المبحث الثاني
أماكن تلقي العلم
إن المتتبع لأماكن تلقي العلم يجدها متنوعة على الشكل التالي:
(1) الدور من الجدير بالذكر، الإشارة إلى أن أول مكان كان الصحابة يتلقون فيه العلم عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، هـو دار الأرقم بن أبي الأرقم [1] وقد كانت هـناك دور أخرى، من بينها: منزله عليه الصلاة والسلام. وفي ذلك يقول الدكتور أحمد شلبي : " وبالإضافة إلى دار الأرقم، كان الرسول قبل إنشاء المساجد أيضا يجلس بمنزله بمكة ، ويلتف حوله المسلمون ليعلمهم ويزكيهم. وقد ظلوا كذلك إلى أن نزلت بالمدينة الآية الكريمة " [2] ...
وكان نزولها بعد إنشاء المساجد. وقد خفف الله بها عن [ ص: 39 ]
الرسول، ما كان يعاني من تدفق الجموع تدفقا يكاد يكون متصلا، مما لا يدع له وقتا للراحة والاستجمام [3]
وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم نجد من الصحابة من يعقد مجالس للعلم في منزله، أمثال عبد الله بن عباس [4]
رضي الله عنهما ، وفيما بعد الإمام مالك بن أنس [5] رحمه الله، وغيرهما.
(2) المساجد [6] في واقع الأمر لم يكن المسلمون يعتبرون المنازل مكانا صالحا للتعليم، لما قد يحسه الأهل من إزعاج، ولما يمكن أن يحسه الطلبة من حرج، مما يعوق العملية التعليمية، لكن للضرورة أحكام.
من أجل هـذا، نجدهم يفضلون المساجد على البيوت، وعلى المدارس، لما ظهرت، وفي ذلك يقول ابن الحاج: " ..والمقصود بالتدريس كما تقدم، إنما هـو التبيين للأمة، وإرشاد الضال، وتعليمه، ودلالة الخيرات، وذلك موجود في المسجد أكثر من المدرسة ضرورة. وإذا كان المسجد أفضل، فينبغي أن يبادر إلى [ ص: 40 ] الأفضل، ويترك ما عداه، اللهم إلا لضرورة، والضرورات لها أحكام أخر " [7]
وكثير من النصوص توضح أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، كان يعلم أصحابه قواعد الإسلام في المسجد، كما في رواية ( واقد بن الحارث بن عوف رضي الله عنه ، قال: بينما هـو جالس في المسجد والناس معه. إذ أقبل نفر ثلاثة. فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبا. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى فآواه الله. وأما الآخر فاستحيا، فاستحيا الله منه. وأما الاخر فأعرض، فأعرض الله عنه ) [8]
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحث المسلمين على التعلم والتعليم في المساجد، فعن " أبي هـريرة رضي الله عنه قال: من جاء مسجدنا هـذا يتعلم خيرا أو يعلمه، فهو كالمجاهد في سبيل الله، ومن جاء بغير هـذا كان كالرجل يرى الشيء يعجبه وليس له، وربما قال: يرى المصلين وليس منهم، ويرى الذاكرين وليس منهم " [9]
وعلى هـذا النهج سار الصحابة ومن جاء بعدهم، كعبد الله بن رواحة ، وأبي هـريرة، وسلمان الفارسي ، الذي كان يلتف حوله في [ ص: 41 ] المسجد نحو من ألف شخص، يسمعون منه حديث رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام [10]
ومزية عقد المجالس في المساجد، تتجلى في توسيع نطاق التعليم. وبهذا لا يقتصر على الخاصة؛ لكن هـذا لا يمنعنا من القول: إن دقائق العلم له أهله الذين تفرغوا له تفرغا كاملا، ومثل هـؤلاء لهم مجالس خاصة يدرسون فيها مثل هـذه الأمور، حتى لا يثقلوا على العامة بمعالجتها في حضورهم، وحتى لا يفوت العامة بدورهم على الخاصة من طلاب العلم الدارسة المتعمقة.
(3) الفلاة والأسواق والطرقات
قد تعقد المجالس خارج المدينة، فلا يجد الناس مسجدا، فيأخذون العلم في الفلاة عن محدث يلتقون به مثلا، أو يتذاكرون بينهم الحديث، أو آيات الكتاب العزيز؛ لأن المذاكرة ضرورية، لكي يبقى الطالب دوما وثيق الارتباط بهذا العلم حتى لا ينساه. ولعل هـذا ما جعل للمسلمين ميزة كبيرة على باقي الأمم والشعوب، لما كان يعطي للعلم حقه.
وقد يكثر الحضور حتى لا يسعهم المسجد، فيضطر المحدث إلى التحديث في الضواحي والطرقات، كما في رواية القاضي أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري ، قال: حدثني أبي قال: " كنا نحضر مجلس أبي إسحاق إبراهيم بن علي الهجيمي للحديث، فكان يجلس على سطح له، ويمتلئ شارع بالهجيم بالناس، الذين يحضرون [ ص: 42 ] للسماع، ويبلغ المستملون عن الهجيمي . قال: وكنت أقوم في السحر، فأجد الناس فيه، فوجد ثلاثين ألف رجل " [11]
والأسواق من جانب آخر، ملتقى للخاصة والعامة. وبما أن العلماء حريصون على نشر السنة، والناس متلهفون على تلقي العلم، والتعرف على السلوك القويم، والتبرك بالجلوس إلى العلماء، فإنهم كانوا يستغلون هـذه الأماكن للأداء والسماع.
(4) الكتاتيب [12] الكتاتيب أماكن خاصة بتعليم الصبيان، يتلقون فيها تعليمهم الأولي من كتابة وحفظ للقرآن. وقد " سئل أنس رضي الله عنه فقيل له: كيف كان المؤدبون على عهد الأئمة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ؟ قال أنس رضي الله عنه : كان المؤدب له إجانة، وكل صبي يأتي كل يوم نوبته ماء طاهرا، فيصبونه فيها، فيمحون به ألواحهم. قال أنس رضي الله عنه : ثم يحفرون حفرة في الأرض، فيصبون ذلك الماء فينشف " [13]
وكان المعلم أو المؤدب يأخذ في الغالب على عمله أجرا [14] [ ص: 43 ] وانتشرت الكتاتيب في الشرق والغرب، فأحمد بن أحمد بن إبراهيم المعلم ، المتوفى سنة 337ه، كان معلم كتاب، وهو من أهل قرطبة [15]
ولم يتوقف انتشار الكتاتيب يوما ما، فهي ما تزال إلى حد الآن في البوادي والمدن تحت أسماء مختلفة.
ولم يستجز العلماء تعليم الصبيان الصغار في المساجد؛ لأنهم لا يتحفظون من النجاسة، كما قال الإمام مالك رحمه الله [16] ، وكرهوا أن يخلط المعلم الجواري مع الغلمان؛ لأن ذلك فساد لهم، كما قال سحنون [17]