الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إخراج الأمة المسلمة وعوامل صحتها ومرضها

الدكتور / ماجد عرسان الكيلاني

أهمية الهجرة

 الهجرة عنصر أساس من عناصر الأمة المسلمة، ولها أهميتها في استراتيجية العمل الإسلامي، وتتمثل هـذه الأهمية فيما يلي:

الأهمية الأولى: تخليص المؤمنين من العوز، وعدم الأمن  اللذين يضغطان عليهم ويؤثران تأثيرا سلبيا على أمنهم الديني والاجتماعي، وإلى هـذين العاملين كانت الإشارة الإلهية عند  قوله تعالى: ( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ) [النساء:100]. والمراغم هـو: المنعة والقوة، أو ما يرغم به المؤمنون المهاجرون ظالميهم على مسالمتهم ويردعونهم عن العدوان عليهم.. والسعة هـي: الغنى وسعة العيش.. ويتكرر الحديث عن أهمية الهجرة في توفير المنعة والإنجاز الحضاري في مواضع عديدة من القرآن الكريم، من ذلك  قوله تعالى: ( والذين هـاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ) [النحل:41].

ونظرا لأهمية الهجرة في توفير المنعة، وإطلاق القدرات، وتوفير الإنجازت، أدان الله سبحانه وتعالى المتقاعسين عن الهجرة وتوعدهم بالعذاب. من ذلك  قوله تعالى: ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) [النساء:97].

ويروي المفسرون عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -  أن ناسا من المسلمين لم يهاجروا، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحابنا هـؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت الآية [1] ولقد استمرت الهجرة عاملا أساسيا في قوة حركات الإصلاح التي نجحت في إخراج العالم الإسلامي من ضعفه، في فترات متقطعة وفي أماكن مختلفة، مثل الحركة التي أخرجت جيل صلاح الدين، وحركة المرابطين، فقد هـجرت الأولى فقه المذهبية والآبائية الذي عاصرته، ثم انسحبت من المشكلات المعقدة لمجتمع الخلافة في بغداد إلى [ ص: 48 ] المهجر الذي نما وامتد حتى شمل المنطقة الواقعة ما بين الموصل وشمالي سوريا في الشمال، وبين مصر والحجاز في الجنوب. كذلك اتخذت الثانية لها مهجرا في غرب إفريقيا، ثم خرجت قوة ردت العافية للمغرب والأندلس لقرون [2] والأهمية الثانية: هـي أن الهجرة بمعناها النفسي والحسي، تنسجم مع حقيقة من الحقائق الكبرى التي يطرحها الإسلام عن الوجود، وهذه الحقيقة هـي: استمرارية الخلق، أي أن هـذا الكون مازال يخلق ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ) [القصص:68) . واستمرارية الخلق هـذه ترفد الحياة دائما بالجديد من الأفكار والأشخاص والأشياء، والكائنات الجديدة تفرز علاقات جديدة، والعلاقات الجديدة تتطلب ترجمة القيم إلى نضم ومؤسسات وسياسات جديدة ( كل يوم هـو في شأن ) [الرحمن:29]. والذين لا يعون استمرارية الخلق وما ينتج عنها من تجديد في الشؤون والعلاقات والتطبيقات، لا يفقهون مضمون الهجرة المطلوبة، ويقلعون في الاتجاه المعاكس للتاريخ، فيرتدون إلى الآبائية، ويسقطون في التخلف، ويلفهم اللبس والحيرة والاضطراب، وينتهون إلى البوار ( بل هـم في لبس من خلق جديد ) [ق:15].

فالهجرة بمعناها الشامل عملية تكيف نفسي وحسي مع حوادث الخلق المستمر، وهي حركة تجديد مستمر، ترتكز على انتقاء العناصر الصالحة من كل جيل من البشرية كلها، ثم إعدادها لما يناسب الطور الجديد، وحمل رسالة الإسلام، واستمرار الترقي البشرى.

ومن المحزن أن لا يبرز " فقه وفقهاء للجنسية والمواطنة " القائمة على مفهوم الهجرة هـذا، في الوقت الذي نشاهد أثر قوانين الهجرة - التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية - في تجميع العناصر ذات الكفاءات العالية من أقطار الأرض كلها، ثم إطلاق قدراتها وإراداتها لما فيه قوة الولايات المتحدة، واحتلالها مكان الصدارة في العالم كله.

من الموضوعية أن نقول: إنه في الوقت الذي يغيب العقل الإسلامي المعاصر عن شهود العلاقة بين استمرارية الخلق والهجرة، وتجدد عافية الأمم، فإن الفكر الغربي المعاصر قد أحس بهذه الحقيقة، ونظم حياته طبقا لها، ولكن العلاقات السلبية التي قامت بين المفكرين وبين الكنيسة جعلتهم - على المستوى العقائدي - يتنكرون لفكرة الخلق، ويستبدلونها بفكرة " النشود والارتقاء والتطور " ، أي الاعتقاد بأن الكون ينشأ ويترقى ويتطور من نفسه، دون اعتبار لقوة الله المسيرة للنشأة والترقي والتطور. وهكذا ظهر عند الغربيين ما يسمى بنظرية التطور  Evelution ونظرية الخلق Creationism

ولكن من الإنصاف أن نقول: إن العقل الإسلامي في الماضي، لم يكن غائبا دائما عن أهمية الهجرة واستمراريتها. فهذا ابن تيمية يعلق على الآية التي قدمناها كإطار لعناصر الأمة [ ص: 49 ] المسلمة، ويذكر أن المؤمنين الذين ذكرتهم الآية صنفان: المهاجرون الذين هـاجروا إلى المدينة من بلادهم، والأنصار الذين استقبلوهم. ومن لم يهاجر من الأعراب لهم حكم آخر، وآخرون كانوا ممنوعين من الهجرة لمنع أكابرهم لهم. فلكل هـذه الأنواع حكمهم باق إلى يوم القيامة في أشباههم ونظائرهم. وأضاف أن معنى  قوله تعالى: ( والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ) هـو إشارة إلى من تبع هـذا المنهاج إلى يوم القيامة [3] ولكن الآبائية - التي تستمد جذورها من ثقافة العصبية القبلية - كانت دائما تطلي حرانها بطلاء إسلامي، فترفض الهجرة والتجدد، وتشن إرهابا فكريا على العقول المجددة، وتغري الحاكمين بأصحابها، فتجهز عليهم، وتحرم الأمة من ثمرات اجتهادهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية