الفصل الثاني المنهج النبوي والتغيير في العصر العالمي
إن الجهد الرائع، الذي بذله العقل المسلم، في ميدان مواجهة خصوم المنهج النبوي، قديما وحديثا، قد أتى أكله بحول الله وقوته، أضعافا مضاعفة، لما كان متوقعا، وهذا فضل من الواحد القهار سبحانه وتعالى . فقد خرجت السنة النبوية منتصرة من صراع مرير، خاضته ضد الهوى، الذي انغرس في نفوس المغرضين، والمناوئين، الذين ما تركوا سبيلا إلا وسلكوه لمحاربتها، ومحاولة النيل منها. فكان الصراع محتدما على كل الأصعدة: صعيد المنهج والمعرفة، وصعيد مضمون السنة وحملتها، وصعيد فهمها وتطبيقها.
فلم تكن المعركة السنية - إن صح التعبير- سهلة، وبسيطة، بل كانت شرسة ومعقدة، وليس أدل على هـذا، من ذلك الكم الهائل من الأفكار، والكتابات، التي ظهرت في هـذا الحقل المعرفي الإسلامي.
لقد خاضت السنة تجربتها الأولى في حضور نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام ، لا لتترك لنا فقط أحاديثا وسننا روى بها رسولنا عقول الناس، بيانا وعلما وهديا، ولكن لتخلف لنا أثرا عظيما من آثار الإسلام، وهو تنزيل القرآن إلى أرض الواقع، وتحويله إلى ثقافة اجتماعية أخلاقية وروحية، وسلوكية، وعمرانية. والعجيب حقا أن تتم عملية التنزيل، في ظرف زمني وجيز، امتد إلى حوالي ثلاثة وعشرين عاما، وهي حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد البعثة.
ثم خاضت السنة معركتها الثانية في وجود الصحابة الكرام، والتابعين الأبرار، وتابعي التابعين الأخيار، لتترك لنا تراثا معرفيا سنيا، وحديثيا، ظهرت [ ص: 65 ] من خلاله عبقرية العقل المسلم الاجتهادية، والمنهجية، والعقلية، فنشأت بذلك علوم رائعة، ومناهج كفأة في هـذا الحقل المعرفي الإسلامي ( علوم السنة ) .. وبعد هـذا الزمن الطيب في حياة السنة النبوية، توالت العهود، ودخلت أمتنا العزيزة في مراحل الضعف والتخلف، ليس عن ركب الحضارة كما يقولون، ولكن عن مستوى القرآن والسنة، فحدث لها ما هـو معلوم من واقعنا بالضرورة
دعونا نقول بأن السنة النبوية في تطورها التاريخي مرت بقراءتين:
- القراءة النبوية، وتمتاز بأنها كانت سلوكا، وقيما، وأخلاقا، وواقعا مجسدا وقرآنا، يمشي داخل مؤسسات المجتمع وثقافته. ويمكن تسميتها (بالقراءة عن طريق الوحي) ، فقد كانت أقوالا، وأفعالا، وتقريرات كما يعبر عن ذلك علماء الأصول، ولكنها محكومة بمرجعية الوحي، ومعياريته.
- القراءة البشرية العلمائية: وأعني بها قراءة الصحابة، والتابعين وتابعي التابعين، وتابعيهم بإحسان، وتمتاز بأنها معرفية وعلمية، أي أنها اشتغلت بالجانب النظري، والاستدلالي، والبناء الفكري للسنة، وصبها في كتابات، ومؤلفات مثل الموطآت، والمسانيد، والصحاح، والمدونات،.. الخ أخذا بعين الاعتبار الجانب المنهجي منها، وما أنتجته العملية التدوينية من مناهج، وعلوم مثل علم مصطلح الحديث، وعلم الجرح والتعديل، وعلم العلل والرجال، بالإضافة إلى استخدام مناهج التاريخ، ومناهج السير في الأرض.