أولا: أهمية الأفراد المؤمنين كعنصر من عناصر الأمة
تبدو أهمية (الأفراد المؤمنين) في أن هـذا النوع من البشر هـو الذي يحقق للأمة التوازن الاجتماعي، والصحة النفسية. ذلك أن طبيعة الإنسان - كما يعرضها القرآن الكريم ويثبت ذلك ممارسات الإنسان على الأرض - تشير إلى أن تكوينه النفسي شبيه بتكوينه الجسدي، أي يتكون من عناصر تتحد حسب نسب معينة، وتفرز تركيبا معينا، يمثل حالة الصحة، فإذا اضطربت نسب هـذا التركيب ارتفاعا أو هـبوطا، دخل حالة المرض. والحالات التي يمر بها التكوين النفسي للإنسان هـي: الوسطية، والطغيان، والهوان، وتمثل الحالة الأولى مظهر الصحة الذي يضمن للإنسان السلام، بينما تمثل الحالتان الثانية والثالثة مظهر المرض الذي يهدد سلامة الإنسان نفسه. وإلى هـذه القابلية المرضية يشير قوله تعالى: ( وخلق الإنسان ضعيفا ) [النساء:28]
والإيمان بالله - بمفهومه الإسلامي - هـو العامل الحاسم في تقرير حالات الصحة أو المرض المشار إليها، إذ أن إحساسه بالمسئولية أمام الله يبقيه في منزلة - الوسطية - فيمنعه من " الطغيان " وتجاوز الحدود والاعتداء على وجود الآخرين إذا كان في حالة القوة والغنى، ويقيه من " الهوان " والسكوت على استباحة الطاغين لحرماته، إذا كان في حالة الضعف والفقر.
فإذا غاب الإيمان بالله من وجود الإنسان، تذبذب بين مرضي الطغيان والهوان، وتراءى له عند المرض الأول أنه مستغن بنفسه لا حاجة له لغيره، وأنه قادر على الإمساك بسنن الوجود وأحداثه، وضربه الفرح والفخر والبطر، وادعى القدرة والعلم. أما في حالة المرض الثاني، فإن الإنسان يصاب بالكفر واليأس والهبوط من المنزلة الإنسانية بين المخلوقات.
ولكن الإيمان بالله لا يمد الإنسان بعافية " الوسطية " ، ويقيه من مرض " الطغيان " و " الهوان " ، إلا إذا استمد محتواه من الاجتماع البشري، وتجسدت تطبيقاته في قلب الاجتماع الإنساني، وأبرز هـذه التطبيقات هـي: بلورة " هوية " الإنسان الحقيقية، [ ص: 34 ] ومنحه " جنسية " إيمانية واحدة، وتزويده بـ " ثقافة " واحدة ذات مؤسسات واحدة.
أما عن بلورة " هوية " الإنسان الأصلية، فإن آيات الله في الكتاب تمد العاملين في مجال التربية بإطار عام لهذه الهوية، يبين أن الإنسان مفطور على الصلاح والخير، ولكن فطرته هـذه رقيقة ضعيفة، يضربها المرض، فيفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولكن التربية الإيمانية تحصنه من قابليته المرض ومضاعفاته في الإفساد والشر.
ولقد عانى علم النفس الحديث كثيرا حتى استشرف هـذه الحقيقة عن طبيعة الإنسان، وهو استشراف مازال في مراحل الحديث النظري، ولما يأخذ طريقه إلى ميادين التطبيق العملي في التربية والسياسة والاجتماع والاقتصاد. ولقد قام أبراهام ماسلو AbrahamMaslow رائد علم النفس الإنساني بأبحاث واسعة في ميدان البحث في الطبيعة الإنسانية، وخلص إلى تعديلات كبيرة في معارف علم النفس عن الإنسان، وانتهى إلى الإطار الذي يرسمه القرآن في هـذا المجال، ومما قاله في هـذا الشأن: " إن غلطة فرويد Frued الكبيرة، والتي نحاول تصحيحها الآن، هـي أنه اعتقد أن العقل الباطن مجرد شر غير مرغوب به. ولكن العقل الباطني يحمل معه أيضا جذور الإبداع ومتع السعادة والخير، وقواعد الأخلاق، والقيم الإنسانية، فنحن الآن نعلم أن هـناك عقلا باطنيا صحيحا وسليما، مثلما هـناك عقل باطني سيئ وسقيم. وتقوم مدارس علم النفس الحديثة بدراسة هـذه الطريقة كاملة، كما أن المعالجين النفسيين بدأوا يضعون هـذا المفهوم موضع التطبيق... " [1] ويحدد ماسلو الإطار الحديث الذي توصل إليه علم النفس عن الطبيعة الإنسانية في الخطوط العريضة التالية:
- في داخل كل فرد طبيعة بيولوجية أساسية هـي إلى درجة معينة طبيعية وجوهرية وهي غير قابلة للتغير.
- كل طبيعة داخلية هـي جزء متميز في كل فرد، من ناحية، ومن ناحية أخرى هـي مشتركة في الجنس الإنساني كله.
- يمكن دارسة هـذه الطبيعة عمليا واكتشافها والتعرف عليها.
- لا تبدو هـذه الطبيعة الإنسانية شريرة بالأصل، وإنما الحاجات الأساسية لها والعواطف الإنسانية الأساسية، والطاقات الإنسانية الأساسية، هـي بالأصل محايدة وإيجابية وخيرة. [ ص: 35 ] أما النزعة للتخريب و " السادية " ، والقسوة والحقد، وأمثال ذلك، فيبدو أنها ليست أساسية، وإنما هـي ردود فعل عنيفة ضد الإحباطات والفشل في تحقيق الحاجات الأساسية.
- بما أن هـذه الطبيعة الإنسانية الداخلية محايدة وخيرة فمن الأفضل استخراجها وتشجيعها أكثر من كبتها والضغط عليها، وإذا سمح لها أن توجه حياتنا فسوف نعيش أصحاء ومنتجين وسعداء.
- وإذا تعرض جوهر الإنسان هـذا للضغط أو الرفض فسوف يعتريه المرض بطريقة واضحة أحيانا وبطرق ملتوية أحيانا أخرى، وأحيانا في الحال، وأحيانا فيما بعد.
- هذه الطبيعة الإنسانية ليست قوية وصلبة، وليست معصومة من الخطأ، وإنما هـي ضعيفة ورقيقة، ومن السهل أن تتغلب عليها العادة والضغط الثقافي والاتجاهات الخاطئة [2] ولقد أثبت تاريخ الإنسان على الأرض أن هـذه الطبيعة الخيرة في الإنسان لا يستخرجها إلا الإيمان بالله، وما يقتضيه هـذا الإيمان من أعمال وتطبيقات.
وأما عن " الجنسية " ، فالقرآن واضح وصريح في اشتقاق جنسية الإنسان من " الأفكار " التي يدور في فلكها. فالذين يدورون في فلك – أفكار- الرسالة الإسلامية أسماهم " المؤمنين " ، والذين يكفرون - أي يحجبون ويخفون - أفكار الرسالة ويقفون عند " أفكار " خاطئة تقتصر على معالجة الرغبات العاجلة في محطة الحياة الدنيا، يطلق عليهم اسم " الكافرون " ، والذين ينفقون " الأفكار " من أجل تعزيز ولاءاتهم لـ " لأشخاص " و " الأشياء " يطلق عليهم اسم " المنافقين " .
والنموذج الأول -نموذج المؤمنين - هـو الذي تشتق جنسية الإنسان المسلم منه وتتطلع التربية الإسلامية إلى " تنشئة " . ويشدد القرآن الكريم على هـذه " الجنسية " ويربط بينها وبين الغاية من (إخراج الأمة المسلمة) ، والوظيفة التي أخرجت من أجلها، من ذلك قوله تعالى: ( وجاهدوا في الله حق جهاده هـو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هـو سماكم المسلمين من قبل وفي هـذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هـو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ) [الحج:78].
ويلحق بـ " جنسية " الإنسان المؤمن " طبقته " داخل الأمة المسلمة، وتتقرر هـذه الطبقة طبقا لدرجة اتقائه من الإصابة بمرض الطغيان أو الهوان. وإلى هـذا المقياس يشير [ ص: 36 ] قوله تعالى: ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) [الحجرات:13].
وبهذا المقياس تحددت في مجتمع النبوة طبقات الأمة المسلمة، فظهرت طبقة " المهاجرين " وطبقة " الأنصار " و " طبقة الطلقاء " ، وطبقة " المنافقين " . وهذا مقياس لا اعتبار فيه لعالم القوة الذي يدور في فلك الأشخاص، ولا لعالم الثروة الذي يدور في فلك " الأشياء " ، وإنما يقوم على أساس اتقاء مرضي الطغيان والهوان، الذي يدور في فلك " الأفكار " الرسالة الإسلامية.
ولقد أثبت تاريخ الحضارة الإسلامية أنه طالما ظلت " جنسية " الإنسان المسلم تستمد من (هو سماكم المسلمين) فإن الأمة المسلمة ظلت تعيش لحمل الرسالة إلى الناس في الخارج، وظلت " الطبقة العليا " مفتوحة لكل من " اتقى " مرضي الطغيان والهوان، مهما كان أصله ولونه وغناه أو فقره. وحين تحولت لتشتق الجنسية من الولاء لـ " أشخاص " الحاكمين و " أشيائهم " و " أقاليمهم " ، توقفت عن حمل الرسالة واشتغلت بغيرها من أشياء الدنيا ومالكي هـذه الأشياء، وظهر فيها الأشراف والموالي والسادة والمستخدمين والمماليك.
وأما عن " ثقافة " الإنسان المؤمن فهي تعني هـنا: القيم ونظم الحياة، والإدارة، والعادات والتقاليد، والأخلاق، والفنون التي تجسد الإيمان في تطبيقات عملية تميز حياة المؤمنين عما سواها، وتحتل التفصيلات المتعلقة بهذه الثقافة جزءا كبيرا من القرآن الكريم من ذلك قوله تعالى: ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هـونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما * والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما * والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما * إنها ساءت مستقرا ومقاما * والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما * والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما * ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا * والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما * والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا * والذين يقولون ربنا هـب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما * أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما * خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما ) [الفرقان:63-76].
والحديث النبوي وتطبيقات السنة، يحددان للثقافة والقيم الإسلامية قوائم سلوكية تصل [ ص: 37 ] إلى بضع وستين شعبة، أو بضع وسبعين، تتكون منها مجتمعة " ثقافة " إيمانية فعالة توجه النشاطات والممارسات، وتقيم شبكة علاقات اجتماعية، تبلغ بالأمة المسلمة مرتبة الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى [3] . كذلك قام لهذه " الثقافة " الإيمانية حدود مميزة منعتها من التداخل مع " الجنسيات " و " الثقافات " المستمدة من الانتماءات العرقية والإقليمية والمصالح المادية، والتوجيهات القرآنية في هـذا الشأن كثيرة صارمة؛ منها قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هـم الظالمون * قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ) [التوبة:23، 24].