[3] ضوابط تربوية
من الظواهر اللافتة للنظر في حياة البالغ أو ما يطلق عليه المراهق: قلة اعتماده على والديه، لأنه يتطلع إلى الاستقلال بنفسه، إذ يعتبر نفسه إنسانا له اهتماماته وشخصيته وإحساسه الخاص، بعد أن أصبح كبيرا ولم يعد ذلك الطفل الذي يتلقى الأوامر من والديه في كل صغيرة وكبيرة، فهو قد أصبح من منظوره لنفسه ناضجا واعيا يحتاج إلى تطوير علاقاته مع أصدقائه ومجتمعه، والإسلام لم يهمل هـذه الناحية من التربية ولكنه نظمها بضوابط بعضها ضوابط شخصية وبعضها اجتماعية.
أ- الضوابط الشخصية
أول المبادئ التي يرى الإسلام بناء حياة الفرد عليها هـي: الاستقامة على قوانين الفطرة الطبيعية التي أودعها الله في الإنسان، واتباع هـذه القوانين وعدم الخروج عليها. وقوانين الفطرة تلزم تربية الناس على حياة الطهارة والعفة والشرف والفضيلة والتقوى، لأن الخروج على هـذه التربية والانحراف عنها يعتبر خروجا على القوانين التي أنشأ الله عليها الكون والسماوات والأرض والكائنات، ومنها: الإنسان: [ ص: 92 ] ( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هـدى ) [طه:50 ]. فإذا تجاوز الإنسان الحدود التي وضعها الله، والقوانين التي أمره بالتزامها في الدنيا، فإنه بسلوكه ذلك يظلم نفسه ويعرضها لعقوبات تفرضها عليه قوانين الله المودعة في الطبائع، لأن ( ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه )
ولهذا حرم الإسلام كل أمر يضر بالإنسان في حياته الدنيا، مثل: الخمر والزنا وغيرهما، كما حرم كل علاقة غير شرعية في المعاملات البشرية على المستوى الشخصي أو الاجتماعي، وسد الأبواب الوسائل المؤدية إلى المحرمات، ولذلك فإن التربية القائمة على العقيدة النقية والإيمان الكامل، وعلى الطهر والبراءة، والخوف من الله ومراقبته في السر والعلانية، والعبودية المطلقة لله، كل هـذه وغيرها هـي التي توجد العفة في النفوس، وتحبب حياة الشرف والعفة والفضيلة، والمراقبة الدائمة لله هـي التي تحصل الشباب المسلم ناشئا على الاستقامة، قويا صامدا أمام غوايات الشيطان وهمزاته ونداءات الشهوة وسعارها، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هـم مبصرون ) [الأعراف: 200-201 ] وقد فسر الإبصار هـنا بأنه الاستقامة على أمر الله وتصحيح السلوك، لأن الاستعاذة بالله اعتراف بالقدرة، واعتراف من العبد بالضعف والعجز أمام غواية الشيطان الذي لا يرد كيده عن الإنسان إلا الالتجاء إلى الله، وتذكره الدائم والاستعانة به في أمور الدنيا والدين.
ولأنه لا يكفي البقاء على حياة الاستقامة والعفة دون ضوابط أخرى مساعدة دعا الإسلام إلى الزواج باعتباره الوسيلة الطبيعية لحل مشكلة [ ص: 93 ] الحاجة الجنسية، فالرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الشباب أن يغض بصره، ويحصن فرجه بالزواج، وأن يصوم ما أمكن إن لم يستطع الزواج لأن الصوم يقلل من حدة الشهوة ويزيد من طاقات الإنسان الروحية والنفسية، وقد روي عنه ( قوله صلى الله عليه وسلم : الغلام يعق عنه يوم السابع، ويسمى، ويماط عنه الأذى، فإذا بلغ ست سنين أدب، وإذا بلغ تسع سنين عزل عن فراشه، فإذا بلغ ثلاث عشرة ضرب على الصلاة والصوم، فإذا بلغ ستة عشرة زوجه أبوه، ثم أخذ بيده، وقال: قد أدبتك وعلمتك وأنكحتك، أعوذ بالله من فتنتك في الدنيا وعذابك في الآخرة ) [رواه ابن حبان ].
فالآباء مسئولون عن تربية أبنائهم وتعليمهم وتزويجهم إن أمكن، حصانة لهم ومساعدة على الاستقامة، فإذا لم تتيسر للشاب الزواج فعليه مجاهدة نفسه بالتعالي على غرائزه والاستعفاف، والتمسك بالفضائل، وتوجيه طاقاته في عبادة الله، وعمله الحلال؛ حتى يجد الله له سبيلا. ( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله )
[النور:33 ].
وعن إغناء الله لمن أراد الزواج تعففا عن الحرام، ( يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والمجاهد في سبيل الله ) [حديث صحيح رواه أبو هـريرة، تفسير ابن كثير ص 280 ج 3 ]، وليس طلب العفة خاصا بالرجال فقط.
والمسلم الذي يتمسك بحياة العفة والشرف أمام الإغراء المادي، ويتخذ ذلك سلوكا في حياته، ولا يلين أو يتهاون؛ هـو الذي جعله الرسول صلى الله عليه وسلم واحدا من الذين يظلهم الله بظله يوم القيامة، لأن الذي منعه من ارتكاب ما حرم عليه هـو خوف الله رب العالمين، وفي القرآن مثال [ ص: 94 ] لذلك الشاب المسلم، وهو سيدنا يوسف عليه السلام ، حيث دعته امرأة العزيز، وراودته عن نفسه، وهددته، وتوعدته بالسجن والإذلال، ففضل ذلك على معصية الله والتخلي عن الاستقامة والعفة، واستنجد بالله طالبا منه أن يقف معه في محنته، ويصرف عنه كيدها، فاستجاب الله لدعائه لعلمه بإخلاصه، واستقامته على أمره، وصدق دعوته، وطهارة نفسه:
( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ) [يوسف:24 ].
ب- الضوابط الاجتماعية
لم تكتف التربية الإسلامية بالضوابط الشخصية في السيطرة على الرغبات الجنسية، ولكنها اتخذت عدة ضمانات، وسدت المنافذ التي يمكن أن تؤدي إلى إثارة الشهوة والفساد، ويمكن أن نذكر بعض هـذه الضوابط فيما يلي:
(1 ) غض البصر للرجال والنساء، حيث يقول الله سبحانه وتعالى:
( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات [ ص: 95 ] النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون ) [النور: 30-31 ]. فالمسلم مطالب بغض النظر عما حرم الله؛ إلا إذا كان ذلك فجاءة، فطهارة القلوب وتزكيتها تكون بحفظ الفروج، والابتعاد عما يؤدي إلى الزنا من مقدماته ووسائله كيفما كانت، وتحديد العلاقات بالطريقة التي ذكرها القرآن أمر لا يختلف اثنان فيه، والمهم هـو أن يتربى المجتمع المسلم بالصورة التي يحارب فيها مظاهر الفساد والاختلاط والتسيب في العلاقات بين الرجال والنساء، ومحاولة إخضاع التعاليم الإسلامية لمتطلبات العصر، والاستسلام للغزو الاجتماعي الذي عم كثيرا من المجتمعات، وجعل الكثيرين يحاولون البحث عن تبرير إسلامي لواقع عجزوا عن تغييره أو قول كلمة الحق فيه.
(2 ) تحريم خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية؛ لأنه ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما، كما ( يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد روى سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قوله صلى الله عليه وسلم : ألا لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم. فقال له رجل: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، قال: انطلق فحج مع امرأتك ) [ البخاري ومسلم ].
وهذا من ضمن الاحتياطات التي اتخذها الإسلام لحفظ الرجال والنساء، ولصيانة المجتمع من مظاهر التحلل الخلقي والفوضى في العلاقات، هـذا بالإضافة إلى الأمر بالاحتشام، والنهي عن السفور والتبرج، وإظهار المحاسن من النساء؛ لأن هـذه الأشياء هـي التي [ ص: 96 ] تثير الرجال شيبا وشبابا، وتحرك الغرائز، وتجعل كلا من الجنسين يبحث عن الآخر لإرواء ظمئه، وإطفاء سعار الشهوة فيه، ولا يشك مسلم في حرمة ما نرى من لباس تلبسه كثير من النساء تبعا لخطوط " المودة " ، ونزولا على رغبة بيوت الأزياء العالمية، والمؤسف أن النساء في دول إسلامية معينة مأخوذات بهذا البريق، وسائرات بنشاط وراء مظاهر العري والتحلل ظنا منهن بأن ذلك مرتبط بالتحضر والمعايشة للعصر، بينما نجد النساء في دول عانت من السفور ومظاهره، والتحلل وأوبئته، يتجهن إلى الأخذ بالتعاليم الإسلامية في اللباس والمظهر والسلوك والجوهر أيضا.
وكثير من اللباس الذي يروج له في وسائل الإعلام لا يستر من المرأة شيئا، وقد يحدد كل شيء في جسمها، ويظهر مفاتنها، ثم نجدها تلبس مع ذلك أنواعا مختلفة من باروكات الشعر فتزيدها فتنة وإغراء، وهن اللائى قصدهن الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي رواه أبو هـريرة رضي الله عنه حيث يقول: ( صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا ) [ مسلم ].
(3 ) أدب الحديث بين الرجال والنساء، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى مربيا وموجها لنساء الرسول صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين: ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا ) [ ص: 97 ] [الأحزاب:32 ]، والآية لا تدل على تحريم حديث النساء للرجال، وإنما يحرم ترقيق الكلام وتنميقه وتكسيره - والرجل بحسه يميز ذلك ويعرفه - وهو الذي يؤدي إلى الفتنة والإغراء والإثارة.
(4 ) ومن تربية الإسلام في هـذه الضوابط وتنظيم العلاقات: وجوب الاستئذان، أي: استئذان الأطفال إذا بلغوا الحلم؛ حتى ينشأ جيل المسلمين الجديد سليما معافى، محترما لحرمة الحريات الشخصية للرجال والنساء:
( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم )
[النور: 58-59 ]، ومع أن الله سبحانه وتعالى قد بين في الآيات [27-29 ] من سورة النور آدابا عامة للمسلمين في الاستئذان؛ إلا أنه فصل هـنا آداب الاستئذان للأرقاء، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، وحدد ذلك بأوقات ثلاثة، أما إذا بلغ الأطفال الحلم فإن الاستئذان يكون في الأوقات كلها، وهذه الآداب هـي التي تعمق في النفوس حرمات البيوت، وتربي على الرفعة والسمو والعفة، واحترام الحريات الشخصية للناس، وأولهم الأقارب. [ ص: 98 ] (5 ) تحريم العلاقات الجنسية الشاذة بأنواعها المختلفة، كما حرم المظاهر الشاذة في تشبه الرجال بالنساء، واسترجال النساء، فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن المتخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، كما لعن المتشبهين من الجنسين بالجنس المغاير لهم؛ سواء أكان هـذا التشبه في الأصوات، أو الحركات، أو في فعل شيء هـو من خواص جنس دون آخر، كلبس بعض الرجال للشعر المستعار، وإطالة الأظافر والشعر، ولبس الكعوب العالية، ووضع مساحيق الزينة واستعمال أدوات التجميل، ولبس السلاسل الذهبية على المعاصم والنحور، وتزجيج الحواجب، وأخذ الحقن التي تزيد نسبة هـرمونات الأنوثة في الرجال حتى لا يظهر الشعر في الشارب والذقن، وقد يؤدي أحيانا إلى بروز الصدر وتكوره كالنساء، وكذلك ارتداء الملابس الشفافة التي تكشف العورة وغيرها، وقد روى أبو هـريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل )