ملاحظات حول مسيرة علم الاجتماع
بالجهود السابقة وغيرها، رسخ علم الاجتماع أقدامه في العالم الإسلامي. وأصبح علما معترفا به. فمنذ إنشاء قسم الاجتماع في [ ص: 94 ] الجامعة المصرية سنة 1925م، والجامعة الأمريكية ببيروت في أوائل الثلاثينيات، وعلم الاجتماع ينمو ويكبر حتى تحول إلى عملاق ضخم، أفردت له الأقسام في الجامعات والمعاهد.
ويمكننا هـنا أن نسجل بعض الملاحظات على مسيرة علم الاجتماع بعد أن ثبتت أركان كعلم معترف به:
1- كان غالبية رواد علم الاجتماع، الذين ثبتوا دعائمه، تخرجوا في جامعات بريطانية أو فرنسية - كما حدث في مصر والمغرب - أو أمريكية كما حدث في العراق . يقول أحد مؤرخي علم الاجتماع في العراق : " إن تطور علم الاجتماع في العراق، لم يختلف كثيرا عنه في الدول النامية: الأخرى، وموضوعه حديث بالنسبة لجميع هـذه الدول، وليس له جذور قومية عميقة، ويجدر بالذكر هـنا أن علم الاجتماع في كثير من الدول النامية ومن ضمنها العراق، كان قد تأثر كثيرا بعلم الاجتماع الأمريكي في النظرية والمنهجية " [1] .
وقد ترك التعليم الغربي لهؤلاء الرواد، آثاره الواضحة على تصوراتهم وأفكارهم، وكانت جهودهم منصبة على الترجمة أو التأليف المعتمد على المراجع والمصادر الأوربية، وقد ساهموا بنقل المدرسة الليبرالية في علم الاجتماع كما هـي، دون إخضاعها لأية عملية نقدية في المنهج أو في النظرية [2] .
2- لقد كان هـناك أساتذة أجانب كثيرون يدرسون علم الاجتماع في [ ص: 95 ] الجامعات الإسلامية، فمثلا في الجامعات المصرية كان أول أستاذ لعلم الاجتماع فيها هـو المسيو " جورج هـوستاليه " البلجيكي، والذي كان رئيسا لمعهد سولفي الاجتماعي، والفرنسيان المشهوران إميل برييه الذي درس في الجامعة ست سنوات متقطعة. وكذلك الإنجليزي الشهير إيغانز بريتشارد ، والإنجليزي هـوكارت .. ولأن الأساتذة أجانب، فقد كانت لغة التعليم أجنبية أيضا، ففي البداية درست أغلب المواد بالفرنسية، لوجود الأساتذة الفرنسيين، ثم تحولت إلى الإنجليزية لوجود الأساتذة الإنجليز [3] 3- شكلت الجهود السابقة الخطوط العريضة لمسيرة علم الاجتماع فيما بعد، فقد واصل علم الاجتماع مسيرته في هـذا الطريق، فالطلبة تلقوا علمهم من الرواد السابقين، من ثم تحولوا إلى أساتذة في الجامعات التي درسوا فيها. وكانت مادة العلم هـي تلك المادة الفرنسية، أو الإنجليزية، أو الأمريكية، التي ترجمت ثم حفظت. ومن ثم كان الطالب على علم تام بكونت ، ودوركايم ، وفيبر ، وسمنر ، وكيلر ، وبارسونز . وبذلك تكون المدرسة الليبرالية الغربية على وجه العموم، هـي الاتجاه الأول، الذي سيطر على الباحثين في علم الاجتماع في العالم الإسلامي. ولا يزال الغالبية من علماء الاجتماع يدورون في فلك هـذه المدرسة، دون محاولة الانعتاق منها، أو الابتكار.
4- ازدادت التبعية لعلم الاجتماع الغربي، مع ازدياد توسع علم الاجتماع، حيث نقلت نظريات غربية كاملة في علم الاجتماع. وذلك بطريقتين:
(أ) نقل مؤلف بذاته نقلا كاملا، من خلال ترجمته إلى اللغة العربية. [ ص: 96 ]
(ب) النقل من عدة مصادر غربية، قصد التعريف بهذه النظريات من خلال أهم أعمال روادها، وأهم مفهومات وقضايا هـذه النظريات [4] . وهذا هـو الطابع الغالب على التأليف في علم الاجتماع، وهو طابع شائع في العالم العربي، يتميز بالغزارة من حيث الكم، ولكنه من حيث النوع ليست له أي قيمة حقيقية، ولا يلعب أي دور في تحليل المجتمع العربي، أو الإسلامي. فهو عبارة عن " تجميعات لنظريات مختلفة، دون أي ربط بينها وبين المشكلات الملحة القائمة في المجتمع " [5] .
ولعل من الأمثلة على ذلك، سلسلة علم الاجتماع المعاصر التي صدر منها ما يزيد على 64 كتابا تمثل في غالبيتها ترجمات للنظريات الغربية الليبرالية .
5- لم تكن ولادة علم الاجتماع الحديث في العالم الإسلامي تلبية لحاجات معينة، ولكنه كان تقليدا للنظام الأكاديمي الغربي، لذلك لم يكن مستغربا منه المحاكاة، والتقليد التام للدراسات الغربية، وقد ساعد الاستعمار على السير في هـذا الطريق، حيث إنه هـو الذي صمم خلال سيطرته على العالم الإسلامي، أطر التعليم والثقافة، بل إنه هـو الذي أوجد المؤسسات التعليمية والثقافية في شكلها الحديث. ومما لا شك فيه، أن علم الاجتماع، والبحث الاجتماعي، والأنثربولوجيا ، علوم استعمارية. ويدل على ذلك ارتباطها في كثير من الأقطار، بالإدارة الاستعمارية الإنجليزية، والفرنسية، وفيما بعد الأمريكية. وعندما رحل الاستعمار السياسي بقي الاستعمار الفكري، حيث بقيت المؤسسات [ ص: 97 ] التعليمية مرتبطة بالمستعمر من خلال اللغة السائدة، والبعثات الدراسية، وتمويل البحوث، والدراسات العليا، والجامعات. وحتى البلدان التي قللت من البعثات للخارج، وصارت تمنح درجات عليا من جامعاتها المحلية، لا تزال مرتبطة بالغرب، حيث إن النظريات والمناهج هـي نسخ سيئ لإنتاج الغرب [6] .
6- لم تكن التبعية لعلم الاجتماع الغربي، مرد نقل نظريات ومناهج غربية، ولكنه نقل لقيم الغرب ومبادئه. فالنظريات والمناهج الغربية أوجدتها قيمه، وحاجاته، وظروفه. فهي تحمل العلمانية ، والعقلانية، والليبرالية التحررية، وتحمل أيضا المادية. فعلم الاجتماع ليس المادة الإحصائية أو الواقعية، ولا تصبح هـذه علم اجتماع ليس المادة الإحصائية أو الواقعية، ولا تصبح هـذه علم اجتماع إلا عندما تفسر، أو تئول بناء على رؤية أو نظرية معينة [7] .