1 - الواقع وآلات فهمه
نعني بالواقع الإنساني ما تجري عليه الحياة في مجتمع ما من أسلوب في تحقيق أغراض ذلك المجتمع، ويدخل في ذلك مجموع الأعراف والتقاليد والنظم، التي تتفاعل فينشأ منها الأسلوب في تحقيق الأغراض.
وأسلوب تحقيق الأغراض الحياتية يشتمل على عنصر اجتماعي، متمثل في بنية الترابط الاجتماعي، وطبيعة التنظيمات [ ص: 122 ] الاجتماعية التي يمارس من خلالها الأسلوب الحياتي، كما يشتمل على عنصر اقتصادي، متمثل في نظام الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، وما يجري عليه من قواعد، كما يشمل عنصرا سياسيا، يتمثل في طبيعة الحكم القائم في المجتمع ونظامه، وعنصرا ثقافيا، متمثلا في أنماط التعبير الفني التي ينتهجها الناس في تصوير آمالهم وآلامهم وأفراحهم وأتراحهم.
وإذا كانت هـذه العناصر كلها تعود في معرض تنوعها في شكلها العملي إلى أرضية مشتركة من الرؤى الإيديولوجية، التي تنضبط فيها تصورات الوجود، وغاية الحياة، ومصير الإنسان، فإن هـذا العنصر الإيديولوجي يكون العنصر المهم في الواقع الإنساني، باعتبار ما يتفرع عنه من أنماط السلوك التي تشكل أسلوب الحياة.
ويتصل بهذا كله، اتصال سبب ونتيجة في آن واحد، ما يكون عليه الإنسان من بناء فكري، بمعنى منهجي يكون له دور في تحصيل الرؤى الأيديولوجية، وفي إجراء الأنماط السلوكية، كما يكون له انفعال بها أيضا، وكذلك ما يكون عليه من وضع نفسي، يتعلق خاصة بالإرادة التي بها تكون فعالية الإنجاز، وبها يكون التفاعل مع الكون استكانة له، أو اقتحاما لاستثمار مرافقه. فكل من ذلك الوضع الفكري والنفسي يعد من عناصر الواقع الإنساني، الذي نحن بصدد الحديث عنه. [ ص: 123 ]
والواقع الإنساني بالعناصر التي حددناها آنفا، يختلف لا محالة في طبيعته عن الواقع الكوني، من حيث السنن والقوانين، التي بها يكون انضباط سيرورته. فالواقع الكوني يجري على قانون ثابت، في تحول أوضاعه، وفي تفاعلاته المفضية إلى حركة التغير فيه، ولذلك فإن الاجتهاد في فهم حقيقته يثمر المعرفة اليقينية بتلك الحقيقة، لما بنيت عليه من اطراد في سننها، وعلى أساس تلك المعرفة اليقينية، يتعامل الإنسان مع الكون في جهوده التي يبذلها في تكييفه لمصلحته، تعاملا مبنيا على ذلك الاطراد الذي لا يتخلف.
ولكن الواقع الإنساني ليس منضبطا كواقع الكون، فالعنصر الروحي في تكوين الإنسان والإرادة الحرة التي يختص بها، جعلا هـذا الواقع يتصف بقدر كبير من الخفاء في العوامل والأسباب، التي تنشأ عنها الظواهر والأحداث، كما يتصف بقدر كبير من الخصوصية في التفاعل، كان بها غير واضح في انضباطه واطراده. وبهذا كله يكتسب الواقع الإنساني صفة من الغموض من جهة، وصفة من عدم الاطراد في السيرورة من جهة أخرى. وهما صفتان تجعلان منه موضوعا عصيا عن الفهم اليقيني، مقارنة بالمواضيع الكونية، وقد سجل هـذا المعنى أحد الفلاسفة المهتمين بالإنسان [ ص: 124 ] وهو الكسيس كاريل في كتابه الشهير " الإنسان ذلك المجهول [1] .
ويقتضي هـذا الوضع لواقع الإنسان، أن يكون الاجتهاد في فهمه واستيعاب حقيقته مبنيا على أدب خاص، وقواعد تتناسب مع طبيعته، وأن تستخدم فيه وسائط آلية للتحليل والتصنيف والرصد قائمة على أسس علمية، غير متروكة للتلقائية والعفوية.
والمنطلق الأول لفهم الإنسان وواقعه هـو الانخراط الفعلي في هـذا الواقع: معايشة للناس، وتعاملا معهم، في تصرفات الحياة المختلفة، ووقوفا على مشاكلهم عن كثب، ومساهمة واقعية في مناشطهم المتنوعة، تعميما لذلك كله على أوسع نطاق ممكن، من الطبقات، ومن الفئات، ومن أنماط المجتمعات. إن هـذا الانخراط الفعلي في الواقع الإنساني، قدر ضروري لا غنى عنه لمن يريد فهمه، سواء كان فقيها مشرعا أو فيلسوفا مصلحا أو أديبا معبرا عن الطموح الإنساني. وكل من رام غرضا من هـذه الأغراض، في عزلة عن خضم الواقع الإنساني، في مظاهره [ ص: 125 ] الفردية والاجتماعية، لا يكون منه إلا مقولات مبنية على المثالية والخيال، فلا تثمر تغييرا فاعلا نحو الأصلح، ولنا في ذلك مثال، في المدن الفاضلة التي تصورتها عقول بعض الفلاسفة ومنهم بعض الإسلاميين مثل أبي نصر الفارابي (ت 339هـ) . ولا تخلو كثير من الآراء الإصلاحية، التي ينادي بها اليوم، بعض المخلصين في الحركة الإسلامية، من خيالية ومثالية، نتيجة التنكب عن ممارسة واقع المشاكل التي يعانيها المسلمون.
ولكن الانخراط الفعلي في واقع الناس لئن كان منطلقا ضروريا لفهم هـذا الواقع، فإنه غير موف بالفهم العلمي العميق، الذي ينفذ إلى الخفي من العوامل والأسباب، في تكوين الواقع الفكري والنفسي، وفي تفاعلات الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
إن هـذا الفهم العميق لا يتم إلا باستخدام أدوات للرصد والتحليل، تتجاوز الملاحظة الظاهرة، وهي الأدوات المتمثلة أساسا في العلوم الإنسانية، فيما توصلت إليه من نتائج تقرب من اليقين، في مجال النفس الإنسانية، وفي المجال الاجتماعي والاقتصادي. فهذه العلوم بطرق بحثها وقوانينها أدوات ضرورية للكشف عن التركيبة النفسية الفردية والاجتماعية، التي تشكل الواقع النفسي للفرد وللأمة، فيما تشتمل عليه من مركبات أو أمراض أو عوائق، يكون من الضروري أخذها بعين الاعتبار، [ ص: 126 ] حينما يراد تنزيل الدين في واقع الحياة الفردية والاجتماعية. وكذلك الأمر بالنسبة للتركيبة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية فيما تعانيه من مشاكل، وفيما ترسب فيها من عقد عبر التاريخ، أو عبر التفاعل بين الحضارات والثقافات، فإن علوم الاجتماع والاقتصاد والإحصاء، وما يتعلق بها من علوم، أدوات ضرورية في الكشف عن هـذه المعطيات، التي لا غنى عنها في إقامة الدين لتجري عليه الحياة الاجتماعية الشاملة.
يتبين إذا أن فهم الواقع الإسلامي يستلزم أدبا كاملا يوازي ذلك الأدب الذي يستلزم فهم الدين. والحق أن الدارسين الإسلاميين لم يولوا هـذا الأدب العناية الكافية، كما أولوا من عناية بالفقه الديني، وربما كانت جهود القدامى في هـذا الصدد أزكى من جهود المحدثين، فقد كانت المذاهب الفقهية في طور تأسيسها خاصة تقوم على فهم لأحوال المسلمين على عهدها، ومن ثمة انطبع كل مذهب بطابع البلاد التي نشأ فيها، ومن شواهد ذلك أيضا ما كان للإمام الشافعي من مذهب قديم لما كان بالعراق ، وآخر جديد لما انتقل إلى مصر .
والواقع الإسلامي على هـذا العهد، يبدو على درجة من التعقيد، وتداخل الخيوط، تدعو بإلحاح إلى أن يخصص من جهد الدعاة والمصلحين قدر كبير في سبيل فهمه، واستيعاب حقيقته، بعد [ ص: 127 ] تفكيك عناصره وسبر أغواره بالانخراط الواعي فيه أولا، ثم باستعمال الأدوات العلمية ذاتيا، وأن يكون ذلك محورا مهما من محاور السعي في الترشيد الديني لحياة المسلمين. وربما كان التقصير في هـذا الأمر من قبل الكثير ممن يحملون هـذا الهم سببا أساسيا من أسباب النتائج الضعيفة، التي تبوء بها جهود الدعوة في كثير من الأحيان. إنه شرط موضوعي من شروط النجاح لترقية التدين في حياة الإنسان.