الفصل الثاني بدء ظاهرة " الأمة المسلمة " ونشأتها
بدأ الإعداد لظاهرة " الأمة المسلمة " برسالة إبراهيم - عليه السلام -، الذي وصفه القرآن الكريم: ( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ) [النحل:120]
ولقد جاء مفهوم " الأمة المسلمة " كحلقة في سلسلة الرسالات السماوية التي توازت مع تطور المجتمعات البشرية. فحين بدأ الاجتماع البشري بطور الأسرة، جاءت الرسالة أسرية، كرسالة آدم - عليه السلام -. وحين انتقل الناس إلى طور القبيلة والقرية جاءت الرسالات قبلية وقروية، كرسالات صالح وهود عليهما السلام. وحين انتقلت المجتمعات إلى طور القوم جاءت الرسالات قومية، كرسالة نوح - عليه السلام -.
ومفهوم " القوم " هـذا يقابله في اللغة الإنجليزية مصطلح PeoPle، وهو مفهوم دموي، يستمد محتواه من روابط الدم، حين بدأ الإنسان ينتقل من حياة التجوال الفردي إلى طور التجوال الأسري والقبلي، وتكونت نتيجة لذلك ظاهرة " القوم " في الطور الرعوي للبشرية.
أما مفهوم " الشعب " فيقابله في اللغة الإنجليزية مصطلح Nation، وهو مفهوم جغرافي، يستمد محتواه من الروابط الجغرافية، حين بدأت القبائل والأقوام تنتقل من طور الرعي إلى طور الزراعة والاستقرار في رقعة الأرض التي تحددها قوة الأقوام المتجمعة.
وانتقال المجتمعات البشرية من طور إلى طور، كان يتسم لفترات طويلة جدا بالتناقض والاضطراب والتمزق، بين قيم ومفاهيم الطور السابق المنحدر من " الآباء " ، وبين قيم ومفاهيم الطور الجديد الذي يدلف إليه " الأبناء " . ولذلك كان عمل الرسالات هـو القضاء على التناقض والاضطراب والتمزق المذكور، ثم تسهيل الانتقال إلى الطور الجديد وتنظيمه.
ثم جاء طور " الأمة " حينما بدأت الحدود الإقليمية تتهدم، وبدأ انسياح الأقوام والشعوب بعضهم على بعض، ولكنه انسياح سلبي مدمر، اتخذ طابع الغزو والعدوان على الأبدان [ ص: 23 ] والنفوس والعقول والممتلكات، كما تمثل في الفراعنة والأشوريين والكلدانيين وغيرهم، فجاءت الرسالات الموازية لهذا الطور ابتداء من إبراهيم الكلداني - عليه السلام -، بمفهوم " الأمة " وهو مفهوم فكري نفسي، يستمد محتواه من روابط الفكر والعقيدة، ويتخطى روابط الدم والأرض السابقة.
ولقد سبق اختيار إبراهيم - عليه السلام - للبدء بالإعداد (لإخراج الأمة المسلمة) ، اختبارا لقدرته على القيام بهذه المهمة، ومدى استعداده لتقديم تكاليفها ومتطلباتها، وإلى هـذا الاختيار يشير القرآن الكريم بقوله تعالى: ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) [البقرة:124]، والكلمات التي ابتلي بها إبراهيم - عليه السلام - هـي الحوادث التي اختبره الله بواسطتها، وهي: أولا: استعداده للتضحية بنفسه. والثانية: استعداده للهجرة والتخلي عن روابط الأسرة والدم والوطن. والثالثة: استعداده لمحاربة العقائد القائمة ورموز الثقافة المعاصرة المتخلفة. الرابعة: استعداده للتضحية بولده وأسرته.
وتشير الآيات القرآنية إلى أن إبراهيم - عليه السلام - اجتاز هـذه الاختبارات بنجاح، وأنه استحق رتبة الإمامة للناس، وأنه سألها لذريته من بعده، فجاءت الجواب بالموافقة مع الاشتراط إلى أن هـذه الإمامة عهد، لا يناله الظالمون المقصرون من ذريته، الذين لا يقومون بتكاليفها ويفشلون باختباراتها.
ثم مضى إبراهيم مصحوبا بأبنائه وأسرته في التمهيد لإخراج " الأمة المسلمة " ، فابتدأ بتحديد موطنها ومؤسساتها، حيث اختار لها موطنا منطقة وسطا، تقع في ملتقى المواصلات العالمية وتفاعل الحضارات، وهي منطقة تمتد من بلاد الشام عبر دلتا مصر والحجاز ، كذلك أقام مؤسستين تربويتين، الأولى: للتربية والتزكية، وهي الكعبة والمسجد الحرام. والثانية: للدعوة والنشر، وهي المسجد الأقصى. ثم انقسمت الأسرة إلى جوار المسجدين ليقوم كل فريق بالإشراف على المهمة الموكلة إليه في منطقته. وإعداد الأجواء لفكرة " الأمة " الجديدة، وإلى هـذا الإعداد الإبراهيمي كانت الإشارة القرآنية التالية: ( ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) [البقرة:132]. [ ص: 24 ]
ثم كانت الانطلاقة الأولى لإخراج " أمة الرسالة " ، برسالة موسى التي جرى التمهيد لها برحيل يوسف وأسرة يعقوب إلى مصر، وإشاعة جو من الثقافة الملائمة للأمة، التي يراد إخراجها. وكان الخروج (أو الهجرة) بالمؤمنين بالرسالة الجديدة، مرورا بشمال منطقة المسجد الحرام، والتوجه إلى منطقة المسجد الأقصى، لتطهير أرض (أمة الرسالة) التي رسم حدودها إبراهيم ، ولبدء الدعوة والنشر فيها.
وكانت جماعة المهاجرين هـذه تحمل في تشكيلها صفة العالمية وتعدد الأجناس. وليس صحيحا أنها اقتصرت على جنس واحد هـو سلالة إسرائيل الدموية. فالقرآن يشير إلى أن أتباع موسى كان فيهم: ( رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ) [غافر:28]، وأنه قال في اجتماع يرأسه فرعون: ( أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ) [غافر:28].. وأن فرعون رد على هـذا الرجل: ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) [غافر:29].
ويروي القرآن كذلك قصة السحرة - أو الإعلاميين عند فرعون - الذين - حين رأوا الآيات البينات - تحدوا فرعون حين هـددهم بالصلب وتقطيع الأعضاء وقالوا له: ( فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هـذه الحياة الدنيا ) [طـه:72].
ويذكر القرآن أيضا أن دعوة موسى دخلت دوائر القصر الفرعوني، حتى ضمت زوجة فرعون، التي ضحت بنعيم القصر، ودعت الله أن يعوضها قصرا بدله في الجنة.
وفي المقابل يروي القرآن الكريم أن عصابة فرعون، التي عارضت دعوة موسى، قد ضمت في قيادتها مترفا عاتيا من قوم موسى، ومن سلالة إسرائيل الدموية، هـو قارون الذي وقف مع فرعون وهامان صفا واحدا: ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب ) [غافر:23، 24].
ويضيف القرآن تفاصيل دقيقة عن قارون هـذا فيقول: ( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم ) وأنه كان لديه ( من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ) ، وإن قومه قالوا له حين أظهر البطر والطغيان: ( لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين * وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ) فرد عليهم بصفاقة وصلف: ( قال إنما أوتيته على علم عندي ) أي: خبرة بأعمال التجارة والاستثمار، وأنه استمر في طغيانه حتى نزل به عقاب الله وخسفه، فدمرت قصوره وهلكت نفسه. [القصص:76-82].
وإذا كان القرآن يسمي الخارجين مع موسى " بني إسرائيل " فلأن المدلول القرآني لـ " بنو " و " آل " تعني أتباع المعتقد، لا سلالة الدم، كما ذكر ذلك الطبري في تفسيره [ ص: 25 ] نقلا عن الصحابة والتابعين الذين قالوا: إن آل الرجل هـم أتباعه، وقومه هـم من على دينه.
ونقل الطبري عن ابن عباس أنه قال: في الآية: " هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد. يقول الله عز وجل : ( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه ) [1] [آل عمران:68]
ولكن آثار البيئة التي نشأ فيه أتباع موسى - بيئة الثقافة الفرعونية - فعلت فعلها في هـذه الانطلاقة الأولى لأمة الرسالة، ومن هـذه الآثار أن أتباع موسى حين كانوا في طريقهم لأرض أمة الرسالة، تأثروا بالتراث الديني الفرعوني، الذي يقوم على عبادة العجل (أبيس) [2] كذلك تأثروا بأخلاق أهل الزراعة، فحنوا إلى الراحة، وإلى تقاليد الطعام المصري، من البقل، والقثاء، والبصل، والثوم، والعدس. وظهرت فيهم أيضا آثار بيئة الاستبداد الفرعوني، وما تفرزه في أخلاق المحكومين من ضعف الإرادة، ونكوص عن التضحية، وضجر من المسئولية.
ولكن أخطر هـذه الآثار التي ظلوا يعانون منها حتى الوقت الحاضر هـي تأثرهم بـ " العنصرية " الفرعونية، وتطوير " عنصرية " خاصة بهم، وقفت حائلا بينهم وبين الخروج إلى روابط أخوة الرسالة، التي يقتضيها الطور الجديد، ثم أبقتهم حبيسي روابط الدم، التي تعود إلى الأطوار الماضية، بعد أن طلوها بطلاء ديني، تحت اسم جديد هـو " شعب
الله المختار " . ولقد نتج عن ذلك إغلاق باب الانتماء إلى الأمة الجديدة أمام غير ذرياتهم، وتعطيل وظيفة المؤسسات التربوية في الأرض المباركة.
ثم جاء عيسى - عليه السلام - لإصلاح ما أصاب نواة الأمة الوليدة، ولإخراجها من مفهوم " القوم People " إلى مفهوم " عالمية أمة الرسالة " ، فاستخلص نفرا من الحواريين الذين تخلوا عن مفهوم " شعب الله المختار " ومضوا في الدعوة إلى العالمية بشكل أفراد لا بشكل " أمة " . أما بقية الجماعات الإسرائيلية، فقد ظلت حبيسة الأغلال والآصار الاجتماعية والفكرية، التي ورثتها عن بيئة الفراعنة، وطورها الأحبار الإسرائيليون بعد أن ألبسوها لباسا توراتيا. ولذلك ناصبت دعوة عيسى - عليه السلام - العداء، وتسببوا في مزيد من تمزيق " الأمة " الوليدة، وانقسامها إلى قسمين رئيسيين، أطلقوا عليهما اسم " اليهود " ، واسم " النصارى " . [ ص: 26 ]
ثم كانت الانطلاقة العملية الثانية التي قادها محمد - صلى الله عليه وسلم - في الفرع الثاني من أسرة إبراهيم - فرع إسماعيل - والمقيمة في منطقة المسجد الحرام، فبلورت مفهوم " الأمة " وأصبح الشعار المميز لرسالتها، ولما يزل مصطلحا متميزا، لا يقابله في اللغات الأخرى مصطلح مواز. كذلك أصبح اسم " الأمة " مصدرا اشتقت منه أسماء مؤسسات الرسالة الجديدة، والعاملين فيها، والممارسات الجارية مثل: " الإمامة " ، و " الإمام " للصلاة أو الحكم، و " آمين البيت الحرم " ، أي الحج، و " آمين " أي مقتدين. لذلك كانت ترجمة هـذا المصطلح تشويها لمحتواه، ومن الواجب أن يبقى كما هـو في أصله العربي في أية ترجمة كانت.
ولقد كان جوهر هـذه الانطلاقة الجديدة تصحيح الاعوجاج الذي لحق بالمنهج الذي مهد له إبراهيم وبدأه موسى وعيسى، ثم استئناف المسيرة المستقيمة لهذا المنهج، نحو غاياته العليا.. ولذلك ركزت توجيهات الرسالة الجديدة على ما يلي:
1- إصلاح ما انحرف من منهاج إبراهيم - عليه السلام - وذلك بدعوة فرع ذرية إسماعيل من قريش وفروعها إلى التخلص من طابع " أمة السدنة " ونوازع التكسب بالمقدسات، وما أدخلته حمية العصبيات القبلية من مظاهر الشرك والوثنية. ثم دعوة فرع ذرية إسحاق من اليهود والنصارى للتخلص من طابع " شعب الله المختار " ، وما رافقه من تشويهات لأصول العقيدة والرسالة، لصالح المترفين، وأرباب الجاه والسلطان والكهانة، ثم دعوة الفريقين للاجتماع في صفوف " أمة الرسالة " الجديدة، لاستئناف المهمة الأساسية، مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله بين الناس كافة.
2- القضاء على الانشقاقات التي حدثت في ذرية إبراهيم، وتسببت في تقسيم نواة " الأمة المسلمة " إلى يهود ونصارى، وما تلا هـذا الانشقاق من انشقاقات أخرى تتنافى مع الغاية الكبرى التي بدأها إبراهيم لإخراج " أمة الرسالة " التي تعمل على جمع البشرية كلها على منهاج واحد، في الفكر والاجتماع، فتتوثق روابطها، ويرقى نوعها، وتعود إلى سابق عهدها: أمة واحدة، وربا واحدا.
ولتحقيق هـذا الهدف تكررت الدعوة في القرآن إلى أهل الكتاب للإقبال إلى (كلمة سواء) أي منهج موحد مستقيم أساسه " ملة إبراهيم الحنيف " .
3- اتخاذ الخطوات العملية التي تسهل هـذه الوحدة المنشودة، بين الانشقاقات التي أصابت مفهوم الرسالة، بعد إبراهيم - عليه السلام -، ومن أجل هـذه الوحدة كانت قبلة الصلاة نحو أول بيت بناه إبراهيم، وكان الحج إليه، ليكون مؤسسة للتربية العالمية، وكانت حادثة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، لإعادة الربط بين رسالة المسجدين، [ ص: 27 ] وتكامل دورهما في التربية والدعوة والتعليم.
ولترسيخ هـذه المعاني، كان الحديث عن تجربة قوم موسى في منطقة المسجد الأقصى - في مطلع سورة الإسراء - ليكون هـذا الحديث تحذيرا لـ " أمة الرسالة " الجديدة لئلا تقترف ما اقترفته سابقتها من أمة موسى، التي غفلت عن الوظيفة الأساسية للمقيمين حول المسجد الأقصى، وانحرفت لاستغلال بركات المنطقة الجغرافية والطبيعية في الترف والشهوات والمفاسد والصراعات، وبذلك استحقت أن يبعث الله عليها عبادا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، ودمروا مؤسسات اللهو الدنيوي، التي ألهتهم عن وظيفة الدعوة وتبليغ الرسالة. " وهذا ما فهمه أبو بكر الصديق حين حذر جيوش الفتح الإسلامي التي وجهها إلى منطقة ما حول الأقصى من الانحراف عن أهداف الرسالة الإسلامية، فقال: إنكم تقدمون الشام، وهي أرض شبيعة، وإن الله ممكنكم حتى تتخذوا فيها مساجد، فلا يعلم أنكم إنما تأتونها تلهيا، وإياكم والأشر " [3] 4- تقديم التفاصيل الكاملة لما يجب أن يكون عليه تنظيم " أمة الرسالة " ومؤسساتها وقيمها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ونشاطاتها المختلفة في الداخل، ثم تنظيم علاقاتها بالجماعات البشرية في الخارج.
وكان التحدي الأكبر الذي واجهه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد هـجرته إلى المدينة، وشروعه في بناء أمة عالمية، يتعايش فيها مختلف الأجناس والأعراق، هـو (قيم العصبية القبلية الجاهلية) ، ولقد اتخذت جهوده لمجابهة هـذا التحدي مظاهر عدة، منها:
المظهر الأول: هـو تزكية أعضاء الأمة المسلمة الجديدة من قيم العصبية القبلية باعتبارها قيما جاهلية نتنة بالية لا تصلح لهم بحال، وتنظيم علاقاتهم طبقا لقيم التقوى الملائمة لطور العالمية الجديد.
والثاني: هـو التحذير من الردة إلى قيم العصبية الجاهلية وإدراك هـذه الردة في قائمة الكبائر المخلدة في النار [4] والثالث: التنبيه إلى دور قيم العصبية في فتن المستقبل، وما ستجره على الأمة المسلمة من كوارث ومذابح ودمار، وهو ما تقدم تفصيلاته الأحاديث النبوية الواردة تحت كتاب الفتن في مصنفات الحديث المختلفة. [ ص: 28 ]