد يورثه لونا [ ص: 10 ] من العناد والرفض والمشاكسة، لأنه في ذلك يحس بوجوده ويشعر الآخرين بنفسه؛ وكثير من المسلمين اليوم - بل ومن العاملين للإسلام - تفوتهم هـذه الحقائق البادهة - ومن عرفك صغيرا هـنت عليه كبيرا - فيخطئون التصرف عن حسن نية، وبذلك يدفعون أبناءهم في سن المراهقة والشباب إلى الخروج عليهم، ورفض تصرفاتهم؛ خاصة وأن الشباب في هـذه السن لا يقدرون على التمييز بين الصورة المغلوطة التي يتصرف بها آباؤهم وبين المبادئ الإسلامية التي يعتنقونها، فتحصل الكارثة برفض طريقة الآباء ومبادئهم على حد سواء؛ ولا سبيل للخروج من هـذه المخاطر إلا باستشارة الشباب، وتقدير آرائهم، وإشراكهم في إدراك الأمور جميعها، والأخذ بيدهم لاكتشاف مواطن الخطأ وتحديد جوانب الصواب؛ وقد يكون الفشل التربوي الذي تعاني منه كثير من البيوتات المسلمة اليوم يعود إلى إهمال هـذه القضية؛ فالشورى ليست معطلة في مؤسساتنا العامة والسياسية فحسب - ونحن نندب عليها ونبكي فقدها - بل هـي غائبة معطلة في أسرنا، وهو الأمر الأهم، حيث نقدم باختيارنا ضحايا للمؤسسات السياسية المستبدة وللأفكار والمذاهب الشاذة؛ إننا بذلك نبني تماثيل من الثلج، ومن ثم نبكي على ذوبانها.
ولا شك أن مرحلة الشباب هـي بدء مرحلة النزوع إلى تشكيل الجماعات، والانسلاك في الأعمال الجماعية؛ والحياة ضمن أطر جماعية ضرورة تربوية لا تعوض بغيرها، فيها يتم التدريب على الأعمال المشتركة، ومن خلالها تنمو الروح الجماعية، وتتحقق قيم المجتمع الإسلامي؛ من الأخوة والإيثار والتراحم والإحسان والتعاون [ ص: 11 ] والتواصي بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة البنيان الذي يشد بعضه بعضا؛ وفي إطارها تضمحل الأمراض النفسية - من الانزواء والعزلة والأنانية والانسحاب من المجتمع - فلا بد والحالة هـذه من الاستجابة لهذا النزوع، والتفكير بإيجاد المحاضن الطاهرة النظيفة من الروابط والنوادي الرياضية والثقافية، ومراكز رعاية الشباب، وجمعيات البر والخدمات العامة، والذهاب بالشباب إلى أماكن الكوارث والنكبات لممارسة أعمال الإغاثة، وتنمية فكرة الاحتساب، والانغماس في القضايا الوطنية، وتنمية الحس بالمسؤولية الذي يتطلب الإعداد النفسي والثقافي، وتوفر القوة والأمانة، واستشعار ضرورة وفرضية العمل الإسلامي، والتوجه صوب الأهداف الكبرى والاشتراك في تحقيقها والتضحية في سبيلها؛ ولا بد هـنا للشباب من أن يحس أن من أعظم أهدافه؛ هـداية الناس وتغييرهم وحب الخير لهم، ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ؛ وهو الشاب الأنموذج: لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم ) وأن مهمته: الدعوة الدائمة لاستنقاذهم، وليس شعاره الحقد أو الثورة الدائمة لتدميرهم والقضاء عليهم، والفارق كبير بين الدعوة الدائمة القائمة على التحاب والتعاون والود - شعار المسلم وهدفه لاستنقاذ الناس - وبين الثورة الدائمة القائمة على الصراع والكراهية والحقد.
إن إيجاد هـذه المحاضن ومواقع النشاط المتعددة هـو الذي يحول دون انحراف الشباب الذي يولده الفراغ من الأهداف، وعدم الحرية في ممارسة النشاطات المشروعة... إن الطاقات الكبيرة والهائلة التي [ ص: 12 ] يمتلكها الشباب إذا لم نحسن توظيفها فسوف تكون عبئا على صاحبها قد يودي به، فلا بد أن نعلم أن الانحراف والشذوذ، والسآمة، والضياع، والعدمية، والعبث، والسقوط في المخدرات والمسكرات إنما هـي ثمار للفراغ وللطاقات الشبابية الفائضة التي لم نحسن استثمارها. وأن الانشغال بوسائل التغيير والاهتمام بتحقيق الأهداف الكبرى، التي إذا آمن بها الشباب أعطاها كل ما يمتلك، تبقى هـي المأمن من الانحراف.
وقد تكون المشكلة التي يعاني منها الكثير من الشباب المسلم اليوم أنه لا يزال يعيش مرحلة الخطب العاطفية والشعارات الحماسية، أو ما يمكن أن نسميه (زعامة الخطبة ) التي تشحنه بالعواطف والاندفاعات دون القدرة على الأخذ بيده إلى الطريق الصحيح، ووضع الأوعية الشرعية لضبط حركته، الأمر الذي قد يؤدي به إلى ممارسات مغلوطة يدمر فيها نفسه ومجتمعه.
ومن هـنا نقول: إن من أخطر الأمور على الساحة الإسلامية اليوم: غياب القدوة، وافتقاد القيادة القادرة على ترشيد الشباب، وتمثل مشكلاته، وإدراك حاجاته، واستيعاب تطلعاته ونشاطاته، واغتنام تضحياته ووضعها في مصلحة الإسلام والمسلمين..
إن التضحيات الكبيرة التي يقدمها الشباب المسلم في هـذا العصر تكاد تفوق الوصف والتصور، لقد كان عطاؤه دون حدود، لكنه في النهاية يصاب بالإحباط وخيبة الأمل فيمن حوله، فلا هـم قادرون على تقديم تضحيات مثيلة، ولا هـم قادرون على وضع تضحياته في المكان المناسب. الشباب اليوم يعاني أزمة قيادة وأزمة قدوة؛ إن غياب [ ص: 13 ] القدوة وعجز القيادة عن وضع استراتيجية واضحة للشباب المسلم من خلال الإمكانات المتوفرة والظروف المحيطة، وعدم القدرة على إيجاد الأوعية الشرعية لحركته أوقعه في بعض الممارسات غير المدروسة تماما، والتي جاءت كرد فعل لعجز بعض الشيوخ واستسلامهم للباطل، أو مهادنتهم لسلاطين الاستبداد السياسي، أو قعودهم عن قولة الحق، أو انسحابهم من الساحة وترك الشباب يواجه مصيره على يد أعداء الإسلام بمفرده، وقد يساهم بعضهم من حيث يدري أو لا يدري بإنهاك الشباب المسلم، والنيل منه؛ لمجرد بعض الأخطاء التي توظف في النهاية لمصلحة أعداء الإسلام؛ إن الشباب المسلم اليوم يرمى بالكثير من الصفات والنعوت التي تحاصره وتحاول شل حركته، وإخراجه من الساحة، والتخويف منه، وإقامة الحواجز النفسية بينه وبين الناس؛ ولقد استطاع الإعلام المعادي للإسلام أن يزرع مصطلح التطرف الذي يدمغ به الشباب المسلم في كل مناسبة، ويجعل منه سلاحا يشهر وقت اللزوم؛ حتى أصبح كثير من بسطاء المسلمين ينظرون بارتياب إلى كل من يدعو إلى الله؛ دون الرغبة في مناقشة ما يدعو إليه وعرضه على ميزان الإسلام لمعرفة الحق من الباطل؛ ولقد ساهم بحملة التضليل هـذه بعض علماء السوء وفقهاء السلطان الجائر عن سابق تصور وتصميم، لأنه جزء من المهام المنوطة بهم في مخطط حملة الكراهية؛ كما سقط فيها بعض من العلماء عن حسن نية؛ ظنا منهم أن الأمر يقع ضمن مهمتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وليس المطلوب هـنا الدفاع عن خطأ الشباب، ولا حمايته، ولا تكريسه في عالم المسلمين، لكن [ ص: 14 ] المطلوب عند الحكم على الأعمال والتصرفات، وممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: القيام بعملية التصنيف في المواجهة، واتخاذ المواقف على ضوء رؤية واضحة، فقد يكون هـناك خطأ - وكل ابن آدم خطاء - من بعض الشباب العاملين للإسلام بسبب من رد الفعل، أو ضغط موقف غير إسلامي، أو ضعف ثقافة وضآلة فقه؛ ذلك أن وقوع الخطأ أمر محتمل منذ فجر الدعوة، والتصويب دائم منذ فجر الدعوة أيضا، والرسول صلى الله عليه وسلم قال للشباب الذين أخذوا أنفسهم بأكثر من الاعتدال: ( من رغب عن سنتي فليس مني ) وطلب إليهم الإيغال في الدين برفق ويسر؛ لكن الخطورة اليوم في هـذا النوع من التضليل الثقافي، أنه يسوي الخطأ بالانحراف، فهناك شباب مخطئون، وهناك أعداء منحرفون ديدنهم مطاردة الشباب المسلم، ومحاصرته، وتضخيم أخطائه، والإغراء به لقتل روح الفاعلية الإسلامية في نفسه، وإلغاء التوجه صوب الإسلام من نشاطه...
ولا شك أن الشباب المسلم أنظف الناس سلوكا، وأعلاهم أخلاقا، وأكثرهم وطنية، وأشدهم على أعداء الدين والوطن، وأحرصهم على مواجهة الاستعمار، وهم أجنحة الصحوة الإسلامية ورصيدها الدائب، ومعينها الذي لا ينضب؛ هـم رواد المساجد القارئون لكتاب الله، لذلك فهم المستهدفون دائما.
إن التعصب والتطرف والتزمت، وهذه القائمة من المصطلحات التي لا نهاية لها، والتي قذف بها الشباب المسلم بعد العجز عن تدجينه وتطويعه واحتوائه، هـي الألغام التي زرعت على أرض الصحوة الإسلامية لتنفجر في كل سائر على الطريق. [ ص: 15 ] ولعل المطلوب بإلحاح اليوم أكثر من أي وقت مضى: حماية الشباب من السقوط في مناخ التضليل الثقافي، والزيف الإعلامي، والقراءة التي تقدم له بأبجديات مغلوطة، الأمر الذي لا يقتصر سوءه على الواقع وإنما يمتد لتدمير المستقبل المأمول لهذه الأمة، حيث تفلسف الهزائم والنكبات ليجعل منها انتصارات، وتحسب الخسائر على أنها مكتسبات، ويقرأ له التردي والانهيار على أنه تقدم وإنجازات، وتوقظ النزعات الإقليمية وتكرس على أنها دعوة إلى الوحدة والاتحاد، ويمارس الذل والاستعباد على أنه تحرر واستقلال، والاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي على أنه ديمقراطيات شعبية، والتسلط الطبقي والحزبي والتمييز الطائفي على أنه تحقيق للدولة العلمانية المنشودة التي تؤمن المساواة وتنهي عصور الظلام والدولة الدينية!! والشباب إذا لم ينتشل من هـذا التضليل والضلال فسوف يكون غد الأمة أسوأ من يومها.
وفي اعتقادنا أنه لا بد للشباب أن يعيش الحقيقة؛ بأن يحس الهزيمة ويتعرف على أسبابها، ويستشعر التحدي الذي يستنفر هـمته ويشحذ فاعليته، ويدرب على استخلاص الدروس والعبر، فلا يكرر الخطأ؛ ويعرف الأمور على حقيقتها حتى يتمكن من التعامل معها. فهناك الكثير من المشكلات والقضايا " الإستراتيجية " التي لا يمتلكها جيل بعينه، ولا تختص بجيل ليدعي لنفسه حق التصرف فيها، ويحمل الأمة على مواقف متخاذلة من خلال واقع الهزيمة التي يعاني منها... [ ص: 16 ] ولا خيار للشباب المسلم اليوم في التعرف على مشكلات أمته والتحديات التي تواجهها، والنزول إلى الساحة وحمل هـموم جماهير الأمة، والاضطلاع بها والتضحية في سبيلها، وكسر مقولة فصل الدين عن الحياة - التي يقصد بها عزله -، وإيقاف تسللها إلى الوطن الإسلامي، واعتلاء أعلى المنابر العلمية المتخصصة التي هـي من الفروض الكفائية بالنسبة لمجموع الأمة، أما الذي يختار طريقها فهي فروضه العينية؛ وحل معادلة انفصال العلم عن الدين حتى يولد الإنسان الجديد الذي تنتظره الحضارة الإنسانية؛ المسلم الذي يمتلك المعرفة وأخلاقها، والوسيلة وأهدافها.
والكتاب الذي نقدمه اليوم لا ندعي له أنه استكمل دراسة مشكلات الشباب، وبلغ أبعادها الكاملة، وإنما هـو خطوة هـامة على طريق التأصيل والمنهجية لهذه القضية الهامة التي لما تأخذ بعد ما تستحقه من الدراسة والبحث والمتابعة والنظر، وعلى الرغم من أنه أتى على معظم الجوانب الهامة في الموضوع، وأبرز الدور المتميز للحل الإسلامي الذي لا يشكل اختيارا بالنسبة للمسلم؛ وإنما هـو وجود، إنه الحل الذي يعصمه الوحي، وترعاه عين النبوة وتغنيه سيرتها.
ومع ذلك فإن قضايا ومشكلات الشباب مستمرة، ولا بد من متابعة النظر والبحث والمعالجة، وإبراز منهج الوحي - الكتاب والسنة - في تربية الشباب وتقديم النماذج التي عرض لها القرآن من سير الأنبياء المعصومين ليكونوا وحدهم محلا للأسوة والقدوة؛ خاصة وأن التجربة الإسلامية في مجال تربية الشباب غنية أيما غنى؛ فالقرآن الكريم قدم سيدنا يوسف عليه السلام أنموذجا للعفة والطهارة، وسيدنا [ ص: 17 ] موسى عليه السلام نموذجا للقوة والأمانة، ومن قبلهما سيدنا إبراهيم عليه السلام أنموذجا للتحري والبحث عن الحقيقة، والصبر على الابتلاء؛ وفتية الكهف أنموذجا للتماسك والشخصية الاستقلالية، وعدم الذوبان في مجتمع الوثنية؛ ثم يأتي الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم لتلتقي عنده معالم النبوة وخصائص الأنبياء والتجربة الإنسانية من لدن آدم عليه السلام ليكون خير أنموذج للشباب في الأسوة والقدوة ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ) . وتأتي أهمية كتاب الأخ الدكتور عباس من أنه جاء ثمرة لتجربة ميدانية في إطار العمل ا لإسلامي الشبابي، إضافة إلى المهمة الأكاديمية التي يضطلع بها من سنوات في مجال العمل المهني التربوي والتعليمي بين شباب جامعات العالم الإسلامي، والله نسأل أن ينفع به ويجزي مؤلفه خير الجزاء. [ ص: 18 ]