الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            النظم التعليمية عند المحدثين في القرون الثلاثة الأولى

            الأستاذ / المكي أقلانية

            المبحث الأول

            العمومية

            من الممكن أن نطرح التساؤل التالي: ما مدى عمومية التعليم عند المحدثين؟

            إذا ما عدنا إلى القرآن الكريم، وجدنا الخطاب موجها إلى من لا يعلم، ليسأل من يعلم: ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) [النحل:43]. فعلى كل راغب في العلم، أن يسأل ويبحث عمن يفيده في مسألته. [ ص: 132 ]

            لكن ماذا على العالم؟

            وبالنسبة للعالم فإنه يجب عليه، إن كان له علم بالمسألة، أن يجيب السائل، وإلا تعرض لوعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث ( قال: إن من كتم علما مما ينفع الناس، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار ) [1]

            أما إذا لم يكن له علم بها، فإنه يقول: " لا أدري " . بدون حرج، حتى إن الشعبي قال: " لا أدري: نصف العلم " [2]

            وهو قول غيره من الصحابة والتابعين.

            وبناء عليه نجد ( عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: " يا أيها الناس، من علم شيئا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ) [ص:86] ) [3]

            من أجل هـذا كله، نجد الناس يبحثون عن العلماء، ويتحلقون حولهم للأخذ عنهم، ويرحلون إليهم من البلدان البعيدة، متحملين في ذلك المشاق والمصاعب، ومن جانب آخر، نرى العلماء بدورهم يتوجهون إلى بلدان معينة، قصد توعية الأهالي، على شكل بعثات علمية، يعلمونهم ما يتعلق بالعبادات، والمعاملات وفضائل [ ص: 133 ] الأعمال، يلقون دروسهم في الطرقات والمساجد، حتى يستفيد أكبر قدر ممكن من الناس.

            وعلى هـذا لم يكن المعلم مقتصرا على الطلبة فقط، بل كان في متناول العامة والخاصة، وما على الشخص إلا أن يحضر الحلقة للتزود بخير الزاد.

            وقد كان من عادة الناس أنهم إذا سمعوا بوصول محدث إلى المدينة، يضربون له موعدا في المسجد، أو في مكان عام للجلوس إليه والاستماع منه، أو لاختباره أحيانا من طرف محدثي البلد، كما وقع للبخاري ، إذ قلبوا عليه مائة حديث، إلا أنه فطن إلى ذلك، ورد كل متن إلى سنده، فشهدوا له بالعلم والإتقان [4]

            وقد نجد العالم أحيانا يحدث، ويقرأ القرآن حتى على من لا يشتهيه، ويتحيل لذلك شتى الحيل، فلعل الله يهدي السامع إلى خير السبيل. وفي ذلك يروى " عن عمرو بن العاص ، رضي الله عنه ، " أنه كان في سفر فرفع عقيرته بالغناء، فاجتمع الناس، فقرأ، فتفرقوا، ففعل ذلك، وفعلوه غير مرة. فقال: يا بني المتكاء، إذا أخذت في مزامير الشيطان اجتمعتم، وإذا أخذت في كتاب الله تفرقتم؟! " [5]

            وهذه النصوص تدل صراحة على الإحسان العميق الذي يستشعره المحدث إزاء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من ضرورة تبليغها إلى عامة المسلمين. [ ص: 134 ]

            إلا أنه قد يقول قائل: إن العمومية غير قائمة، بدليل أن من المحدثين من كان يرفض تحديث الغريب، ولم يكونوا يروون كل ما عندهم للعامة.

            وهذا القول في الواقع راجع إلى سوء فهم، وعدم الوعي بمجموعة من المسائل من طرف المدعي. ففيما يتعلق بالتحرج من تحديث الغرباء، لم يكن في عهد الصحابة، ولا في عهد التابعين، ولكن في عهد أتباع التابعين، ومن بعدهم، حيث انتشرت البدع والأهواء، وخاف بعض المحدثين أن يتصدر أحد المبتدعة الإفتاء، فيحرفون الحديث مسايرة لأهوائهم، فامتنعوا من تحديث الغريب حتى تثبت لهم عدالته. وفي ذلك قال معاوية بن عمرو بن المهلب الأزدي : " كان زائدة لا يحدث أحدا حتى يمتحنه، فإن كان غريبا قال له: من أين أنت؟ فإن كان من أهل البلد، قال: أين مصلاك؟ ويسأل كما يسأل القاضي عن البينة، فإذا قال له، سأل عنه، فإن كان صاحب بدعة قال: لا تعودن إلى هـذا المجلس، فإن بلغه عنه خيرا أدناه وحدثه، فقيل له: يا أبا الصلت: لم تفعل هـذا؟ قال: أكره أن يكون العلم عندهم، فيصيرون أئمة يحتاج إليهم، فيدلوا كيف شاءوا " [6]

            وهذا النص يوضح لنا أن الأمر لا يتعلق بالغرباء فقط، بل حتى بأهالي البلد، وذلك راجع إلى انتشار البدع، فكان من المحدثين ورعا لا يحدثون إلا من ثبتت لهم عدالته، وفي ذلك صيانة للسنة.

            أما فيما يتعلق بعدم رواية المحدث كل ما يعلمه للعامة، فذلك راجع [ ص: 135 ] إلى كونه يريد مخاطبتهم حسب عقولهم، حتى لا يكذب الله ورسوله، فليس كل حديث يستطيع أن يفهمه العامة. أما عندما يكون في خلوة مع طلبة الحديث الشريف، فله أن يتبسط معهم، دون حرج، مع بيان الصحيح من السقيم، والموضوع – أي المكذوب – ليردوه على أهله، بينما لا يحل له ذلك مع غيرهم، لئلا يختلط الأمر عليهم، خصوصا وأنهم لم ينصرفوا كلية للعلم ليفقهوا دقائقه.

            وقد نجد طالبا يروي للعامة حديثا سمعه من شيخه، كان الأولى أن لا يرويه لهم، فيوبخه شيخه على ما فعل. فهذا مجاهد يقول: " حدثنا الشعبي بحديث الحمار الذي عاش بعدما مات، فرويته عنه، فأتاه قوم فسألوه عنه فقال: ما حدثت بهذا الحديث قط، فأتوني، فأتيته، فقلت: أو ما حدثتني؟ فقال: أحدثك بحديث الحكماء، وتحدث به السفهاء؟ " [7]

            وهو بذلك يسير على الهدي النبوي، والخطة التي رسمها النبي عليه السلام ، في أن من يضع العلم عند غير أهله، لا يجد قلبا واعيا، فكأنه يقلد الخنازير اللؤلؤ، في حين أنها لا تستفيد منه. ( قال صلى الله عليه وسلم : طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب ) [8]

            وعن أبي جعفر قال: " يا جابر ، لا تنشر الدر بين أرجل الخنازير، فإنهم لا يصنعون به شيئا " . وعلق الرامهرمزي عليه بقوله: " وذلك نشر العلم عند من ليس له بأهل " [9] [ ص: 136 ]

            ولعل كلام كثير بن مرة يفسر ذلك، إذ قال: " لا تحدث الباطل للحكماء فيمقتوك، ولا تحدث الحكمة للسفهاء، فيكذبوك، ولا تمنع العلم أهله، فتأثم، ولا تضعه في غير أهله، فتجهل. إن عليك في علمك حقا، كما أن عليك في مالك حقا " [10]

            وبهذا يظهر أن العمومية قائمة في التعليم عند المحدثين، أما عندما يصبح الأمر متعلقا بمن يكن للإسلام العداء، فإننا لا نجد من يحل تزويده بالسلاح لتقويته. وأما عندما يتعلق الأمر بالعوام، فيجب أن نعلم أن المحدثين لم يكتموهم شيئا مما يعلم من الدين بالضرورة، وما يحتاجون إليه في عباداتهم ومعاملاتهم. أما الدخول معهم في دقائق العلم، فإنه لا يمكن لهم استيعابه إلا تدريجيا، وهذا لا يتأتى إلا للطلبة المتفرغين للعلم.

            وقد أخرج البخاري عن ابن عباس : " كونوا ربانيين حكماء فقهاء " . قال البخاري: " ويقال: الرباني: الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره " [11]

            ووضح الحافظ ابن حجر العسقلاني ذلك بقوله: " والمراد بصغار العلم: ما وضح من مسائلة، وبكباره: ما دق منها. وقيل: يعلمهم جزئياته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدماته قبل مقاصده " . وهذا يدل على أن العلم لا يؤخذ دفعة واحدة، ولكن عن طريق التدريج، انطلاقا من المبسط إلى المعقد. [ ص: 137 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية