يرمز إلى مرحلة صحة الأمة في الشكل رقم (1) بالمثلث أ، ب ج، حيث تبدأ بميلاد الرسالة عند المحطة الزمنية أ حتى إذا تم إخراج الأمة، وبلغت درجة النضج، كانت حقيقة " المثل الأعلى " الذي يوجه الحياة في الأمة هـي: دوران الأشخاص والأشياء في فلك " الأفكار " الرسالة وتطبيقاتها.
والتطبيق العملي للدوران المذكور، هـو أن يكون الولاء للرسالة هـو محور الأنشطة التي تكرس خلالها طاقات الأشخاص ومقدرات الأشياء في الأمة في سبيل تطبيق الأفكار الرسالة في الداخل، ونشرها في الخارج. وبذلك تصبح أفكار الرسالة هـي غايات الحياة، بينما يشكل جهاد الأشخاص وبذل الأشياء في هـذا الجهاد، دور الوسائل العامة لتحقيق هـذه الغاية. وبتعبير آخر " يخلف أشخاص الأمة " الرسول في نصرة أفكار الرسالة، فتظهر - الخلافة- وتحدد مواقع الأفراد ووظائفهم طبقا لدرجة قدرتهم على خلافة الرسول في
[ ص: 113 ]
فقه أفكار الرسالة وتطبيقاتها، والخلاص في حملها.. وتطابق مواقف الخلفاء مع نموذج الرسول في الفقه والتطبيق، يؤهل خلافتهم لتوصف بأنها خلافة راشدة. وتتفاوت سعة الخلافة بتفاوت مسئوليات الأفراد ابتداء من مسئولية الفرد في أسرته أو متجره، أو وظيفته، حتى تبلغ قمتها في الخليفة الحاكم، الذي يدير السياسة ويصرف الأمور العامة. وهذا التجانس بين قمة الخلافة وقواعدها هـو بعض ما يعنيه ( قوله صلى الله عليه وسلم : كما تكونوا يول عليكم. ) [1] وفي حالة الصحة، تستمد عناصر الأمة - أي عناصر الإيمان، والهجرة، والجهاد، والإيواء، والنصرة، والولاية - محتوياتها من أفكار الرسالة، وتستثمر في سبيل تطبيقات الرسالة ونشرها.
ويصور الشكل رقم (2) التكوين تنتظم طبقا له عناصر الأمة في مرحلة الصحة المشار إليها:
[ ص: 114 ]
ونتيجة لذلك تصبح معادلة تكوين الأمة كالتالي: الأمة = أفكار الرسالة (أفراد مؤمنون + هـجرة ومهجر + جهاد + إيواء + نصرة) = أفراد مؤمنون بالرسالة + هـجرة ومهجر لأفكار الرسالة + جهاد في سبيل الرسالة + إيواء حملة الرسالة + نصرة الرسالة.
والنتيجة العملية لهذا التكوين هـي: (الولاية أو الولاء للأمة) ، وهذا الولاء هـو مظهر صحة الأمة وعافيتها، وتكون المظاهر والتطبيقات العملية لذلك كما يلي:
( أ ) رقي مستوى الخبرات الاجتماعية والكونية
يرتقي مستوى الخبرات الاجتماعية والكونية، تبعا لارتقاء مستوى " المثل الأعلى " . ولما كانت النشاطات التربوية والعلمية هـي التطبيق العملي لرقي الخبرات المذكور، فإن إنسان التربية هـنا يقرأ باسم ربه، ويجتهد لتوفير الأهداف والوسائل التي تحقق غايات هـذه القراءة. ويكون من ثمار ذلك ثلاثة أمور:
الأول ارتقاء مستوى المعرفة إلى مستوى " العلم " : أي مستوى اكتشاف الحقائق الجديدة، والصياغة الجديدة للمعارف السابقة.
والثاني: اتساع دائرة المعرفة لتشمل قضايا الوجود كله في مراحل النشأة والحياة والمصير دون حدود عرقية أو مكانية أو زمانية، إلى أن تبرز قسمان متكاملان من العلوم: علوم الغايات التي تدور حول فقه " أفكار الرسالة " وتطبيقاتها، وعلوم الوسائل التي تدور حول تسخير طاقات الأشخاص والأشياء، لتوفير الأدوات اللازمة لتجسيد غايات الرسالة في حياة الأمة المسلمة في الداخل، ثم حملها ونشرها بين الآخرين في الخارج.
والثالث: نشاط الحركة المعرفية، وشيوع روح الاجتهاد، وتعشق البحث العلمي، والتنقيب في الخبرات البشرية الماضية والحاضرة، وشيوع حب القراءة بين خاصة الأمة وعامتها، وازدهار التربية والعلوم، ومؤسساتها، وتطبيقاتها في مجالات الحياة المختلفة، وجذب العلماء من أي قطر كانوا، وإلى أي عرق انتموا.
(ب) رقي مستوى التفاعل مع الرسالة (رقي شبكة العلاقات الاجتماعية)
يرتقي مستوى التفاعل مع الرسالة، أي ممارسة الحياة طبقا لتوجيهاتها، ويتجسد هـذا عمليا في شبكة العلاقات الاجتماعية التي تنظم علاقات الأفراد والجماعات في الداخل، وعلاقات الأمة مع غيرها من الأمم، حيث تتشكل هـذه الشبكة كما يلي:
تصبح رابطة الإيمان بأفكار الرسالة هـي المحدد لجنسية الأفراد، وثقافة الأمة. ويصبح المهجر الذي يجمع المؤمنين بأفكار الرسالة، هـو الوطن الواحد الذي لا يتجزأ، والدار المفتوحة لأفراد المؤمنين جميعهم. ويصبح الجهاد لتجسيد أفكار الرسالة في الداخل، ونشرها في الخارج، هـو المجرى العام الذي تصب فيه روافد جهود أفراد المؤمنين وجماعاتهم. [ ص: 115 ]
ويصبح إيواء الأفراد المؤمنين بتطبيقات الرسالة، حقا لكل من يحمل جنسية الإيمان، ويتذوق ثقافة المؤمنين. وتصبح نصرة كل من يحمل جنسية المؤمنين، ومن توجه أفكار الرسالة إلى نصرته من غير المؤمنين، مسئولية تقع على كاهل الأمة جميعها.
وتشكيل محتويات عناصر الأمة بالشكل المذكور، يؤدي إلى قيام شبكة العلاقات الاجتماعية وتنظيم مؤسساتها كما يلي:
1- يجري تطبيق توجيهات الرسالة بكامل معانيها، حيث يتركز تطبيق " الأمر بالمعروف " حول التوافق مع سنن الله وأقداره وقوانينه، ويتركز تطبيق " النهي عن المنكر " حول الحذر من الاصطدام بهذه السنن والأقدار والقوانين في جميع الأعمال والممارسات. ويتركز تطبيق " الإيمان بالله " حول وقاية الإنسان من مرض الطغيان، وادعاء الألوهية في حالة القوة والغنى، ومن مرض الهوان، والرضى برق الأشخاص والأشياء في حالات الضعف والفقر والتبعية.
2- ينتظم سلم القيم في الأمة حول محور " الفكرة توجه القوة " ، وهذا يعني تسلم فقهاء الرسالة وحكمائها وخبرائها زمام القيادة في ميادين الحياة المختلفة. أي هـم " أولو الأمر " الذين قرن القرآن طاعتهم بطاعة الله وطاعة رسوله. أما مؤسسات " القوة " وما فيها من أمراء وقادة ورؤساء وحاكمين، فهم الأجهزة التي تنفذ ما يشرعه أولو الأمر: العلماء والمفكرون.
والمصادر الإسلامية واضحة جلية في تحديد مسئوليات العلماء والرؤساء وتصنفيها، ففي تفسير الطبري عن ابن عباس وغيره أن أولي الأمر هـم: أهل الفقه في الدين والعلم والعقل [2] وعند الرازي أن غالبية العلماء ترى أن أولي الأمر هـم العلماء، وآخرون يرون أنهم العلماء والأمراء [3] ، وعند ابن تيمية أنهم: العلماء والأمراء أو أهل الكتاب وأهل الحديد [4] ولقد تجسدت " ولاية الأمر " لأهل الفقه والعلم والدين والعقل، في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعهد خلفائه الراشدين رضي الله عنهم .
3- يتركز إنتاج " الأشياء " واستعمالها، فيما يحقق غايات الرسالة، ويجسد مثلها الأعلى في تحقيق المنفعة لأمة الرسالة، وشيوع العدل، وتكافؤ الفرص، وهيمنة السلام. [ ص: 116 ]
4- تستمد نظم الإدارة والسياسة والاقتصاد والعسكرية محتوياتها من " أفكار الرسالة " ، وتحدد وظائف الأفراد ومسئولياتهم، طبقا لدرجة ولائهم لأفكار الرسالة، ودرجة قدراتهم العلمية والجسدية، ومهاراتهم التنفيذية، دون اعتبار لمقاييس النسب، والمولد، والقوة، والعلاقات الشخصية المختلفة.
(ج) رقي مستوى القدرات العقلية
في بيئة الولاء لأفكار الرسالة تشيع حريات التفكير والتعبير والعمل والاختيار، ويتفاعل أصحاب القدرات العقلية بعضهم مع بعض؛ الأمر الذي يساعد على نمو هـذه القدرات وبلوغها أقصى مداها، ابتداء من القدرة على الحفظ، ومرورا بقدرات الفهم، والتحليل، والتركيب، والتأليف، والتطبيق، والتقويم، حتى القدرة على العمل والنشر.
واستثمار جميع المقدرات الفكرية والبشرية والثقافية والمادية بهذا التجرد والتناسق والتكامل، يمنح الأمة الناشئة وقدرات هـائلة. فهو أولا: يرفع درجة القدرات التسخيرية عند الأفراد، ويبعث إراداتهم العازمة. وهو ثانيا: يشيع في الأمة التجانس الثقافي في القيم والعادات والأخلاق، والممارسات الاجتماعية، والثقافية والفنية، ونماذج التعبير والتطبيق، بما يتفق مع محور الولاء، الذي يتغذى من دائرة أفكار الرسالة، الأمر الذي يمنح الأمة الناشئة عافية وقدرات تقودانها إلى نجاحات حاسمة، وانتصارات كاسحة، تدفع بالمجتمعات المعاصرة لأمة الرسالة إلى فتح قلوبها لبعوث الرسالة، والإقبال على دراستها، والتفاعل معها، واعتناق عقيدتها وتطبيقاتها. [ ص: 117 ]