الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الصياغة الإسلامية لعلم الاجتماع (الدواعي والإمكان)

الأستاذ / منصور زويد المطيري

الهدف الأول

الهدف الأساس في الصياغة الإسلامية، هـو أن يكيف علم الاجتماع نفسه في ظل مبدأ الإيمان بالله تعالى، وهذا يعني عدة أمور تكون في مجملها التصور الإسلامي العام:

(أ) إن الله سبحانه وتعالى هـو الخالق لهذا الكون بكل ما فيه من أشياء، وظواهر، وأحياء، بما فيها الإنسان. فالكون كله يبتدئ خلقه ووجوده من الله، وينتهي مصيره إليه. وهو المدبر والمهيمن عليه. ويعني هـذا: " أن الطبيعة لم تخلق نفسها، ولم توجد بنفسها. بل أوجدها الله. وهي تسير على سنن مطرده، وفق نظام مترابط الأجزاء، والله الذي خلقها هـو المقدر لسننها ونظامها " [1] . [ ص: 104 ]

(ب) الإيمان بالغيب، حيث ينقسم العالم إلى قسمين، يمكن التمييز بينهما، ولكن لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. هـما: عالم الغيب، وعالم الشهادة، ويتصل عالم الغيب بذات الله جل وعلا، وصفاته، والحياة الآخرة، والملائكة، والجن، والروح.

بينما يعني عالم الشهادة " كل ما على الأرض، وكل ما في الكون من أشياء وأحياء، وأحداث، وظواهر، وعلاقات، تشكل نظام الكون المادي، في أرضه وسمائه، وفي مادته وفضائه، وفي اجتماع المخلوقات وفي انفرادها [2] . ولا سبيل إلى معرفة الغيب إلا عن طريق الوحي، وعلى هـذا فليس العقل الإنساني أداة وحيدة للوصول إلى الحقيقة، وإنما هـناك طريق آخر هـو الوحي، له ميدانه الخاص، لا يستطيع العقل بلوغه لوحده. " فالعقل أداة الوصول إلى حقائق الطبيعة. وهو معرض مع ذلك للخطأ. والوحي أداة معرفة عالم الغيب - ما وراء الطبيعة " [3] .

(ج) الإيمان بأن الله هـو المشرع للإنسان. فهو الذي قدر للطبيعة سننها، وهو أيضا الذي وضع للإنسان عن طريق الوحي مقاييس الخير والشر، وحدد المعالم الثابتة للأخلاق والحقوق.

(د ) الإيمان بأن الله اصطفى بعض خلقه من البشر، ليبلغ شرعه، وهؤلاء هـم الأنبياء، ومنذ بداية خلق الإنسان، بعث الله أنبياء كثيرين ليبلغوا الناس شرع الله. وقد ختم الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فهو خاتم الأنبياء، ورسالته خاتمة الرسالات. [ ص: 105 ]

(هـ) الإيمان بأن الإسلام هـو خاتمة الرسالات. وهو رسالة عالمية موجهة إلى كافة البشر، كما أنه رسالة تامة ومكتملة، وصالحة لكل زمان ومكان.

وفي إطار هـذا التصور الإسلامي يمكن أن نجمل بعض المبادئ الأساسية التي تشكل إطارا نظريا لعلم الاجتماع الإسلامي. وتتعلق هـذه المبادئ بطبيعة الإنسان، وطبيعة النظام الاجتماعي، وطبيعة التاريخ البشري.

أولا- طبيعة الإنسان

1- قال الله سبحانه وتعالى : ( الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ) [السجدة:7-9].

فالإنسان في أصله مخلوق من طين، ونفخ الله فيه من روحه، وقد بينت هـذه الآية ازدواج الطبيعة الإنسانية، فهو من طين الأرض، ومن نفخة الله فيه من روحه، ويعني هـذا وجود نوازع الخير، ونوازع الشر في نفسه. ويقول سيد قطب : " إن هـذا الكائن مخلوق مزدوج الطبيعة، مزدوج الاستعداد، مزدوج الاتجاه، ونعني بكلمة مزدوج على وجه التحديد، أنه بطبيعة تكوينه - من طين الأرض، ومن نفخة الله فيه من روحه - مزود باستعدادات متساوية للخير والشر، والهدي والضلال، فهو قادر على التمييز بين ما هـو خير، وما هـو شر، كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر سواء، وأن هـذه القدرة كامنة في كيانه. يعبر عنها القرآن بالإلهام تارة: ( ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها ) [ ص: 106 ] [الشمس:7-8]. ويعبر عنها بالهداية تارة: ( وهديناه النجدين ) [البلد:10]، فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد.. والرسالات والتوجيهات والعوامل الخارجية، إنما توقظ هـذه الاستعدادات، وتشحذها هـنا أو هـناك، ولكنها لا تخلقها خلقا؛ لأنها مخلوقة فطرة، وكائنة طبعا، وكامنة إلهاما. [4] .

وينفي ما سبق، أن تلحق بالإنسان خطيئة موروثة، أو أنه آثم بالضرورة.

2- إن وجود نزعات الخير، والشر في الإنسان، تعني وجود شيء آخر، وهو وجود الإرادة الحرة فيه، والقدرة على اتخاذ القرار، " وهذا يعني أن النزعات في الإنسان ليست جبرية، بل إن الإرادة الإنسانية ذاتها هـي التي تحد العمل الإنساني، في أي من الاتجاهين. وينبذ هـذا " المبدأ " أيضا، كل أنواع الآراء الجبرية الأخرى، مثل الجبرية الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو البيولوجية " [5] وهذه الإرادة الحرة، هـي ما تميز الإنسان به عن بقية المخلوقات، وقد أشار إلى ذلك قول الله تعالى: ( ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ) [الحج:18]، فكل ما في الوجود يسجد لله ويطيعه. وأما الناس فكثير منهم يسجد ويطيع، وكثير يعصون ولا يسجدون. وهذا نتيجة للإرادة الحرة، التي شاء الله أن يمنحها للإنسان. [ ص: 107 ]

وفي مقابل هـذه الإرادة الحرة، التي منحها الله للإنسان، جعله مكلفا مسئولا. فقد كلفه وأمره بأوامر ليبتليه ويمتحنه. وجعله مسئولا مسئولية شخصية عن أعماله: ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ) [الإسراء:13]،

وقال: ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) [الأنعام:164].

3 - منح الله الإنسان القدرة على التعلم وطلب المعرفة، حيث ميزه بحواس تعينه على تكوين خاصة العقل والتفكير، التي تمكنه من العلم وإدراك الحقائق الخارجية: ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ) [النحل:78]،

فمعنى الآية أن عدم العلم في حال الولادة، يتحول إلى علم بواسطة السمع والأبصار والأفئدة. ويتميز الإنسان أيضا بقدرته على التعبير، والبيان، عن علمه وأفكاره: ( خلق الإنسان * علمه البيان ) [الرحمن: 3-4]،

كما أن علم الإنسان قابل للزيادة دائما، وبإمكانه ابتكار أمور لم يعهدها من قبل [6] .

4- لقد كرم الله الإنسان وفضله على كثير ممن خلق، فقد كرمه بأن خلقه على أحسن تقويم، وكرمه بالاستعدادات التي أودعها فطرته، وبها استأهل الخلافة في الأرض، وكرمه بتسخير القوى الكونية، له، بأن أسجد له ملائكته، وبحلول اللعنة على إبليس، الذي أبى واستكبر عن السجود لآدم ، كما أن الله سبحانه وتعالى أعلن هـذا التكريم في كتابه: ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) : [الإسراء:70]. [ ص: 108 ]

هذه نظرة إجمالية إلى رأي الإسلام حول حقيقة الإنسان. وهي نظرة توحي بالأسس، التي ينبغي أن يقوم عليها النظام الاجتماعي، حيث الاعتبار الأكبر للخلق، والخير، والفضيلة.

ثانيا- طبيعة النظام الاجتماعي

لقد أوجد الله المجتمع البشري، لنفس الحكمة التي أوجد لها الإنسان كفرد، وأوجد لها العالم، فغاية وجود المجتمع البشري، تتفق وتتمشى مع الغاية من الوجود الإنساني - بخاصة - من ناحية، ومع غاية وجود العالم -عامة - من ناحية أخرى، فالله سبحانه وتعالى القدير على كل شيء، لو شاء لجعل الإنسان مخلوقا فرديا، لا يعيش في مجتمع بالضرورة. ولكنه شاءه اجتماعيا، تحقيقا للحكمة التي من أجلها خلق الإنسان، وهي الابتلاء، حيث يمتحن الله الناس بالناس في المجتمع، عن طريق التفاعل بينهم، المتمثل في العلاقات والمعاملات الاجتماعية بشتى صنوفها [7] ويتكون المجتمع، أي مجتمع، من أفراد من البشر، إضافة إلى القوانين، والأفكار، والمشاعر، والعقيدة، ويضاف أيضا إلى ذلك القيادة المجتمعية، والغاية من كل فعالية يقوم بها المجتمع [8] ويذهب أحد الباحثين إلى أن المجتمع يتكون من أساسين. الأول: هـو ما يتمثل في العوامل البيئية والجنسية، وما يتبعها من تأثير متبادل بين الإنسان والبيئة. [ ص: 109 ]

والثاني: ويعتبر جوهريا في تكوين شخصية المجتمع: هـو الإرادة الجمعية الحرة للمجتمع، التي يختار بها المجتمع منهج الحياة، وشكل البناء الاجتماعي، والعقيدة التي ينبثق منها ذلك البناء [9] ويذهب آخر إلى أن المجتمع " هو مجموعة من الأفراد، يربط بينها رابط مشترك، يجعلها تعيش عيشة مشتركة. وتنظم حياتها علاقات منتظمة معترف بها فيما بينهم. قد يكون هـذا الرابط الأرض، وما يقوم عليها من مصالح مشتركة، كالمجتمع السويسري. وقد يكون الجنس والأصل، وما يتصل به من لغة، وثقافة، وتاريخ، ومبادئ، وهو المجتمع القومي. وقد يكون المبادئ السائدة والمعتقدات المشتركة، وما يتولد عنها من أفكار وعواطف وسلوك، وهو المجتمع العقائدي كالمجتمع الإسلامي. " [10] ونخلص من هـذه التعريفات، إلى أن الأجزاء الرئيسة التي تكون المجتمع هـي: جمع من الأفراد والقوانين، ويدخل فيها العقائد، والمشاعر، والأفكار.

وإذا أردنا أن نعرف بداية المجتمع، فإن الله سبحانه ذكر أن المجتمع الإنساني بدأ برجل وامرأة، هـما آدم وحواء: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) [الحجرات:13].

وتوضح هـذه الآية، أن ذرية آدم وحواء تكاثرت منهما وتطورت إلى شعوب وقبائل، وهو ما توضحه الآية الأخرى: ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) [النساء:1]، ولم يقتصر [ ص: 110 ] الأمر على الشعوب والقبائل، بل حتى هـذه تطورت في نهاية الأمر، إلى ما يسمى بالأمم، حيث تعتبر العقائد والأديان هـي المميز بينها. " وبالرغم مما طرأ على المجتمع والجماعات والقبائل، والأمم من تطور فكري، فقد بقيت الأسرة التي تبدأ برجل وامرأة وذريتيهما الهيكل البنائي لكل مظاهر هـذا الوجود، وهذه حقيقة عامة، ليس للإنسان حاجة إلى زيادة تطويرها... وقد بقيت الأسرة نفسها حجر الزاوية في النظام الاجتماعي. رغم ما طرأ عليها من أشكال مختلفة، فأصبحت متشعبة، أو منشطرة، أو متعددة الأنساب والزيجات " [11] وقد اقتضى وجود الفرد في محيط اجتماعي، سواء كان داخل أسرته أو خارجها، وجود صلات وعلاقات وارتباطات. فلم يكن المجتمع ركاما من البشر، ولا حشدا متراصا من الأعداد، ولكنه يتجاوز ذلك إلى علاقات العمل النامية، والصلات الناشئة بين أفراده، سواء كانت صلات ودية، أو صلاة عدائية. وإذا عدنا إلى قصة الإنسانية الأولى، وجدنا: أن آدم خلق لتكون معه زوجه، وليكون معها، واقتضى وجودهما مشاركة وجدانية، تمثلت فيما نشأ بينهما من سكينة، وطمأنينة، ومبادلة عاطفية في السراء والضراء. وقد أشار القرآن إلى مشاركة آدم وحواء في المسرة في قوله تعالى على لسانهما: ( دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين ) [الأعراف:89]، وإذا مشاركتهما فيما عرض لهما من انتكاس ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) [الأعراف:23] [12] . [ ص: 111 ]

ومن أوائل الصلات العدائية، قصة ابني آدم، حيث قتل أحدهما الآخر حسدا وظلما؛ لأن الله لم يتقبل منه قربانه، وتقبل من الآخر؛ ولأن النفس الإنسانية بطبيعتها لها نزعات ورغبات، وإرادة حرة مختارة، فلا بد من حدوث الاختلاف والاجتماع، والتناقض والتصالح.

وإن من الأمور البدهية حاجة المجتمع إلى قانون ينظم العلاقة بين الأفراد، ويقضي على النزاعات والخصومات، ويحكم بالعدل. وقد اتبع آدم عليه السلام وزوجه القانون الإلهي، وهو الدين الحنيف. إلا إن ذريته من بعده، لم يستمروا على نفس المنوال، بل كثيرا ما انقادوا خلف رغباتهم وشهواتهم. وقد أوغل كثير منهم في الانحراف إلى درجة بعيدة، وقد تداركهم الله برحمته، فأرسل لهم رسلا منهم، مبشرين ومنذرين. وهكذا كانت علاقة البشر مع دين الله في شد وجذب، حيث يبتعدون تارة، ويقتربون منه تارة أخرى.

والحقيقة الباقية من حقائق المجتمع، أنه بحاجة ماسة إلى قيادة وسلطة تعمل على نشر الدين، أو القانون الذي يحكم العلاقات بين الناس، وطبيعي أن يكون القادة من البشر أنفسهم، سواء كانوا أنبياء ورسلا، أو أشخاصا عاديين " وفي الوقت الذي تنبذ فيه القوانين التي أوحى الله إلى البشرية بواسطة أنبيائه كل أنواع الممارسات البغيضة، وعدم عدالة التوزيع الاقتصادي، فقد سن الإنسان قانونا يعكس في العالم رغبات الدوائر الأقوى في المجتمع، وتنحو إلى إعلاء كلمة الظلم، بل وتميل إلى تركيز السلطة في يد قلة من الأيدي المتغطرسة " [13] . [ ص: 112 ]

ثالثا- طبيعة التاريخ البشري

" إن حركة التاريخ هـي حركة البشر القاطنين على سطح هـذا الكوكب، بكل ما يعتمل في نفوسهم من دوافع ورغبات وصراعات، وكل ما يقع منهم وعليهم من تجاذب وتدافع وتصادم، من خلال حيز الزمان والمكان، والتيار الذي يدفع الجميع. ومن ثم فكل مكونات النفس البشرية داخلة في حركة التاريخ، وكل الصدامات والصراعات داخلة في حركة التاريخ: بحث الإنسان عن الله، وبحثه عن الطعام، وبحثه عن الحق والعدل، وبحثه عن الجمال، وسعيه إلى الغلبة والسيطرة، وسعيه لتسخير كنوز السماوات والأرض، وسعيه إلى الاستحواذ والملك. هـذه هـي حركة الإنسان في الأرض.. وهي تسير في خطين اثنين: خط الهدى، وخط الضلال " [14] .

وقد شهد التاريخ - على طول حركته - تدافعا وصراعا بين الحق والباطل، وكانت الأنظمة العادلة، في تعاقب مستمر، مع الأنظمة الظالمة في لمجتمع البشري، فآدم وحواء كانا على حق، أي مسلمين، وكذلك أولادهما من بعدهما، ولكن مع طول العهد انحدر كثير من ذريتهم نحو الضلال، فأصبح الناس أمتين: أهل الشرك والضلال، وأهل الحق والإيمان، ولكن الله سبحانه أرسل رسلا لإعادتهم نحو الحق والهدى. وغالبا ما يتعرض الرسل للتكذيب ولاستهزاء والسخرية من قبل لفئات المترفة والحاكمة، ويناصبونهم العداء، وقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، ومع ذلك لم يؤمن معه إلا قليل، مما يوضح شدة المعركة التي يخوضونها. [ ص: 113 ]

وكثير من الرسل هـيأ الله لهم نشر دعوتهم، وإقامة دعائم الدين، ولكن مع طول العهد ينسى خلفهم، وينحرفون عن الشريعة التي جاءوا بها. ثم يبعث الله رسولا آخر، يجدد المعالم، التي انمحت، ويقيم شرع الله. وظل الناس على هـذا الحال، حتى بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالشريعة النهائية والرسالة الخاتمة، ولا يعني هـذا أن صراع الحق والباطل قد انتهى، ولكنه يعني أن الله سبحانه ارتضى هـذا الدين لناس، حيث أكمله وأتمه، وعليهم أن يتبعوه، ولا يتبعوا السبل الباطلة، فتحيد بهم عن سبيله. ويعني هـذا أيضا أن مهمة نشر هـذا الدين، تقع على عاتق أتباعه المسلمين.

وقد ( قال الرسول صلى الله عليه وسلم : الجهاد ماض منذ أن بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال.. ) [15] . ويوضح هـذا الحديث أن نشر الإسلام يحتاج إلى مشقة وعناء، نظرا لما يواجهه من قوى باطلة وضالة.

ففي نفس المسلم هـناك مواجهة بين الفجور والتقوى، وبين الشيطان والإنسان.. وفي المجتمع المسلم مواجهة بين المعروف والمنكر، وبين أهل العدل وأهل البغي.. وخارج المجتمع المسلم، مواجهة أخرى، بين الكفر والإيمان، بين حزب الله، وحزب الشيطان.

" فإقرار منهج الله في الأرض لا يتحقق بخارقة، وإنما يتحقق بالجهاد، وبقدر ما يبذل من جهد روحي ومادي، جهد التوكل واليقين، وجهد السلاح والدفاع " [16] . وعلى كل حال. فإن حركة التاريخ كما يصورها القرآن " هي حركة اجتماع، وتشتت، أساسها الأمة المسلمة، [ ص: 114 ] التي تشعبت عنها الوثنيات والمعتقدات الباطلة، بأشكالها المختلفة، وحركة هـداية وضلال تتمثل في الاستعمال الصحيح أو السيئ للإمكانيات المتاحة للإنسان في نفسه، والأشياء من حوله، وهي حركة يرشدها الله بالنبوات وبالوحي، كلما انحرفت عن مسيرتها الصحيحة، بالبعد عن مصادر العلم والهداية الصحيحة والوقوع في أسر الضرورات " [17] .

إن ما أوردناه فيما سبق حول الإيمان بالله تعالى، وحول طبيعة الإنسان والنظام الاجتماعي، والتاريخ البشري، يعتبر المنطلقات الأساسية لعلم الاجتماع النظري، أو البحث الذي يعنى بتلمس مبادئ الطبيعة البشرية، والسلوك البشري. ومع أن التوقف عند حد المعرفة النظرية ليس هـدفا لعلم الاجتماع الإسلامي، بل يجب تطبيق مثل هـذه المعرفة لتعزيز الإسلام في نفوس الأفراد والمجتمعات، إلا أننا لا نتصور عالما للاجتماع، يشارك في عملية نشر الإسلام، وليس لديه أي معرفة بطبيعة الكون والنفس الإنسانية والنظام الاجتماعي، وحركة التاريخ [18] .

ولعلنا هـنا نتذكر على الفور الحكمة من القصص الذي قصه الله في كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم ، حيث لم يقصه الله سبحانه وتعالى لمجرد إثبات حادثة وقعت، ولكن الهدف الأساس، والذي توحي به مجموع القصص، هـو تثبيت قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقلوب أمته من بعده على الحق، وكذلك أخذ العظة والعبرة من أحوال الأمم السابقة، ومحاولة تلافي الأخطاء التي وقعت فيها تلك الأمم، وقد قال سبحانه وتعالى مبينا ذلك: ( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك [ ص: 115 ] وجاءك في هـذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ) [هود:120].

وقال تعالى: ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ) [يوسف:111]، وكذلك كل معرف نظرية لا تكون ذات قيمة، إلا إذا طبقت على أرض الواقع، وخدمت أهداف الإسلام.

ومن ناحية أخرى، فإن مثل هـذه المنطلقات الأساسية، توجه نظرية علم الاجتماع الإسلامي، التي تفسر السلوك البشري، بعيدا عن الوجهة الحالية للنظريات الغربية؛ فلأنها تحسب لجميع العوامل حسابها، فإنها تسلك مسلكا وسطا، ليس فيه تطرف أي جهة، بحيث تستطيع تفسير عمليات الاجتماع والتعاون، والصراع والتنافس، كما أنها تشير إلى وجود الإنسان المادي والروحي، وتركز أيضا على الإرادة الحرة المختارة، التي تعتبر البداية المباشرة لعمليات الاستنتاج، واتخاذ القرار، كما أن لديها القدرة على تفسير التغير في السلوك الفردي، وفي النظام الاجتماعي [19] ، وهذا على خلال النظريات الغربية، التي التزمت بمواقف متطرفة، مما أفقدها القدرة على تفسير المتناقضات الأساسية في العلاقات الإنسانية، " فعلى سبيل المثال عجزت الآراء، التي تدور حول نظرية مصغرة، عن تفسير الأنماط المكبرة، كما تعجز تلك الآراء التي تهتم بالصراع عن تفسير أنماط الوفاق، ولا تزال الآراء التي تفسر الجريمة غير قادرة على تفسير التلاؤم؛ لأن جميع هـذه الآراء تركز على الإنسان، باعتباره كائنا ماديا، وتهمل وجوده الروحي " [20] إن الهدف الأول من أهداف الصياغة الإسلامية هـو أن يسير علم الاجتماع في ضوء المعتقدات الإسلامية الأساسية، التي تكون نظرة [ ص: 116 ] الإنسان العامة للوجود، ولا يعني هـذا أن هـذه المعتقدات هـي موضوع علم الاجتماع، ولكنه يعني أنها تكون حاضرة في ذهن عالم الاجتماع، عند بحثه لأي قضية داخلة في حدود موضوع علم الاجتماع، وهو " واقع المجتمعات البشرية في حدود كونها عالما مشهودا يمكن ملاحظته واستخراج خصائصه، وقوانين حركته، وتبدله " [21] .

التالي السابق


الخدمات العلمية