الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التوحيد والوساطة في التربية الدعوية [الجزء الأول]

فريد الأنصاري

ثالثا: التربية بين التكوين والتلقين

أشرنا في المقارنة بين المربي والوسيط، إلى أن المتربي، يتعلم من المربي طرائق الإنتاج، وأنه لا يتعلم من الوسيط إلا طرائق الاستهلاك، وذلك هـو المقصود عندنا هـهنا، من مصطلحي ( التكوين والتلقين) ، فهما معنيان متقابلان، لأن التكوين هـو طبيعة العملية التربوية، في إطار التوحيد، والتلقين هـو طبيعتها في إطار الوساطة. فالتكوين إذن، هـو إعداد الفرد - كما مثلنا في مثال اصطياد السمك - ليكون قادرا على تمثل المفاهيم الشرعية من مصادرها.. إنه محاولة اكتشاف مواهب الفرد، وطاقاته الذاتية، لتطويرها قصد إنتاج الشخصية الإسلامية الفعالة. أما التلقين فهو : شحنه بالمفاهيم الجاهزة، المتمثلة في فكر المفكر، أو سلوك الشيخ.. [ ص: 63 ]

وعليه، فإن التربية التوحيدية، تعمل على إنتاج العقلية القيادية، المنتجة في مجالها، والجندية المبادرة، المنتجة في مجالها أيضا، لأن طبيعة العمل بالنصوص، تكسب الفرد قوة منهجية ذاتية، ودربة على العصامية.. فأقل شيء تكونه في المتربي البسيط، الثقافة عندما تواجهه بالنص الشرعي، وتكلفه بتفسيره، أو شرحه، هـو أنك تنبه نفسيته الخاملة وتوقظها، إذ تجعله يحس أنه يجب أن يعطي هـو أيضا، لا أن يستهلك فحسب .. ثم إنه يقوم بمراجعة ذاتية داخلية، من أجل العمل على استخدام طاقاته وتطويرها، وهكذا يبتدئ تكون العقلية الإنتاجية.

فكثيرة هـي تلك الشخصيات الانطوائية، التي تذم نفسها، وتستهين بقدراتها الذاتية، والواقع أن لها من الطاقة - لو وجدت من يكتشفها كي يتأكد منها صاحبها أولا، ثم يقوم بتطويرها - ما يعطي الشيء الكثير لهذه الدعوة، وللإسلام عامة، فالتعامل مع النصوص الشرعية، كفيل بإيقاع الفرد بذاته أولا.

ولذلك فإن أول ميزة يتخرج بها المتربي من البرنامج التوحيدي، هـي القوة الإرادية المبادرة، فهو طاقة فعالة منتجة، حيثما حل أو ارتحل، لا وجود في شخصيته للرغبة الاستهلاكية، والشعور الانتظاري.. فرب شخص توحيدي التربية، يرتحل إلى بلدة نائية، لم يمتد إليها العمل الإسلامي، ويتعذر التواصل معه، ورغم ذلك يأتيك بعد سنة، أو سنتين، متبوعا بجماعة من الأقوياء الأمناء، تشكل حصيلة إنتاجه التربوي طيلة غيابه، [ ص: 64 ] فيمد حركة الإسلام برافد جديد من العاملين، ويضيف إلى جغرافيتها منطقة لم تكن في الحسبان..

ورب شخص آخر، تخرج من برنامج وساطي، يعين في بلدة آهلة بالعاملين والدعاة، ويكلف بقطاع ما، أو عمل ما، وبعد مدة يأتيك شاكيا باكيا: إن المسئولين لم يتصلوا بنا، إن المسئولين لم يهتموا بنا، إنهم لم يزودونا، إنهم... إنهم... إلخ، ولا يصدر اتهاما واحدا لنفسه !! فتحس أن الرجل قد فتر فعلا، بل كاد يتلاشى.

فالفرق بين النموذجين يرجع أساسا إلى طبيعة العمل التربوية،الذي تربى عليه كل منهما، فالأول كما ذكرنا رجل خضع لتربية تكوينية، لا تلقينية، فتكونت فيه شخصيته الفاعلة المبادرة، وعقليته الإنتاجية لا الاستهلاكية ! فهو وإن رحل إلى بلدة ليست فيها بيئة إسلامية، فإنه أوجدها وصنعها. وأما الثاني فهو رجل خضع لتربية تلقينية، لا تكوينية، فتلقن ما يصلح به تدينه الذاتي إلى حين، لا ما يصلح به غيره، لأن العقل المصلح، أو الإرادة المنتجة لا تلقن أبدا، ولكنها تكون تكوينا..

ولذلك رغم أنه عين في بلدة ذات بيئة إسلامية، فإنه لم يستطع القيام بمهمته المنوطة به، بل إنه كان ينتظر اتصال المسئولين به وتزويده، ومساعدته،ولما لم يكن ذلك، بدأ يتدهور تدينه الشخصي، والتزامه الذاتي، وهو في ذلك معذور، لأنه ألف أن يستهلك، ولم يألف أن ينتج، [ ص: 65 ] لأن المنهج الذي تربى عليه، لم يتح له ذلك، فقد كانت شخصيته مستلبة من لدن الوسيط، الذي كان ينتج كل شيء، ويطعم أفراده المفاهيم جاهزة..

ومن هـنا لم يدرك هـذا المتخرج الجديد، أن عليه أن يفطم نفسه عن الاستهلاك، وأن يشرع في الإنتاج، وحتى لو أدرك ذلك، فإنه لن يستطيع تحقيق تلك الإرادة في نفسه، وحتى لو أراد، فإنه لن يتمكن من الإنتاج فعلا، لأن عقله لم يشكل ذلك التشكيل، فيكون عليه إعادة تربية نفسه من جديد.

وهكذا ففرق بين شخص كهذا، لو عين في منطقة نائية عن نفوذ العمل الإسلامي،لربما ضاع وتساقط، وبين شخص يذهب إلى هـناك، وبعد عام يأتيك بقبيلتي أسلم وغفار ، تماما كما صنع أبو ذر الغفاري رضي الله عنه [1] .

ثم إن التربية التكوينية بعد ذلك تنتج عقلا علميا، وشخصا منهجيا يصعب أن تتسرب إليه الخرافة، والأفكار الوهمية، والغيبية التواكلية، ذلك أن استفادة المفاهيم من نصوص الشرع نفسه، كعملية تكوينية، تكسب الفرد منهجية تحليلية نقدية، ومقاييس علمية لقبول الأفكار أو ردها، وملكة خاصة [ ص: 66 ] لمعرفة المقاصد العامة للشرع، يرجع إليها كل ما يتلقاه من كلام، أو يقرؤه من توجيه وتخطيط، فيدع المخالف، ويقبل الموافق.

فعقل مثل هـذا، هـو عقل إسلامي مسدد، يصعب أن تتسرب إليه الخرافة، أو الفهوم المنحرفة،في هـذا الاتجاه أو ذاك، لأنه محصن بحاسة استفهامية، لا تدخل في قصد التكليف - على حد تعبير الشاطبي - إلا بعد تبين قصد الإفهام [2] ، إذ لا يجوز أن يتأخر البيان عن وقت الحاجة .

وأما التربية التلقينية، فهي بالمقابل تنتج عقلا يفتقر إلى أساسيات التفكير المنهجي،ومبادئ العقل العلمي، ذلك أن السكون السلبي، الذي يمارسه المتربي، إزاء الوسيط، وبرنامجه التربوي، هـو ضرب من اغتيال العقلية النقدية، وتكريس لقابلية التقبل المطلق، والاستسلام التام، لكل المفاهيم الوساطية.. فلا قدرة لمثل هـذا، على التمييز بين الحق والباطل وبين المفهوم الصحيح والمفهوم المدلس، ولذلك فهو أبواب مشرعة لدخول التفكير الخرافي، ومفاهيم الغيبية التواكلية، ذات الطبيعة الانتظارية، لا الغيبية التوكلية، التي تبادر إلى الأخذ بالأسباب الشرعية، والسنن الربانية، في النفس والمجتمع..

وما أكثر أن تلاحظ شيوع الأحاديث الضعيفة، بل والموضوعة بين مثل تلك العقليات، وكذا ترويج الإشاعات ذات الطبيعة الأسطورية، والأقوال [ ص: 67 ] الشاذة، و (الفقه) الغريب! ليس لأنها عقليات غير عالمة.. فالعالمية ليست مطلبا للبرامج التربوية، كما أسلفنا،ولكن لأنها عقليات غير استفهامية، ولا نقدية، ولا منهجية، أي ليست علمية.. و (العلمية) ليست حكرا على العلماء، والمثقفين، بل ربما تجدها لدى الفلاح البسيط، أو لدى العامل المحدود الثقافة؛ لأنها طريقة في التصرف والتفكير، قبل أن تكون طريقة في البحث.

وأخيرا فإن التربية التكوينية، تنتج طاقات مختلفة، باختلاف مواهبها الذاتية، وميولاتها الجبلية، ومؤهلاتها الفطرية، فتستطيع بذلك سد الخلات، وملء الثغرات، وإشباع الحاجات، في إطار المشروع الدعوي الإسلامي، رغم اختلافها وتعددها، لأن العملية التكوينية، تعمل على اكتشاف مواهب كل فرد على حدة، وتوجيهه نحو تنميتها وتطويرها، وهذه بطبعها مختلفة، متعددة بتعدد الناس، ولذلك تعمل التربية التكوينية على تيسير الأفراد لما خلقوا له من اختصاصات، تأسيا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( اعملوا، فكل ميسر لما خلق له ) [3] .

لكن التربية التلقينية، لا تراعي - باعتبارها تلقينا جاهزا - الفوارق النفسية، والتخصصات الجبلية، بل تطبع الكل بطابع واحد، فتنتج نمطا واحدا من الأفراد، كلهم نسخة واحدة، صادرة عن الوسيط. [ ص: 68 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية