القسم الثاني : الإدمـان.. لمـاذا؟
لكي يتخلص الإنسان من هـموم الحياة ويقطع دابر الضجر، أو القلق الناجم عن المعاناة اليومية، التي يعتبرها من أبشع صور البغي والقسوة، فقد لجأ منذ العصور الخوالي إلى جنة الأحلام أو الفردوس الموهوم. وتصاعدت هـذه الدعوة في الجيل المعاصر للحضارة الصناعية، لتعبر عن ظاهرة الرفض لهذه المجتمعات التي تجردت عن جميع القيم. حيث أدار الشباب اليوم ظهورهم إلى هـذه المدنية الزائفة، ولم تعد تبهرهم أساليب الرأسمالية، ولا تهريج الماركسية، وأصبحوا هـائمين على وجوههم ينشدون الحرية ... الحرية بلا حدود ... وتصوروا عالم المخدرات وأحلامها هـو الحل الوحيد لمعاناتهم من بأس الحياة وقسوتها.
هذا الإنسان الذي يعيش في فراغ: فراغ في العاطفة، وفراغ في الفكر والعقل، وفراغ سياسي، وفراغ اجتماعي.. لا يرى في مجتمع الكهول ما تتوق إليه نفسه من الحب والعاطفة والإنسانية... فيميل إلى العزلة والعودة إلى الحياة البدائية البسيطة، ولا يهتم بكل ما يجري حوله كالطفل الرضيع لا يتعدى عالمه صدر أمه وثدييها وحنانها.
لم يدر في خلد هـذا المسكين حينما لجأ إلى تعاطي المخدرات أنه يهرب كما يقول المثل العامي (من تحت الدلف إلى تحت المزراب) ... [ ص: 165 ] فهو يسعى إلى حتفه بنفسه، ويحفر قبره بيديه... والمآسي التي تصيبه لا علاج لها.
لقد عم الإدمان على المخدرات المعمورة من أقصاها إلى أقصاها ... فلقد أشار مكتب هـيئة الأمم المتحدة لمراقبة المخدرات في تقريره عن عام 1981 بأنه متشائم جدا، ويائس من خلال ملاحظته للتزايد الهائل على استهلاك المخدرات، وانتشار التهريب في كل بقعة من بقاء الأرض، وفي كل مستويات الشعوب. ولم يسجل تعاطي المخدرات أي تراجع في الأعوام الفائتة؛ بل على العكس اتسع انتشاره من الناحية الجغرافية والبشرية، مارا بجميع البلاد الصناعية المتحضرة إلى البلاد النامية والمتخلفة؛ بما في ذلك المراهقين والأطفال على حد سواء. وتزداد الحالة سوءا وخطورة بقدر ما تصبح المخدرات أسهل تناولا واستعمالها أقل حذرا.
ومن الجدير بالذكر أن مكافحة المهربين، تصبح أكثر صعوبة بقدر اتساع شبكاتهم، وبقدر ما تتعذر مراقبة إنتاج المخدرات في بعض البلدان. وهكذا نرى أن إنتاج الأفيون قد تضاعف (3) مرات في عام (1981) في جنوب شرقي آسيا وبلغ ما يزيد عن (600) طن. وقسم كبير من هـذه الكمية يحول بصورة رئيسة إلى هـيروئين ليصدر إلى الأسواق الأوربية أو إلى أمريكا الشمالية.
ومن الملاحظ أن الاضطرابات السياسية تساهم كثيرا في عملية التهريب: ففي الأشهر الستة الأولى من عام 1981 تمكنت السلطات [ ص: 166 ] الإيرانية من مصادرة طن واحد من الهيروئين، وطن واحد من المورفين، و (17) طنا من الأفيون.
ومن جهة أخرى فقد تزايد إنتاج أوراق الكوكا في كل من بوليفيا والبيرو بعيدا عن المراقبة.. مما ساهم في إنتاج الكوكائين بصورة هـائلة وغير شرعية.. ولو حظ أيضا أن استهلاك معجون أوراق الكوكا في التدخين يتزايد بصورة سرطانية في أمريكا الجنوبية مسببا لكثير من الاضطرابات النفسية والجسمية لدى المدمنين.
وكذلك الحشيش فقد تفاقم استهلاكه وإنتاجه وخاصة أنه يستهلك بالمشاركة مع غيره من المخدرات.
والخزانة الدوائية أصبحت غنية اليوم بالأدوية النفسية والعصبية التي يسبب تعاطيها المستمر الإدمان والإذعان.
وتجاه تفاقم هـذه الجائحة، فقد وجه المكتب الدولي لمراقبة المخدرات نداء إلى الحكومات لاتخاذ الإجراءات اللازمة للمكافحة المنهجية والجادة ضد الإنتاج والتهريب لجميع العقاقير المخدرة: ويضيف النداء بأن الحكومات المسؤولة تعلم تماما بأنه ما لم يتم تناقص الطلب على المخدرات، فلن يكون هـناك تراجع في التهريب في منطقة معينة، وأن المنتجين يبحثون دائما وباستمرار عن طريقة جديدة كلما سدت في وجوههم الطرق القديمة للتهريب.
ولهذا السبب يطلب المكتب بأن تتضافر جهود الحكومات وتوجه باتجاه الوقاية ضد استعمال المخدرات، وكذلك باتجاه معالجة المدمنين المصابين على أن يساهم في ذلك جميع طبقات الشعب حتى تكون [ ص: 167 ] الحملة ناجحة ومفيدة. واقترح هـذا المكتب في تقريره بأن تنظم هـيئة الأمم المتحدة بأسرع ما يمكن (سنة دولية لمكافحة الانسمام بالمخدرات) لعل ذلك يوقظ ضمائر الأمم الأعضاء للتعاون ضد هـذا السيل العارم الذي أصبح يهدد جميع أمم الأرض بالأخطار المحدقة.
ونتساءل اليوم عن الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي تدعو الشباب إلى الإدمان على هـذه السموم الفتاكة؟
ويشير الخبراء النفسيون.. أن للإدمان أسبابا متعددة، منها ما يتعلق بالبيئة التي تحيط بالمرء وتفعل فيه فعلا شديدا، كالبيت وما فيه من تفكك للروابط العائلية، والمدرسة وما فيها من عدم مبالاة؛ وانحراف عن القيم الأخلاقية؛ والمجتمع وما فيه من شرور ومآس.
وتدل الإحصاءات الرسمية في كل البلاد الصناعية المتقدمة أن نسبة هـائلة من الأطفال في المدارس الابتدائية قد جربوا المخدرات.. وأن أكثر من نصفهم استمر في تعاطيها.. وقسما كبيرا منهم أصيب بداء الإدمان.
وذكرت بعض المشاهدات أن مديرا لإحدى المدارس المتوسطة في نيويورك، كان يقدم المخدرات لتلاميذه ليساعدهم على تحمل الصدمات والانهيار نتيجة لفشلهم الدراسي. ولوحظ أن هـؤلاء الأطفال الذين يعتاودن على استعمال هـذه السموم البشعة يصبح بمقدورهم أن يتناولوا مقادير أكبر يوما بعد يوم، حتى يقعوا في مرحلة الاستعباد الخطير الذي يتعذر شفاؤه.
ويشير العالم الكندي سوليير أن من الأسباب الرئيسة التي تدفع الفتيان [ ص: 168 ] إلى تعاطي المخدرات: الفشل والضجر، وأن الفشل الدراسي بين الصغار أخذ يتزايد يوما بعد يوم في كثير من بلاد العالم، مما يؤدي إلى شعورهم بالنقص والضعف، وبالتالي يشعرون بالحاجة الماسة إلى ما ينسيهم ما هـم عليه، فيلجأون إلى هـذه السموم الخطيرة؛ ويؤدي ذلك إلى سوء أخلاقهم واحتقارهم لهذه الحياة وكل ما يحيط بهم، لأنهم لا يرون فيها إلا السآمة والضجر.
وأشد فترة تستشري فيها هـذه العادة، حينما تغلق المدرسة أبوابها وتترك الأولاد في حالة الضجر والفراغ؛ وليس من ورائهم عائلات تسهر عليهم، وتعمل على تربيتهم وتوجيههم الوجهة السليمة، لأن هـذه العائلات هـي نفسها عائلات متمزقة ومتفككة، لا تقوى على ما تعانيه في تركيبها من مشكلات، حتى تستطيع أن تتفرغ لهؤلاء الضحايا المساكين.
وتدل الإحصاءات أن كثيرا من المدمنين ينتمون إلى ما يزيد عن (90%) من العائلات التي تفككت أواصرها، وتلاشت الروابط الزوجية فيها، وخلفت هـؤلاء الأولاد ليكونوا فريسة الفراغ والملل، وليس لهم من وسائل التسلية إلا التافه منها، كالتلفزيون الذي يغرق حياتهم بما يقدمه من مشاهد يومية مليئة بصور العنف والإجرام والجنس والحض عليه؛ وما تبقى لهم من الوقت يقضونه مع هـذه السموم التي تئد حياتهم وهم في مقتبل العمر.
ولقد دلت الإحصاءات الأخيرة في فرنسا، على أن عدد الطلاب الصغار الشاذين يزيد عن مليون، وأن أكثر من (13%) منهم يجب أن [ ص: 169 ] يوضع في معاهد تربوية خاصة لتعيدهم إلى حياتهم الطبيعية، وأن أكثر من (50%) منهم يعيد سنته الدراسية مرتين أو أكثر في المرحلة الابتدائية، وأكثر من (30%) يعيدون سنتهم الدراسية في المرحلة المتوسطة.
ومما يزيد الأمر خطورة، أنها انتشرت في السنين الأخيرة سموم حديثة أخذ استعمالها يتفاقم يوما بعد يوم، وخاصة في مستوى الأولاد والشباب؛ ومما شكل مأساة خطيرة، استدعت انتباه الكثير من المؤسسات الطبية والتربوية. ومن الجدير بالذكر أن هذه السموم لا تخضع حتى الآن إلى قوانين صارمة تنظم تجارتها؛ بل هي على العكس أصبحت في متناول جميع الناس.
وكان أول من لفت النظر إلى هذه السموم أحد الموجهين التابعين لوزارة الصحة في مونتريال بكندا، حين تقدم بتقرير تأكد له فيه أن (13%) من الشباب (تتراوح أعمارهم من 8-16سنة) يتعاطون بعض أنواع من المحروقات البترولية (البنزين و أ ضرابه) التي تحدث فيهم مع الزمن انسماما عقليا خطيرا. وحينما اتسع في تحقيقه في نطاق المدينة أصابته الدهشة عندما لا حظ أن هؤلاء الشباب يستنشقون بعض أنواع من المذيبات، والسوائل العضوية أو البترولية، على اختلاف مصادرها كمبيدات الحشرات والمنظفات المنزلية، وبنزين السيارات، ومذيبات الطلاءات (الورنيش)، وطلاءات الأظافر، وعددا من الغازات التي تضغط بها الزجاجات المعبأة بمركبات التجميل، وبعض المركبات المستعملة في تنظيف الأفران المنزلية. وعددا من المواد اللاصقة.. [ ص: 170 ]
وذلك بأن يضعوا هـذه المواد في أكياس من البلاستيك، ثم يدسوا فيها رؤوسهم ليستنشقوا الأبخرة السامة خلال فترة ما من الزمن. ولا حظ أن بعض الناس يجبرون الأطفال بالقوة ليقوموا بهذه العملية، أو يجربوها للمرة الأولى لأغراض غير شريفة.. فيؤدي هـذا الاستنشاق إلى نوع من السكر وضياع الرأس، واضطراب العقل والشعور بالنشوة الخاصة، التي كثيرا ما تدفع المصاب للقيام بالأعمال العدوانية المتوحشة.. وإذا استمرت عملية الاستنشاق فترة أطول من الزمن أدت بالنتيجة إلى الانهيار العام وفقدان الوعي.
ولقد شوهدت بعض الوفيات الناجمة عن هـذه السموم ووصفت حالة طفلين أحدهما عمره (8) سنوات والآخر (15) سنة وجدا ميتين على مدخل المجلس النيابي الكندي وكان رأس أحدهما لا يزال مدسوسا في الكيس البلاستيكي المعبأ بالمادة السامة.