تقديم بقلم: عمر عبيد حسنة
الحمد لله، الذي شرع لنا من الدين: ( ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ) (الشورى:13) .
والصلاة والسلام على خاتم النبيين،الذي ورث الكتاب، وخلص إرث النبوة ممالحق به من الشرك، والتحريف، والتأويل،والمغالاة، والانتحال، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله خالصا لله: ( ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هـم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هـو كاذب كفار ) (الزمر :3) ،وبعد:
فهذا كتاب الأمة السابع والأربعون: ( التوحيد والوساطة في التربية الدعوية) ،الجزء الأول، للأستاذ فريد الأنصاري ، أستاذ الدراسات الإسلامية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في مكناس ، المغرب ، في سلسلة (كتاب الأمة) ، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، [ ص: 9 ] في دولة قطر ، مساهمة في إعادة البناء، واسترداد دور الأمة المسلمة، في الشهادة على الناس، والقيادة لهم إلى الخير، وإخراجهم من الكفر إلى الإيمان.. من الشرك إلى التوحيد.. من عبادة العباد، إلى عبادة الله الواحد.. ومن جور الأديان،إلى عدل الإسلام.. ومن ضيق الدنيا، إلى سعة الدنيا والآخرة.. ذلك أن استرداد دور الأمة،وإحياء فاعليتها،لتصبح قادرة على استثمار طاقاتها الروحية،والذهنية،والمادية،لتقلع من جديد، لا يتأتى إلا باكتشاف مواقع الخلل، وتحديد مواطن القصور، ومعرفة أسباب التقصير،في ضوء سنن الله التي شرعها في الأنفس والآفاق، والتي تمثل أقدار الله، ليحسن المسلم التعامل معها، ويمتلك القدرة على تسخيرها،ومغالبة قدر بقدر، والفرار من قدر إلى قدر، متمثلا قولة ابن القيم رحمه الله: (ليس الرجل الذي يستسلم للقدر، بل الذي يحارب القدر بقدر أحب إلى الله) .
إلا أن عملية التقويم،والنقد،والتصويب،والمراجعة، بالشكل المنهجي الصحيح،ما تزال غائبة منذ أبد بعيد، والأسئلة الكبيرة، ما تزال معلقة بدون إجابات شافية،ولعل في مقدمة هـذه الأسئلة، السؤال الكبير، والمطروح باستمرار وبإلحاح: لماذا صرنا إلى ما نحن فيه؟ ولماذا ونحن نمتلك القيم السماوية الخالدة،المجردة عن حدود الزمان والمكان،والتي أنتجت الأجيال، التي حملت الرحمة إلى العالمين توقفنا عن إنتاج النماذج المأمولة، والقرآن هـو القرآن، والبيان النبوي في السنة والسيرة هـو البيان؟ [ ص: 10 ]
إن مجرد الجواب، بأن سبب ذلك كله، هـو البعد عن الإسلام، على الرغم من صحته، جواب فيه الكثير من التبسيط،والتهوين، وحتى السذاجة أحيانا، لأنه سوف يسلمنا إلى سؤال كبير آخر، أو سلسلة من الأسئلة الأخرى التي لا تتوقف :ولماذا بعدنا عن الإسلام،وانسلخنا عن الالتزام بقيمه؟ وعجزنا عن التعامل مع مصادره في الكتاب والسنة، لتربية وإنتاج النماذج المأمولة؟
وأعتقد أن الإجابة عن هـذا السؤال، هـو الذي ما يزال يمثل الإشكالية الكبيرة، من الناحية الثقافية والحضارية، في حياة المسلمين اليوم،وأن الإجابة الدقيقة تتطلب دراسات سننية، تتطلب بدورها فقها في الحركة التاريخية، وقوانين الاجتماع البشري.. تتطلب التعرف على: ( سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا ) (الأحزاب: 38) ، والتمثل لقوله تعالى: ( فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا ) (فاطر:43) .
إن فقه السنن، هـو الذي يمثل سبيل الخروج من الحال الذي نحن عليه، ذلك أن الحال الذي صرنا إليه،لم ينشأ مصادفة، وبدون أسباب ومقدمات، إنما توضع نتيجة لسنن فاعلة في الحياة،ولم يحصل عبثا.. وهذه السنن، لابد من إدراكها ابتداء أي أن الحياة لم تخلق عبثا، وإنما تنظمها سنن وقوانين حتى نتمكن من تحديد الإصابة بدقة، ومن ثم فقه السنن، التي تمثل سبيل الخروج.. ونعني بفقه السنن : القدرة على استشراف التاريخ، [ ص: 11 ] واستيعاب الواقع، وإبصار المستقبل، في ضوء هـدايات الوحي، ومدارك العقل.
صحيح،إن بعدنا عن الإسلام،كان وراء جميع ألوان المعاناة، التي نعيشها،وإننا لا نستطيع الخروج ما لم ندرك، ونجيب على السؤال: لماذا بعدنا؟ ونستقرئ الأسباب بدقة،ونبدأ بمعالجة الأسباب في ضوء السنن، التي شرعها الله، ولا نقتصر على معالجة الآثار، التي ترتبت على ذلك، كما هـو الحال في كثير من معالجتنا.
وبالإمكان القول هـنا: إن الإجابة عن السؤال الكبير الثاني: كيف نرى طريق العودة ؟ وكيف نضع الأوعية الشرعية لحركة الأمة، حتى تستطيع النهوض، وإعادة البناء، في ضوء سنن الله تعالى ؟ لا تقل أهمية عن الإجابة على السؤال الأول: لماذا صرنا إلى ما نحن فيه؟ بل قد يكون الأمران متلازمين، ذلك أن القول بأن الحل هـو العودة للإسلام، أو أن الإسلام هـو الحل، دون تحديد الكيفيات، ووضع الأوعية والآليات لهذه العودة، أو للوصول إلى هـذا الحل، هـو نوع من التبسيط، الذي يخشى منه، أو بعبارة أدق : يخشى معه من تكريس حالة العجز، واستمرارها،وتراجع الثقة بقيمة وقدرة هـذه الشعارات إن لم تقترن بما تقتضي من فقه سنن النهوض على تقديم الحل فعلا. ذلك أن طرح الشعار، دون القدرة على تنزيله على الواقع، وتحويله إلى ممارسة، وفعل، وشعيرة، هـو إجهاض للشعار، ومحاصرة له في نهاية المطاف، وإيهام بعدم واقعيته. [ ص: 12 ]
وهنا قضية، لعل إيضاحها، وفك الالتباس الذي يكتنفها، وتحرير معناها، من الأهمية بمكان، وهي أن النقد، والتقويم، والمراجعة، وتحديد مواطن التحريف، والقصور، والمغالاة، وكشف الخلل والاعوجاج في الفهم، والخطأ في الاجتهاد ، إنما ينصرف للتدين، للتطبيق، والممارسة،وليس لقيم الدين نفسها، ذلك أن الخلط بين الأمرين، يترتب عليه فساد عريض، واختلال في معادلة التدين نفسها. ولعلنا نقول: إن التقويم، والمراجعة، والنقد، والتصويب لمفهوم الناس لقيم الدين، وممارساتهم، أثناء تنزيله على الواقع، هـو حماية لقيم الدين المعصومة نفسها، من أن تتحول، أو تلتبس بمفاهيم بشرية، يجري عليها الهوى والتعصب، والخطأ والصواب.
وبالإمكان القول: إن هـذا الالتباس، بين قيم الدين المعصومة، وفهم الناس للدين (التدين) ، الذي يجري عليه الخطأ والصواب، ترك جوا من الإرهاب الفكري، أو إن شئت فقل: الإرهاب الديني المقدس، وكرس الكثير من الأخطاء، وحال دون طلاقة الفكر، في الاجتهاد ، والنقد، والتصويب، والتقويم، والمراجعة، ظنا ووهما أن نقد الاجتهاد، أو نقد فهوم الناس، أو نقد بعض صور التدين، والممارسة، هـو نقد لقيم الدين نفسه، وأصبحت الفكرة الشائعة: أن نقد بعض الأشخاص، وفهومهم للدين، هـو نقد لما يحملون من قيم ومبادئ معصومة، وأن هـذا النقد قد يوصل صاحبه إلى الكفر، حيث الزعم بأن الذي ينتقد حملة الشريعة، ينتقد الشريعة، والذي ينتقد الشريعة، يكفر بمنزلها. [ ص: 13 ]
وهكذا يسيطر جو من الإرهاب الفكري، يشل التفكير، ويحاصره، ويحرم عمليات التقويم، والنقد، والمراجعة، وبذلك يكرس الانحراف، وتعطل حسبة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، التي بها خيرية الأمة، وامتدادها، وتستمر ممارسة الخلط بين الدين المعصوم، والتدين الذي يجري عليه الخطأ، والصواب، وتتسع دوائر الانحراف، وتحاصر قيم الدين الخالدة المطلقة، بفهوم البشر النسبية القاصرة، وتنتقل القدسية من قيم الكتاب والسنة، إلى آراء البشر، وتصبح الفهوم البشرية المتفاوتة، هـي مصادر الدين والتدين، وبذلك يتفرق أمر الدين،، ليصبح أديانا، وشيعا، وأحزابا،كل حزب بما لديهم فرحون، ونقع فيما حذرنا الله منه، بقوله تعالى: ( ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ) (الروم:31-32) .
إن انتقال القدسية، من قيم الدين، إلى فهوم البشر المتفاوتة، هـو تفريق لأمر الدين، وتمزيق للأمة، وقضاء على مصادر وحدتها الجامعة.. ولعل من بعض آثار ذلك السلبية، ما ذهبت إليه جماهير الأمة، من المقلدة، وبعض حملة الفقه، وليس الفقهاء، عندما يطلب إليهم الالتزام بأدلة الكتاب والسنة، واعتمادها مصدرا للدين، وليس فهوم، واجتهادات البشر، التي تخطئ، وتصيب، من أن مصدر هـذه الفهوم، والمذاهب، هـو الكتاب والسنة، وأن الالتزام بها، والدفاع عنها، والاستسلام لها، هـو التزام بالكتاب والسنة، وبذلك يصبح للمسلمين أكثر من كتاب، ومن سنة، حيث تتعدد صور الاجتهاد ، والتدين، بتعدد المذاهب وقدرات البشر. [ ص: 14 ]
فالاجتهاد في التطبيق، جهد بشري لفهم الدليل، في التنزيل على محله، وليس دليلا مستقلا بحد ذاته.. وما أزال أذكر أنني عندما طلبت دليلا من الكتاب والسنة، من أحد حملة الفقه، على مسألة اجتهادية، وأعياه ذلك، قال: إنه اجتهادي، وفهمي، وكوني أقول بهذا، هـو الدليل! وقد تكون معضلة البشر في التعامل مع نصوص الدين تاريخيا، كامنة في أنماط التدين المعوج، في فهوم البشر وليست في الدين نفسه.. تلك الفهوم التي تحولت شيئا فشيئا، لتصير هـي الدين، ويصير الإنسان، أو رجل الدين هـو المتحدث باسم الله، وتتخذ الأحبار والرهبان، على نقصهم، وضعفهم، وقصورهم، ونسبيتهم، وخضوعهم لظروف الزمان والمكان، أربابا من دون الله.
ولعل هـذه القضية قضية اتخاذ الآلهة من دون الله، واتخاذ الأرباب، هـي التي ألحقت الفساد الكبير في تدين الأمم السابقة على الإسلام،كما أن قضية توحيد الألوهية، والحيلولة دون اتخاذ الأرباب، هـي قضية النبوات الأولى، وقضية النبوة الآخرة.
وفي تقديري أن إفراد القرآن الكريم، لمساحات تعبيرية كبيرة، وبأكثر من أسلوب، وطريقة أداء، لذكر قصص الأنبياء مع أقوامهم، وصراعهم مع الأرباب، بمختلف أشكالها، وذكر علل التدين، التي دخلت على إرث النبوة، هـو لون من التحصين الديني، والتوعية الثقافية، وتحقيق الاعتبار لأمة [ ص: 15 ] الرسالة الخاتمة، ذلك أن اتخاذ الأرباب من دون الله، والاعتقاد بأنها تقرب إلى الله، هـي قابليات مركوزة في نفوس البشر: ( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) (الأعراف:138) ،
تقتضي قدرا كبيرا من اليقظة، والحذر الدائم، للحيلولة دون الانحراف.. وأن هـذه القابليات، موجودة في أمة الرسالة الخاتمة.. لذلك يمكن بغفلة عن قيم الدين المعصومة، أن تقع في إصابات وعلل التدين، التي وقعت فيها الأمم السابقة ولولا أن هـذه القابليات، قائمة وموجودة فعلا، لما كان للتحذير منها أي فائدة، ولكان ذكر علل التدين في قصص القرآن، ومرويات السنة، لا قيمة عملية له، ولكان القرآن كتاب تاريخ، انتهت صلاحيته في العصور الماضية.. ولولا أن هـذه الإصابات التدينية، تتكرر، وتخضع لسنن لا تتبدل ولا تتحول، لكان ادعاء الخلود لآيات القرآن، دعوي بلا دليل. ذلك أن الخلود يعني فيما يعني، تجرد القرآن، وبيانه النبوي، عن حدود الزمان والمكان، وامتداد فاعلية السنن وفعلها.. إن السنن التي ألحقت النقص والفساد بالأمم السابقة، يمكن إذا توفرت، أن تلحق الفساد بتدين الأمة المسلمة أيضا، ومضيها في البشر، أينما كانوا، وحيثما كانوا، ومهما كانت عقائدهم الأصلية لأن الله سبحانه لا يحابي أحدا.
ولم يعد موضعا للشك أمام المتأمل والمستقرئ لأحوال البشر، في عصورهم المختلفة والمتطاولة، أن التدين فطرة بشرية، وحاجة عضوية ونفسية، [ ص: 16 ] وأنه إذا لم يأخذ طريقه الصحيح إلى توحيد الألوهية والربوبية، فسوف ينتهي إلى الضلال.. والذي لا يكون عبدا لله، فهو يقينا عبد لسواه من الأرباب، مهما ادعى غير ذلك، أو زعم إنكار الدين، قال تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) (التوبة: 31) ..لذلك، فالذين ينكرون الإله، ويكفرون به، ظنا منهم أنهم تحرروا من الدين، إنما يقعون في أسوأ وأردأ ألوان التدين الباطل، وهو اتخاذ الأرباب من البشر.
والقرآن الكريم، وهو مصدر التوحيد الأول، ليس كتاب نخبة فقط، وإنما هـو كتاب أمة، وهو ميسر للذكر..والتيسير للذكر هـنا، لا يعني أبدا التبسيط والسذاجة في الفهم، بقدر ما يعني بأن التأمل في آياته، وما شرعه الله فيه من السنن، التي خضعت لها الأمم السابقة، وذكر هـذه السنن، واستذكارها، أمر ميسر لكل من أقبل عليه.
إن بيان علل تدين الأمم السابقة، وما خضعت إليه من سنن، لابد من استيعابها، لتصبح ثقافة شاملة لأبناء أمة الرسالة الخاتمة، فيأخذوا حذرهم، ويتحققوا بالاعتبار، والوقاية، والهداية. فالآية: ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) (القمر: 17، 22، 32، 40) ، تكررت مرات في سورة القمر وجاءت في كل مرة تعقيبا على ما ذكر من قصص الأنبياء مع أقوامهم، وإصابات التدين، وأهمية إدراك السنن، التي حكمت مسيرة النبوة، وكيف أن إدراكها ميسر، إذا توفرت عزيمة الاطلاع، والادكار، والاتقاء. [ ص: 17 ]
وليس تيسير القرآن للذكر فيما أرى هـو فهم المعاني القريبة بدون صعوبة، وهذا جزء من المقصود، أما المقصد الأساس، فهو تيسير إدراك سنن السقوط والنهوض، من خلال تاريخ النبوة، الذي لم يخرج عن الصرع بين الإيمان والكفر، بين التوحيد والشرك، بين عبودية الإنسان لله الواحد الأحد، التي تعني المساواة بين بني البشر، وبين تأله الإنسان، الذي ينتهي إلى تسلط الإنسان على الإنسان.
نعود إلى القول : إن الإصابات من الخروج، والانحراف، والانتحال، والتأويل، والمغالاة، وسائر العلل، في تاريخ النبوة الطويل، إنما لحق بالتدين، من جهة التطبيق والممارسة، الأمر الذي حمل كثيرا من الفرق، والأديان، إلى تأويل نصوص الدين، وتحريفها، وبذلك يصبح النص الديني تابعا، بدل أن يكون متبوعا، فينمو التدين المغشوش، ويسود فقه الحيل، ويوظف الدين لأغراض الناس وأهوائهم، ويستخدم مسوغا لتصرفاتهم، وتصنع الفتاوى وتجهز، ويلوى عنق الأدلة، لتسويغ مسالك الكبراء والملأ من القوم، ولا مانع أن تصنع فتاوى مناقضة لها، إذا اقتضت الحاجة،لإعطاء المشروعية لهذا أو ذاك، وبخاصة لأصحاب السلطان،من المال والجاه.. وهنا يبرز الإنسان الذي يكون إلهه هـواه، وتنقلب المعادلة، ويصير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم تابعا لأهواء البشر، بينما الوضع السليم للتدين، الانضباط بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هـواه تبعا لما جئت به ) رواه البغوي في [ ص: 18 ] شرح السنة، وقال النووي في أربعينه: حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح) .
ذلك أن الخطورة كل الخطورة،في مجال التدين، أن يكون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم تابعا لأهوائنا، وبذلك تقوم مذاهب، وفرق، وأديان، تنحرف شيئا فشيئا في تدينها، حتى تصل إلى مرحلة لا علاقة لها بدين الله،وإن ادعت أن ما ذهبت إليه هـو دين الله، وأعلنت أنها تستمد مشروعيتها من الدين.
وفي تقديري أن خلود الإسلام، وامتداده، إنما تحقق من خلال تعهد الله بحماية نصوص الدين في الكتاب والسنة، وحفظها، وصحتها، قال تعالى: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر:9) ، وقال : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه ) (القيامة:16-19) .
فحفظ الله للقرآن،والبيان النبوي الذي تحقق من خلال عزمات البشر ولا يزال حال دون تطرق التحريف، والتبديل، والعبث بالنص الديني، الذي هـو مصدر التدين، ومعياره.. الخالد، الذي استمر إلى جانب الطائفة القائمة على الحق، المستمرة حتى يوم القيامة شاهد إدانة، لكل انحراف، وتأويل باطل، ومنبعا وحيدا للتلقي، ومعيارا متوحدا للتجديد. [ ص: 19 ]
ولعلنا نقول هـنا:إن الحماية لم تقتصر على النص الديني، وإنما امتدت إلى حماية الممارسة أيضا، من خلال السيرة والسنة.. ذلك أن السنة والسيرة هـما معيار الممارسة والتطبيق.. وبذلك لم يترك الفهم، والتطبيق، والتنزيل، على الواقع، لرؤى واجتهادات البشر، وإنما كانت السيرة والسنة معيار الفهم والتصويب، والإطار المرجعي له.. وتجسيد ذلك المستمر، في الطائفة القائمة على الحق، التي لا يضرها من خالفها، حتى يأتي أمر الله، مصداقا لقوله عليه السلام : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ) (رواه مسلم ) .
لذلك يمكن القول بكل الاطمئنان: بأن الرسول صلى الله عليه وسلم تركنا على بيضاء نقية، ليلها كنهارها، سواء في نصوص الدين المحفوظة الواضحة، الميسرة للذكر، أو في طريق التدين أيضا، أي في الدين والتدين معا.. في القرآن، والسنة، والسيرة، وسنة الخلفاء الراشدين.
ومن هـنا، نتبين مدى خطورة تجاوز البيان النبوي، أو تجاوز السنة، أو تجاوز السيرة، وصحيح المأثور بعامة،حيث يفتح الباب على مصراعيه، للرأي، والهوى، والتأويل، لكل أنماط وأشكال التدين، والتطبيق، الذي به يكون تفريق الدين، بحيث يصبح لكل إنسان كتاب وسنة كما أسلفنا إذا افتقدت المرجعية، التي يبينها المأثور، وتمثلها تطبيقات الخلافة الراشدة، وفهم خير القرون. [ ص: 20 ]
إن فهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتنزيله لنصوص الدين على الواقع، من خلال خير القرون، هـو الذي يمثل الإطار المرجعي لفهم كل مسلم، في كل عصر.. وإذا كان الخلود يقتضي أن نمتد بالنص القرآني، لتنزيله على مشكلات كل عصر، بحسب ظروفه، وإمكاناته، وتعدية الرؤية، فإن هـذا الامتداد لا يجوز أن يعود بالنقض أو الإلغاء للبيان النبوي، وفهم خير القرون.. ويبقى المطلوب في الاجتهاد والامتداد في التطبيق، امتلاك القدرة على وضع الحاضر في موضعه، الملائم والمناسب للحال الذي هـو عليه، من مسيرة السيرة، وفهم خير القرون.
وقضية الخيرية، التي قررها وشهد بها الرسول صلى الله عليه وسلم ، للقرن الأول، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ومن ثم تكون الإصابات، ويكون التصويب والتجديد، قضية تقتضي بعض التوقف.
إن شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم للقرون الثلاثة الأولى بأنها خير القرون على الإطلاق، سواء في ذلك القرن الأول، الذي هـو خيرها، والذي شهد نزول نصوص الدين، وشهد تنزيلها على الواقع (ممارسة التدين) ، على عين الوحي، أو تلك التي امتدت فيها ممارسة التدين، بعد توقف الوحي، وغياب المعصوم، تعني فيما تعني، أنه اجتمع لهذه القرون، وتحقق في أهلها من الصفات، والمزايا، والخصائص، ما لن يتوفر لغيرها.. وسواء قلنا: إن ذلك في مساحة الخير، أو عموم الخير، في هـذه القرون، أو في النماذج المتفردة، التي تمثلت الإسلام على شكل يبقيها في محل الأسوة والاقتداء، حيث بدأ الخير، [ ص: 21 ] فيما بعد هـذه القرون يتضاءل على مستوى الفرد والمجتمع، لكنه لم ينقطع أبدا في هـذه الأمة، لأنها كالغيث، لا يعرف الخير في أوله أو في أخره، كما دلت على ذلك بعض الآثار.
إن الشمولية في الخيرية وعمومها في هـذه القرون، يجعلها في محل الأسوة والاقتداء، في مجال ممارسة التدين، والتطبيق السليم، الذي منحها ووسمها بتلك الخيرية.. إنها الخيرية الشاملة شمول الإسلام، لجميع جوانب الحياة، وآفاقها، وأبعادها، ذات العطاء المتعدد والمتجدد.
ولا شك عندي، أن بحوث العلماء، ودراساتهم التي انصرفت إلى أبعاد استمرار الخيرية، وخلودها في الأمة المسلمة، أمر طيب ومهم، ومن بشائر الخير الدالة على الامتداد، والخلود، والاستمرار، لكن الجانب الأهم في تقديري: أن تخضع هـذه القرون، المشهود لها بالخيرية، في صحة وصدق تدينها، وممارستها للدين، أن تخضع للتحليل والدراسة، واستخلاص الصفات والخصائص التي كانت سبب خيريتها، ومحاولة تجريدها من حدود الزمان والمكان والأشخاص، لتوليدها في كل زمان ومكان، وجعلها أهدافا ومعايير وركائز تربوية، في كل عمل دعوي تربوي، لتصبح سلم القيم ومدارج الكمال، وسبيل الخيرية.. كما لا بد أن تدرس عوامل الخلل والانتقاص، الذي دخل على الأمة المسلمة، بعد هـذه القرون، فانكمشت خيريتها.
وأعتقد أنه ليس المقصود، من الناحية التربوية، ولا بأن ذلك من مقاصد الحديث، [ ص: 22 ] حصر الخيرية في هـذه القرون، وقصرها عليها، لتصبح حكرا لها، دون غيرها من سائر القرون، لأن ذلك يناقض طبيعة الإسلام،ودعوته الممتدة وخلوده، ووراثته للنبوة، وإنما المقصود فيما أرى، والله أعلم، أن يكون التدين في هـذه القرون، وفهم الدين، الذي منحت بسببه شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيرية، هـو سبيل المؤمنين إلى التدين الصحيح الخالص.. وإلا فما معنى الشهادة لها، من الناحية العملية، إذا لم يكن المسلم في كل زمان قادرا على المحاولة للوصول إلى تلك الخيرية، وتمثلها، والتحقق بها؟!
إن اشتغالنا بأن هـذه القرون هـي الخير، وهي الأعلى، وأن ما تلاها هـو الأدنى، إذا لم نلحظ ضرورة دراسة الخصائص، التي رشحتها للخيرية، وحاولنا الارتقاء إلى مستواها، يصبح لا معنى ولا مغزى له، من الناحية التربوية،والدعوية..
وكم كان الإنسان يتمنى أن يجد كتبا ودراسات، متخصصة في شعب علوم الحياة المتعددة،تستطيع أن توظف المعارف جميعها، بحيث تعرض لخصائص هـذه القرون، وفق خطة منهجية توضع دليل العمل، دليل التدين السليم، للانتساب إليها، وطي مسافة الزمن، للحصول على الخيرية والثواب، الذي شهد لها به الرسول صلى الله عليه وسلم . وإذا لم تكن حركة هـذه القرون، الفكرية، والعملية، والاجتماعية، والسياسية،محل دراسة، وتحليل، واستنتاج، وعطاء للأجيال القادمة، بحيث تمنحها الرؤية السليمة، للحياة الخيرة، فنخشى أن نقول: إننا لم ندرك بعد الأبعاد الكاملة، والمقاصد الأساسية لشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه القرون. [ ص: 23 ]
إن دراسة الشخصيات العظيمة والمتميزة، والفترات الزمنية المتألقة، ذات الإنجاز الحضاري المقدور، في حياة الأمم،وإلقاء الأضواء على جوانبها المختلفة، لتمثل دلائل عمل،ووسائل تنوير، وقيادات هـدى، ومناهج ارتقاء، أصبحت علوما لها مقوماتها، وطرائقها، وتخصصاتها،ومعارفها.. لقد جردت المعاني العظيمة من أشخاصها، وزمانها، ومكانها، وأعيدت جدولتها، كما أعيد بناؤها تربويا، بحسب أولويتها، لتكون المناخ الثقافي، والتربوي، لحركة الأمة، في مجالاتها المتعددة، ولتشكيل نقاط ارتكاز حضارية، تحول دون الاهتزاز والذوبان.
ونحن نمتلك هـذه الكنوز العظيمة، لحركة المجتمع الإسلامي: ثلاثة قرون، مشهود لها من المعصوم، ومع ذلك نعيش حالة التخاذل الفكري والديني، ونعجز عن امتلاك القدرة على وضعها في المكان المناسب، في مناهجنا التربوية، والتعليمية، ونحاول قراءتها، وتفسيرها من خلال حالة التخلف، وفلسفة التخاذل، التي نعيشها، ونرفعها كشعارات، تصبح على أيدينا عاجزة، عن تغيير الواقع الذي نعيش.
إن غياب المدلول العلمي للشعارات، والمفاهيم، والمصطلحات، والترجمة الواقعية لها، وتحويلها من فكر إلى فعل، ومن نظرية إلى تطبيق، ومن علم إلى ثقافة، ومن حمل للفقه، يعتبر من الناحية الثقافية،من أخطر ما تصاب به الأمم في حياتها، حيث تعيش حالة من الضلال، والركود،والاستنقاع الحضاري، والاستلاب الثقافي الذاتي، لا تحسد عليها [ ص: 24 ] وتصبح مهيأة لقبول ما يلقى إليها من خصومها، وتبدأ مرحلة السقوط، وتأتي العملة الرديئة، لتطرد العملة الجيدة من السوق،وتحل محلها، وبخاصة في حالات الانبهار بالإنجاز والغلبة المادية، حيث يغيب الوعي، وتبدأ الأمة بالتنازل عن مفاهيمها، وشعاراتها، لصالح (الآخر) .
وقد تكون المشكلة الأخطر، أن تنشأ في الأمة طبقة من الكتاب والمفكرين، والصحفيين، يدعون التنوير والتحرر، تمارس العمالة الفكرية، وتقوم بنوع من المقاربة الثقافية والحضارية، بين مفاهيمها، وشعاراتها، ومصطلحاتها، ومفاهيم حضارة وثقافة (الآخر) ، فتتحول المفاهيم والمصطلحات والشعارات، التي الأصل فيها، أن تشكل الحصون الثقافية، والقسمات الحضارية للأمة، إلى معابر لمفاهيم ومصطلحات (الآخر) ، وبذلك تنخلع الأمة من شخصيتها الثقافية،وتدخل مرحلة التيه والضلال، فلا هـي متمثلة لثقافتها،ومفاهيمها، وقيمها، ولا هـي مقبولة، بطبيعة تاريخها الثقافي، وقيمها الدينية، للدخول في ثقافة (الآخر) ، إلا بحدود ما يحقق العمالة الثقافية، ويمكن من الاختراق الثقافي.. ولعل في الحال التي انتهت إليها بعض الدول الإسلامية، التي أعلنت العلمانية، والالتحاق بالغرب، والالتزام بقيمه، والانسلاخ من الإسلام، خير عبرة، فلم تبق مسلمة كما ينبغي، ولم تصبح أوربية غربية خالصة.
ومن جانب آخر، فإن اغتيال المدلول الحقيقي للمفاهيم والمصطلحات،وتفريغها من مضمونها، والتعامل معها من خلال حالة التخلف والتخاذل، [ ص: 25 ] والعقلية الذرائعية، التي تسيطر على الأمة، في حالات الركود، يؤدي إلى محاصرة هـذه المصطلحات والمفاهيم، ويخرجها من دائرة الفاعلية، والانفعال بها، وحسن توظيفها تربويا، وبذلك تفتقد مدلولاتها الصحيحة، وتصبح عاجزة عن التغيير، وإعادة البناء.
لذلك نرى أن قضية التوحيد والعبودية لله، التي كانت هـم الرسالات السماوية تاريخا، وكانت ميدان الصراع الحقيقي، لما يترتب عليها من آثار على مستوى الفرد، والمجتمع،والأمة،والدولة، أصبحت، في مراحل الجمود والتخلف، والتقليد، مجرد شعار، يصعب تمييز الذي يرفعه كثيرا، عن غيره الذي لا يؤمن به.
وبمعنى آخر، نرى أن شهادة (لا إله إلا الله) ، التي تعني هـدم العبوديات، ونسخ الآلهة، وإثبات التوحيد والوحدانية، والتي كانت تعني التغيير، والتحول،والانخلاع من حال، لها مواصفاتها،ومعاييرها، ومفاهيمها، وعبودياتها، إلى حالة التحرر والانعتاق، واسترداد إنسانية الإنسان،ونسخ تسلط الإنسان على الإنسان، لذلك كان الناطق بها، المدرك لأبعادها ومدلولاتها، تتغير مفاهيمه، كما يتغير سلوكه، وعلاقاته، ويعيش ثمراتها في النفس والمجتمع.. وهي الشعيرة التي من السنة أن ينادى بها في أذن المولود، فور استقباله للدنيا، ويستمر الإعلان والأذان بها من على أعلى مكان، ولا يكتفى بسماعها واستيعابها، وإنما لا بد لكل مسلم أن يجيب المؤذن،ويقول مثلما يقول، حتى تتجدد المعاني والمدلولات في نفسه: [ ص: 26 ] ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي... الحديث ) (رواه مسلم ) ، كما أن النطق بها، أخر ما يودع الإنسان به الدنيا، حيث من السنة أن يلقنها في الاحتضار..
هذه الشهادة، الشعيرة، نراها اليوم أصبحت شعارات ترفع، وتكاد، تكون عند كثيرين بلا مدلول، إلى درجة يصعب علينا معها تمييز من يرفعها حقيقة، ممن لا يؤمن بها مطلقا، من حيث السلوك! إن غياب شعارات الأمة، ومفهوماتها، وقيمها، عن ساحتها الفكرية، وتشكيلها الثقافي، وممارساتها اليومية، يعني أن الأمة دخلت مرحلة التيه والفراغ، الذي يسمح (للآخر) بالامتداد في داخلها،كما أسلفنا. ولعل من المخاطر الثقافية الكبيرة، أيضا، الانحراف بالمصطلحات، والمفاهيم، والشعارات، عن مدلولاتها الصحيحة، والخروج بها عما وضعت له، ليصبح دورها، تبرير وتسويغ حالات الركود، والانسحاب، والإرجاء، والعطالة، وانطفاء
الفاعلية.. ومن هـنا قلنا: إن القرون المشهود لها بالخيرية، وتألق العطاء، والفاعلية، هـي التي تشكل مرجعية الفهم، والتحديد لمدلولات الشعارات، والمفاهيم، والمصطلحات، وترجمتها إلى أفعال، وتجسيدها في واقع الناس.. وأي تفسير يتجاوز ذلك، أو ينقضه، أو يخرج عليه هـو نوع من البدع الفكرية، والمفاهيمية، لا بد من مراجعتها، وتقويمها، وتصويبها، في ضوء تلك المرجعية. [ ص: 27 ]
وهنا لا بد من وقفة بسيطة، لتحرير مفهوم المصدرية والمرجعية، فيما نرى، والله أعلم.. فإذا كان مصدر التشريع، والأحكام، أو القيم بشكل أعم، هـو كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة دون غيرهما لأن الله تعهد بحفظ القرآن، كما تعهد بحفظ البيان، كما أسلفنا، ولأن كل إنسان يؤخذ من كلامه (اجتهاده وفهمه) ويرد إلا صاحب هـذا القبر عليه الصلاة والسلام ،كما يقول الإمام مالك فإن اجتهاد وفهم القرون المشهود لها بالخيرية، هـو الذي يشكل المرجعية لكل الفهوم الأخرى المتتالية..ويبقى معيار هـذه المرجعية في الفهم، أو معيار الفهم، هـو القيم المصدرية في الكتاب والسنة، التي يجب أن تستصحب دائما، لأنها الحارس الأمين على الاستقامة على النهج.
وفهم خير القرون، الذي يشكل المرجعية، كما أسلفنا، لا يعني قيدا على العقل والاجتهاد ، بمقدار ما يعني إطارا، يحمي من التحريف، والمغالاة، والانتحال، والتأويل الباطل.
وأعتقد أن من أخطر بوادر الخلل، التي دخلت على الأمة، بعد القرون المشهود لها بالخيرية، محولة التقليل من شأن المرويات، التي تمثل البيان المأمون، وإبعادها عن الساحة الفكرية، وعندها يقول كل من شاء ما شاء، ويذهب بالمعاني القرآنية مذاهب شتى.. ولذلك نرى أن الفرق الضالة والخارجة جميعها، وحتى المذاهب والتيارات المعاصرة، حاولت تقطيع الرؤية الإسلامية، وقراءة الإسلام من خلال أصول مذاهبها، فكان اليسار الإسلامي، [ ص: 28 ] أو الإسلام اليساري، والإسلام الاشتراكي،والإسلام الرأسمالي، وهكذا.. حتى تتمكن من الدخول إلى المجتمع الإسلامي.
لقد حاولت معظم الفرق، أن تسوغ مشروعيتها، بنصوص من القرآن، والتأويل لبعض آياته، وفق رؤيتها وفهمها المسبق، وكان لا بد لها من أن ترد الكثير من المرويات، التي تشكل الضوابط المنهجية، للفكر والمعرفة،والفعل، والتطبيق، والترسانة الثقافية، لحماية فهم الأمة، وامتداد خيريتها.
إن الكثير من مرويات المأثور، الذي رد، بحجة أنها آحاد تفيد الظن، مع أنها واردة عن المعصوم، وقد ترجمتها، القرون المشهود لها بالخيرية، إلى أفعال، والتزمتها في مسالكها... رد باجتهادات وآراء فردية، وكأن الرأي والاجتهاد الفردي، متواتر يفيد اليقين!!
وأعتقد أن مصطلح خبر الآحاد، وجواز رده، لأنه يفيد علم الظن، قضية لم تطرح في زمن خير القرون، وإنما جاءت متأخرة، فكانت سبيلا لمحاصرة المرويات ومدلولاتها، وإخراجها من الساحة الفكرية.
كما أن العبث بالمفاهيم، والمصطلحات، لم تقتصر على إلغاء بعض المرويات، التي تتولى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم للقيم، وكيفيات تنزيلها على الواقع، وإنما تجاوز عند بعضهم إلى إلغاء السنة بإطلاق، واعتماد القرآن فقط، بحجة أن نص القرآن متواتر، وأنه تبيان لكل شيء، وأن السنة جاء تدوينها متأخرا، وقد داخلها شيء من الوضع، بسبب الأهواء، ومسايرة السلاطين، والتبس فيها الصحيح بالسقيم، ومعظم مروياتها ضعيف أو موضوع، [ ص: 29 ] أو على خضوع التدوين لأدق الضوابط العلمية.. ومن هـنا بدأ الخرق، والخلل الكبير، بل والانحراف الخطير، وأصبح لكل إنسان، حسب فهمه وإدراكه، قرآن وبيان، وألغي من تاريخ الأمة الثقافي والعلمي، الأساس المرجعي، الذي تمثل في السيرة، والخلافة الراشدة، وفهم خير القرون.
ولعل الأخطر من هـذا أيضا، اعتماد بعض المرويات بشكل مستقل، خارج عن وظيفة البيان، وجعل السنة حاكمة على القرآن، وناسخة لآياته، وهو النص المتواتر، الذي يفيد علم اليقين،والذي لم يسمح أثناء نزوله، وكتابته، برواية السنة وتدوينها، حتى لا تختلط بالقرآن، إلا ما كان من إذن خاص لبعض الصحابة، كعبد الله به عمرو بن العاص رضي الله عنهما .
ولعل من الغرائب والمفارقات حقا، أنه يحكم على الحديث بأنه شاذ، إذا خالف فيه الثقة من هـو أوثق منه، بينما لا يكون شاذا ولا مردودا إذا خالف القرآن الثابت بالتواتر، بل يكون ناسخا للحكم الذي نص عليه القرآن في رأي بعضهم!!
وهكذا يتطور الخلل، ويتسع الخرق، فتنتقل القدسية من القرآن إلى السنة، ويصبح القرآن عند بعضهم للتبرك فقط، ومن ثم تنقل القدسية من القرآن والسنة، إلى أقوال واجتهادات البشر، بحجة أنها مأخوذة من الكتاب والسنة، وتصبح كل آية أو حديث يخالف ما عليه علماؤنا، فهو مئول أو منسوخ ( أبو الحسين الكرخي المتوفى سنة 340هـ ) .
لذلك يبقى السبيل إلى استعادة العافية، واسترداد الخيرية: تمثل مفاهيم، [ ص: 30 ] ومصطلحات، ومدلولات، ومرتكزات خير القرون، سواء في مجال المصدرية: الكتاب والسنة، أو في مجال المرجعية (فهم خير القرون، المشهود لها من المعصوم) .
وبعد:
فهذا الجزء الأول، من الكتاب الذي نقدمه اليوم، عرض للقضية المحورية، التي تعتبر من أخطر القضايا في مجال التحرر من العبوديات، واسترداد إنسانية الإنسان، ونسخ الألوهيات المعاصرة، وإلغاء معابر الشرك والوثنية من النفوس، لتحقق العبودية لله دون سواه.
إنه عرض لقضية التوحيد والوساطة، وهي قضية النبوة الأولى، عبر تاريخ البشرية الطويل، حيث كان الصراع دائما متمركزا حولها، ودائرا في ميدانها، وقد تتبع الباحث جزاه الله خيرا قضية التوحيد، في النبوة الخاتمة، وما اعترى أصحابها من الإصابات، والتشوية، والخلل، من خلال التتبع العلمي الموثق، ليعيد إليها صفاءها ونقاءها، ويعود بالمسلمين إلى الينابيع الأولى، اقتداء بمجتمع خير القرون، ليعود التوحيد إلى موقعه ومكانه الصحيح، من العقل المسلم،ويكون محور تفكيره، ودليل ممارسته.
لقد وضع الباحث يده على موطن الخلل الحقيقي، وسببه، متتبعا ذلك ومستشهدا عليه، من خلال جولة تاريخية عريضة، في المدارس، والمذاهب الفكرية، والفقهية، والتربوية، وكان له وقفات طيبة مع تراث رواد تجديد التوحيد، والعودة به إلى نقائه وصفائه،كما ورد في الكتاب والسنة، وطبق في مجتمع خير القرون. [ ص: 31 ]
والكتاب بمجمله، يعتبر إسهامة بارزة، ومحاولة جادة ومنصفة، لإعادة الوعي بقضية التوحيد، وأثرها في النفس والمجتمع، وانعكاساتها الفكرية، والفقهية، والتربوية، بعد أن كادت تهمش في حياة كثير من المسلمين، وتنتهي إما إلى ألفاظ وشعارات تردد، وتستدعى لتلقين الأموات، حيث الأمة في حالة احتضار، وإلى جدل كلامي، وتجريدات ذهنية عديمة الجدوى، بعيدا عن عطاء الكتاب والسنة، أو الانتقاص من أبعادها الشمولية، في شتى مجالات الحياة، والانكفاء بها، وعزلها عن الأنشطة التربوية، والاجتماعية والاقتصادية... إلخ، وتغييب مصطلحات التوحيد، والشرك، والكفر، ومدلولاتها عن حياتنا الثقافية، ومعاهدنا العلمية، بسبب النزوع الجاهلي، وضغوط الثقافات الوافدة لإخراج المسلمين عن دينهم. لذلك، فهذا الكتاب، لا يمكن أن تتحقق الغاية المرجوة منه، بمجرد قراءته، واستعراض مسائله، بل لا بد له من الدراسة الجادة، واليقظة الكاملة، فلعله يسهم بالإجابة عن أسباب الخلل، الذي نعاني منه، ويضع خطوات في اتجاه العلاج.
والله من وراء القصد. [ ص: 32 ]