المقدمة
تمثل مرحلة الشباب فترة التحول الكبرى في حياة الإنسان من حالة طفولة، واعتماد على غيره، إلى حال يتم فيها الاعتماد على النفس، واكتمال النمو الجسمي والعقلي والعاطفي.
والشباب هـو رأسمال الأمة، وعدتها وعتادها، وحاضرها ومستقبلها، وهو ثروة الأمة التي تفوق ثرواتها ومواردها كلها، فإذا أدركت الأمة كيف تحافظ على أغلى ثرواتها، وكيف تنميها وترعاها، وكيف توجهها وتستفيد منها وتغيرها، استطاعت أن تؤدي رسالتها في الحياة تحقيقا لسر وجودها، وتعميرا للأرض، وإثراء للحياة، وسعادة للبشرية في دينها ودنياها، وإن لم تدرك ذلك كتب لها الشفاء والتعاسة في دينها ودنياها. [ ص: 19 ] والشباب، كما يقول الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله: " ليس خيرا محضا، أو شرا محضا، الشباب عبارة عن الدم الفائر، عن قابلية اكتساب كل ما هـو حديث، عن كائن إذا اقتنع بشيء ورآه جديرا بالاكتساب لا يتأخر عن التضحية بالنفس في سبيله، بغض النظر عما إذا كان ذلك الشيء سيئا أو حسنا؛ وقوة الشباب هـذه مثلها كمثل حد السيف سواء، يستخدمه المجاهد في سبيل الله أو قاطع الطرق... إن الشباب هـم الذين كانوا دعاة المساوئ والمنكرات في أقدم العصور، كما كانوا هـم الجيش العرمرم لرفع ألوية الخير والصلاح؛ إن الشباب هـم أسرع اندفاعا من الشيوخ، وهذه الظاهرة لا تختص بعصر دون عصر بل عمت العصور وشملت كل الدهور. إن القبائح الخلقية التي تنتشر اليوم في أرجاء العالم : الشباب هـم أول المقبلين عليها؛ وهم الذين يزيدونها انتشارا ورواجا أكثر من غيرهم، بل هـم الذين يتغنون بابتكار المساوئ الجديدة في الحياة الاجتماعية، ولأجل ذلك أقول؛ إن الشباب ليس عبارة عن الشر المحض، إنه إذا رغب في شيء من الخير، واطمأن إلى كونه خيرا وجد في نفسه ما يجعله يضحي في هـذا السبيل بنفسه ونفيسه، ويقارع كل قوة ضده مهما بلغ شأنها وعظم أمرها، وتنشط مواهبه في ترويجه بعلمه وعمله " [1]
ولهذا كان الاهتمام بالشباب ضرورة تفرضها مصلحة الشباب من ناحية، والأمة من ناحية ثانية، فالشباب بحاجة [ ص: 20 ] إلى تربية تضع يده على ما أودع الله فيه من طاقات وإمكانات وقدرات عظيمة، بحاجة إلى تربية تشمل جسمه وعقله وروحه وعواطفه وانفعالاته، والى علم يربطه بتراثه، وقيمه وأهداف مجتمعه.
أما الأمة فحاجتها إلى سلامة الشباب كثيرة، فهي:
حاجة سياسية، لأن العلاقة بين السياسة والتربية علاقة تبادلية، ولأن تربية الشباب عملية سياسية في النهاية، خاصة ونحن نعيش في عصر الصراعات العقيدية، والمذاهب الفكرية ذات الطابع السياسي والحضاري والاقتصادي، وفي منطقة مستهدفة في عقيدتها، وتراثها، وتطلعاتها؛ وشبابها هـم الذين يعكسون آثار الصراعات السياسية في تفكيرهم وسلوكهم، ومقاومتهم واستسلامهم، وإعجابهم ورفضهم.
وهي حاجة اجتماعية، لأن التربية الاجتماعية السليمة هـي التي تؤدي إلى تماسك المجتمع، واعتزاز شبابه بثقافته، وقيمه وأخلاقه، وتقاليده وعاداته، وهي التي تعصمه من الاتجاهات غير المرغوبة، والتقاليد الوافدة، والمظاهر السلوكية الشاذة، والتفلت من قيم الجماعة، وضوابطها السلوكية والأخلاقية.
وهي حاجة اقتصادية، لأن الشباب هـو الثروة البشرية، والطاقة الإنتاجية التي تحتاج إلى تعليم موجه، يستثمرها، ويزيد من قدرات الشباب ومهاراتهم على أسس علمية أخلاقية تربط بين العمل وما يستلزمه من أخلاقيات وقيم توجهه لخير المجتمع ورخائه وسعادته.
وتحديد فترة الشباب زمنيا من الأمور التقريبية؛ لأن عمر الإنسان متداخل بعضه ببعض. غير أن هـذه المرحلة تتميز بخصائصها [ ص: 21 ] الجسمية والنفسية والاجتماعية والعقلية بما يميزها عن مراحل أخرى في حياة الإنسان كمرحلة الرشد، ومرحلة الأشد التي حددها القرآن بسن الأربعين ( حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين ) [الأحقاف:15 ]، ومرحلة الشباب حددها مؤتمر وزراء الشباب الأول في جامعة الدول العربية بالقاهرة عام 1969م من خلال الاتجاهات المتفق عليها في العالم في توصيته التي تقول: " يرى المؤتمرون أن مفهوم الشباب يتناول أساسا من تترواح أعمارهم بين 15-25 سنة؛ انسجاما مع المفهوم الدولي المتفق عليه في هـذا الشأن، غير أن ظروف الوطن العربي وطبيعة الشخصية الشابة النامية فيه تستوجب تخصيص رعاية عميقة متكاملة بمرحلة الطلائع التي تسبق سن الخامسة عشر، وربما تفرض الظروف امتداد هـذه الرعاية إلى ما بعد الخامسة والعشرين وفق متطلبات الشباب في كل قطر عربي " ومعنى هـذا أن هـذه الفترة تشمل الطلاب في المراحل الإعدادية والثانوية والجامعية الدنيا والعليا، ومن مثلهم في قطاعات المجتمع العاملة، وهم جميعا يتفقون في الحاجة للجهود التي تبذلها الدولة في سبيل تنمية مواردها البشرية وزيادة مهارات الأفراد وعلومهم وثقافتهم.
وهذا القطاع يحتاج إلى برامج علمية مدروسة تساعده على تنمية قدراته المادية والمعنوية بما يؤهله للقيام بمسؤولياته في الحياة على أساس من العقيدة التي تكون فلسفة المجتمع المسلم، وتحدد [ ص: 22 ] إطاره وحدوده، وبما يهيئ للشباب أن يرشد سلوكه، ويواجه التحديات التي تواجهه في الحياة، ويتوافق مع مجتمعه بما يمكنه من أداء واجبه، لأننا كما يقول الشيخ أبو الحسن الندوي : " نعيش في عزلة عن الشباب، وعندنا كثير من سوء تفاهم، ومن إساءة ظن، ومن جهل للوضع الذي يعيش فيه الشباب، فإذا ملئت هـذه الفجوة بين الكهول والشباب، وبين الدعاة إلى الدين، وبين الشباب الجامعيين والشباب المثقفين بالثقافة الغربية، يمكن أن نجر عددا كبيرا إلينا، ونجعلهم مقتنعين، مستجيبين لهذه الدعوة، متحمسين لها، ولكن ذلك يحتاج إلى مخططات دقيقة عميقة، مخططات علمية مدروسة، يحتاج ذلك إلى مكتبة جديدة، يحتاج ذلك إلى أسلوب جديد في الحديث مع الشباب، يحتاج ذلك إلى الحكمة التي أشار إليها القرآن بقوله: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هـي أحسن ) ، يحتاج ذلك إلى أن تكون عندنا أقلام قوية بليغة، وأن تكون عندنا تلك المقدرة البيانية والطلاوة الأدبية، وحلاوة التعبير التي لا يمكن لدعوة أن تشق طريقها إلى الأمام، وأن تنفذ في عقول الشباب وفي نفوسهم عن غير هـذا الطريق " [2]
. ومن أهم سمات هـذا العصر الذي نعيشه تلاشي المسافات والحدود بين الأمم، الأمر الذي يجعل كل ظاهرة أو فكرة أو اتجاه في العالم معروفا بل ومؤثرا في المجتمعات، وخاصة قطاع الشباب الذي يتوق إلى كل جديد ومثير، ويتأثر بكل حدث يحدث في أنحاء العالم، ولأننا ننعم بثمار الحضارة المادية بل نعيش في جانب الماديات عالة عليها، ولأننا [ ص: 23 ] نستهلك ما ينتجه لنا غيرنا، أصبحت هـذه الحضارة الأنموذج الباهر الذي يراه الشباب أمامه، والذي يمثل التحدي الأكبر لجيله والجيل الموجه له، ولذلك رأينا اتجاهات مختلفة إزاء الحضارة بعطائها المادي والثقافي.
الاتجاه الأول: يرى في حضارتنا الماضية وتراثنا وثقافتنا الاتجاه الجدير بأن نسير فيه، ويجعله مقياسا لما نأخذ من الثقافات وما ندع؛ فما كان متفقا مع تراثنا وقيمنا أخذناه،وما تعارض معهما نبذناه، وخطورة هـذا الاتجاه أنه يغفل المتغيرات ومتطلبات العصر، وحاجات الزمن، ويوصد الباب أمام الاستفادة والعطاء الجديد.
الاتجاه الثاني: يجعل الحضارة الغربية بثقافتها وقيمها أجدر بالاتباع والأخذ، فما كان متفقا من ثقافتنا وتراثنا وقيمنا مع قيم الحضارة المعاصرة أخذنا به وطورناه وما كان مخالفا لما تقدم ترك وترك الأخذ به، وخطورة هـذا الاتجاه أيضا في إلغائه للخصائص الذاتية المتكونة عبر الأجيال، وفي اعتقاده بأنه يتخطى عامل الزمن، وحواجز التخلف. وهذا الاتجاه يعمق الإحساس بالعجز لدى الشباب أمام الحضارة ومعطياتها، ويشل قدرتهم على الإبداع والابتكار والاجتهاد، كما أن خطورته في أن الشباب يجهل أو ينسى أن الحضارة التي يسرت له سبل الحياة، وقللت من معاناته، وينعم بها معجبا مبهورا، إنما يرجع الفضل فيها إلى ما أضاف المسلمون إلى الحضارة الإنسانية من إبداع واكتشاف وتطوير في مجالات [ ص: 24 ] الهندسة، والطب، والاجتماع، والرياضات وغيرها، بل لا يعرف أن العالم لم يكن ينعم بالتراث الإنساني لو لم ينقله العرب المسلمون، ويترجموه، ويضيفوا إليه؛ في زمن كانت أوروبا تقف من حضارتنا مثل ما نقف الآن أمام حضارتها؛ في انبهار تعجب وإعجاب.
الاتجاه الثالث: اتجاه وسط يجمع محاسن وأهداف الاتجاهين السابقين،وهو اتجاه سليم لأنه يواجه تحديات العصر الحضارية والثقافية بما يحفظ للأمة ذاتيتها الممتدة على مر الزمان، ويجعلها تعيش حياتها المعاصرة وفق المتغيرات الجديدة، ومعطيات الحضارة التي أسهموا فيها، ومن خلال التمسك بالثوابت التي لا تتغير بتغير الأزمان، والمرونة والتغيير والتطوير لما ليس من الثوابت بما لا يتعارض مع الأصول الثابتة من القيم الدينية والخلقية.
وقد وصل الشباب العربي المسلم في بعض البلاد - ومع غياب التربية والتوجيه والاهتمام - إلى أن يمارس الفاحشة كلها، لا يفرق أو يهتم بالحلال أو الحرام، بل ولا يبالي إن عاش كريما حرا عزيزا أو مهانا مستعبدا ذليلا، وأصبح المثل الأعلى لبعضهم نجوم السينما، ولا عبو الكرة، والمغنون، وشذاذ الآفاق، حتى إن محررا بإحدى الصحف العربية كتب مقالا عن المغني الزنجي الأمريكي " مايكل جاكسون " وضح فيه هـوس الشباب الفارغين به، وتقليدهم له، وانتشار أغانيه في أمكنة بيع الأشرطة والأفلام كلها، وارتداء القمصان التي تحمل صورته بين الفتيان والفتيات، كما [ ص: 25 ] وضح المحرر الأهداف السياسية التي تسعى الصهيونية في أمريكا والعالم تحقيقها من وراء التظاهرة الإعلامية الضخمة على مستوى الإعلام في العالم كله من الترويج لشخصية هـذا المغني المصاب بالشذوذ، والذي يتعاطى بعض الهرمونات الأنثوية لترقيق صوته...
وكأن هـذا المحرر قد ارتكب جريمة لا تغتفر، انهالت عليه وعلى صحيفته كل الكلمات الواردة وغير الواردة في قاموس السباب والشتم والتهديد، وكانت الغالبية الساخطة من الفتيات، الأمر الذي يدل على عظم مصيبة هـذه الأمة في شبابها إن لم تتدارك أمرها بمنعرج اللوى، كما قال الشاعر العربي.
إن الأمة العربية ما لم تعزز قوتها المتمثلة في شبابها فإنها لن تقوى على مواجهة أعدائها، وعلى مقاومة الأطماع اليهودية والصليبية في استنزاف قدرات المسلمين وخيراتهم وبلادهم، لأن طريق الانحلال والتفسخ، وإهمال الشباب؛ بعدم تربيته تربية جادة هـادفة هـو الطريق للطامعين والغزاة.
إن في شباب العرب والمسلمين شبابا باعوا أنفسهم لله، يتطلعون لشرف حمل الرسالة الخالدة باعتزاز وفخر، استحوذت دعوة الله على مشاعرهم وقلوبهم، وأصبحوا في مأمن من الدعوات والفلسفات المقدمة لهم، غير أن قوى الشر كلها تقف في طريقهم، تحاربهم بكل الوسائل، وتحرض عليهم القريب والغريب، وتصفهم بالصفات المنفرة كلها، وتلصق بهم التهم كلها، وتستخدم في ذلك وسائل الإعلام كلها، الأصيلة، [ ص: 26 ] والعميلة، العالمة، والجاهلة، كما تستخدم كثيرا من الساسة ضدهم؛ تؤلب فيهم نقاط الضعف في حياتهم، والخوف من مكتسباتهم؛ غير أن هـذا الشباب يحتسب ذلك كله، ويتحمل ذلك كله في سبيل مرضاة الله، وإظهار الحق، ومجاهدة الباطل، لا يخشون أحدا إلا الله، ولا يهابون عدوا ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) [آل عمران: 173].
إن هـؤلاء وأولئك بحاجة إلى أن يهتم بهم، وأن يعطوا حقهم في بناء أنفسهم وبلادهم على أساس من تعاليم كتابهم، وهدي نبيهم صلى الله عليه وسلم لأن المستقبل لهم، وعلينا إعدادهم لحياة غير حياتنا، وزمان غير زماننا، لا أن نفعل كما قال محمد إقبال عن ولاة التعليم: " إنهم يربون فراخ الصقور تربية بغاث الطيور، وأشبال الأسود تربية الخراف " .
إن الشباب هـم أمل الحاضر، وجيل المستقبل، وهم بالإعداد قادرون على أن يبدلوا وجه الكون، ويقودوا البشرية بعد إنقاذها إلى رحاب الله الواسعة، وعبادته الحقة، وهديه المستقيم.
الدكتور: عباس محجوب [ ص: 27 ]