2 - تعميق الاتجاه التوحيدي
إنها قلوب تعيش في الأرض، لكنها تتغذى بنور السماء مباشرة،وكان حضور الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، حضور المربي، الذي يبين ويعمق هـذا الاتجاه التوحيدي، في قلوب الصحابة الكرام، ولم يكن حضور الذي يعلق الناس بشخصه، وهذه خاصية أخرى، تميز به المنهج التربوي النبوي؛ إذ كان شخص الرسول صلى الله عليه وسلم إزاء القرآن، الذي هـو كلام الملك الواحد الصمد، مجرد عبد من عباد الله، لا ميزة له إلا من حيث كونه يوحى إليه، وكونه أعبدهم له سبحانه، وأتقاهم له فكان من الناحية التربوية، قدوة للناس في طريقهم إلى الله، أعني من الناحية التوحيدية العقدية، التي هـي جوهر التربية النبوية، وفي ذلك قال الله عز وجل : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) (الكهف: 110) .
ولقد كان صلى الله عليه وسلم دائم التنبيه إلى هـذا المعنى السامي، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله ) [1] ، وربما وقع رغم ذلك، نوع من الانحراف عن هـذا المنهج التربوي القويم، نظرا للحب الشديد الذي يكنه الصحابة لشخصه صلى الله عليه وسلم ، فيتم التذكير بهذه الخاصية التربوية المتميزة، فتعود المياه إلى مجاريها بسرعة، ولا يقع التمادي في تكريس الوساطة المذمومة! [ ص: 72 ]
من ذلك ( ما صدر من عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : (والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وليبعثنه الله، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ) فقال أبو بكر رضي الله عنه : ( أيها الحالف على رسلك!) فلما تكلم أبو بكر جلس عمر ، فحمد الله أبو بكر، وأثنى عليه، وقال: (ألا من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات،ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت) . وقال : ( إنك ميت وإنهم ميتون ) (الزمر:30) ، وقال: ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) (آل عمران : 144) ) [2] . ثم لقد بصر أبو بكر الناس الهدى، وعرفهم الحق الذي عليهم،وخرجوا به يتلون : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) ... ( الشاكرين ) (آل عمران : 144 ) .
إن هـذه العودة السريعة، والقوية، في نفس الوقت، إلى مقتضى القرآن لم تكن لتحصل في هـذا الموقف الصعب، لو لم تكن للقرآن الكريم المصدرية المطلقة في تكوينهم التربوي، ولو كانت شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في حياتهم التربوية، شخصية وسيط، لا شخصية مرب .. وهذا المعنى، هـو الذي رسخ في عقلية الجيل القرآني،واستمر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما يشهد بذلك حديث أنس ، رضي الله عنه ، قال:
" قال أبو بكر ، رضي [ ص: 73 ] الله عنه ، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه : انطلق بنا إلى أم أيمن، نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها .. فلما انتهيا إليها، بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خيرا لرسوله صلى الله عليه وسلم ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء! فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها " .
فالنص دال بوضوح، على أن ارتباط الصحابة، إنما كان بالقرآن، الذي هـو ربط مباشر بالله، ولم يكن بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم ، إلا من حيث هـو مبلغ عن الله، وفي ذلك تأكيد لتوحيدية المنهج النبوي من خلال الخاصيتين المذكورتين: المصدرية القرآنية، والحضور التربوي للرسول صلى الله عليه وسلم كمرب، لا كوسيط. وما ذلك إلا استجابة لتوجيه القرآن نفسه، حيث قال عز وجل : ( ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) (آل عمران:79) ، قال الطبري ، رحمه الله، في هـذه الآية :
( أخبر تعالى ذكره عنهم،أنهم أهل إصلاح للناس، وتربية لهم بتعليمهم إياهم كتاب ربهم،ودراستهم إياه وتلاوته) .. ومن ثم صح أن نقول : إن القرآن الكريم،كان هـو الباب المفتوح والمباشر الذي ولجه الصحابة الكرام إلى ملكوت الله،حيث صنعوا على عين الله. إنه السبب الوثيق، [ ص: 74 ] الذي تعلقت به قلوبهم،فأوصلهم إلى مقام التوحيد، أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( كتاب الله هـو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض ) [3] .