معنى الهجرة
الهجرة معناها الانتقال. وهي نوعان: انتقال حسي، وانتقال نفسي. والانتقال الحسي معناه: الانتقال من مجتمعات الكفر والشرك إلى مجتمع الإيمان. أما الانتقال النفسي فهو يعني: الانتقال من ثقافة مجتمعات غير المؤمنين بنظمها وعقائدها وأخلاقها وقيمها وعاداتها وتقاليدها وتطبيقاتها المختلفة، إلى ثقافة الإيمان بمظاهره وتطبيقاته ومؤسساته، وإلى هـذا النوع من الهجرة النفسية كانت التوجيهات الإلهية عند قوله تعالى: ( والرجز فاهجر ) [المدثر:5]، ( واصبر على ما يقولون واهجرهم هـجرا جميلا ) [المزمل:10]، ( فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي ) [العنكبوت:26]
وإلى النوعين مجتمعين من الهجرة كانت الإجابات النبوية عن معنى الهجرة وأشكالها؛ ( فلقد سأله أعرابي بقوله: يا رسول الله أخبرنا عن الهجرة؟ إليك أينما كنت، أو لقوم خاصة، أم إلى أرض معلومة، أم إذا مت انقطعت؟ فسكت عنه يسيرا ثم قال: أين السائل؟ قال: هـاهو ذا يا رسول الله. قال: الهجرة أن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، ثم أنت مهاجر، وإن مت بالحضر ) [1] وفي موقف آخر قال صلى الله عليه وسلم : ( المهاجر من هـجر السوء فاجتنبه ) [2] [ ص: 45 ]
وفي موقف آخر ( قال صلى الله عليه وسلم : لا تنقطع الهجرة حتى تطلع الشمس من مغربها. ) [3] وفي موقف آخر ( سأل رجل فقال: يا رسول الله: أي الهجرة أفضل؟ قال: أن تهجر ما كره ربك! وهما هـجرتان: هـجرة البادي، وهجرة الحاضر، فهي أشدها وأعظمها بلية ) [4] وممن ناقش رابطة الهجرة الرازي فقال: الهجرة تارة تحصل بالانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان. وأخرى تحصل بالانتقال عن أعمال الكفر إلى أعمال المسلمين. ( قال - صلى الله عليه وسلم -: المهاجر من هـجر ما نهى الله عنه. ) وقال المحققون: الهجرة في سبيل الله عبارة عن الهجرة عن ترك مأموراته وفعل منهياته.. وذلك يدخل فيه مهاجرة دار الكفر، ومهاجرة شعار الكفر. ثم لم يقتصر تعالى عن ذكر الهجرة، بل قيده بكونه في سبيل الله، فإنه ربما كانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام. ومن شعار الكفر إلى شعار الإسلام، لغرض من أغراض الدنيا. إنما المعتبر وقوع الهجرة لأجل أمر الله [5] والخلاصة أن التعاريف النبوية للهجرة تشير بوضوح تام إلى أن الهجرة تتكون من قسمين: هـجرة جسدية، وهجرة نفسية. وأن الهجرة الجسدية لا تغني عن الهجرة النفسية، بل هـي مكملة لها ومقدمة لممارستها. فإذا كان المسلم، أو الفئة المسلمة يعيشان في بيئة غير إسلامية لا يستطيعان العيش فيها حسب نماذج (المثل الأعلى) للحياة الإسلامية، فإن الأولوية تكون للهجرة الجسدية، حتى إذا تمت هـذه الهجرة وانضم المسلم إلى المهجر الإسلامي، وجبت عليه الهجرة النفسية والتخلص من آثار البيئة الأولى في عقله وشعوره وسلوكه.
ويلاحظ على الهجرة بمفهومها المعنوي أنها تقابل التزكية أو تغيير ما بالأنفس، الذين يشدد عليهما القرآن الكريم في مواضع كثيرة، وغاية هـذا التغيير هـو هـجر الأفكار والثقافة والقيم الخاطئة أو الآبائية التي انقضى زمنها. ولقد كان أبرز مظاهر الهجرة المعنوية هـو الانتقال من ثقافة العصبية بكل قيمها وتقاليدها الصنمية، إلى ثقافة الإسلام بكل قيمها وتقاليدها التوحيدية. ولذلك نبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى أن العودة إلى ثقافة الأطوار العصبية ومفاهيمها وقيمها وتقاليدها هـو مظهر من مظهر الردة، وكبيرة من الكبائر المخلدة في النار؛ ( فعن عبد الله قال: آكل الربا وموكله وكاتبه إذا علموا بذلك، والواشمة [ ص: 46 ] والمستوشمة للحسن، ولاوي الصدقة، والمرتد أعرابيا بعد الهجرة، ملعونون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة ) [6] وفي تفسير الطبري لقوله تعالى: ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) [النساء:31]. " عن محمد بن سهل بن أبي حثمة عن أبيه قال: إني لفي مسجد الكوفة، وعلي - رضي الله عنه - يخطب الناس على المنير، فقال: يا أيها الناس: إن الكبائر سبع! فأصاخ الناس. فأعادها ثلاث مرات، ثم قال: ألا تسألوني عنها؟ قالوا: يا أمير المؤمنين ما هـي؟ قال: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار يوم الزحف، والتعرب بعد الهجرة. فقلت لأبي: يا أبت التعرب بعد الهجرة.. كيف لحق هـهنا؟ فقال: يا بني، وما أعظم من أن يهاجر الرجل حتى إذا وقع سهمه في الفيء ووجب عليه الجهاد خلع ذلك من عنقه فرجع إعرابيا كما كان! وعن عبيدة بن عمير قال: الكبائر سبع ليس منهن كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله.. إلى أن قال: والتعرب بعد الهجرة ( إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ) [محمد:25] " [7] ولعل الحكمة من اعتبار العودة إلى العصبية، أو التعرب بعد الهجرة، ردة وكبيرة من الكبائر هـو أن هـذه العودة نكسة في نظام القيم الإسلامية، حيث تعود " القوة فوق الشريعة " ، أو فوق القانون، ويعود " الولاء للإقليميات بدل الأمة " ، أي تعود قوة الرئيس وإرادته لتحل محل الشريعة وإرادة الله. فهي إذن عودة لجوهر الصنمية وما يرافقها من عودة إلى الارتجال والفردية والفوضى، بدل الإعداد وروح الجماعة والنظام. ولذلك وصف الله المتعربين بقوله: ( الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ) [التوبة:97]. ولذلك [ ص: 47 ] ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هجرة البادي الطاعة ) [8] أي طاعة الشريعة والانقياد للنظام.