المبحث الثالث: في مصطلح الوساطة
مادة (وسط) في اللغة، تدل على الشيء الواقع بين طرفين. قال الراغب الأصفهاني : (وسط الشيء : ما له طرفان متساويا القدر. ويقال ذلك في الكمية المتصلة،كالجسم الواحد، إذا قلت : وسطه صلب، وضربت وسط رأسه، بفتح السين. ووسط بالسكون : يقال في الكمية المنفصلة، كشيء يفصل بين جسمين، نحو: وسط القوم كذا) [1] .
وفي اللسان : (اعلم أن الوسط، قد يأتي صفة، وإن كان أصله أن يكون اسما، من قوله تعالى: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) (البقرة:143) ، أي: عدلا. فهذا تفسير الوسط وحقيقة معناه، وأنه اسم لما بين طرفي الشيء، وهو منه ... وأما الوسط، بسكون السين، فهو ظرف لا اسم، على وزن نظيره في المعنى وهو (بين " [2] .
والوساطة مصدر لفعل (وسط) ، تقول: ( وسط في حسبه وساطة، وسطة) [3] . [ ص: 40 ]
وفي القاموس: (الوسيط: المتوسط بين المتخاصمين ... وتوسط بينهم عمل الوساطة [4] .
وقد عرفت (الوساطة) كمصطلح فلسفي وأدبي في الفكر الغربي، خاصة مع الناقد والمفكر ( روني جيرار ) [5] ، وهي مستمدة من الأصول المسيحية التثليثية. ومعناها كما يقول الدكتور إدريس نقوري : ( إنها تقليد، أو محاكاة لنموذج ما، يسعى إلى تحقيق غرض معين، أي رغبة ملحة، يطمح المقلد إلى إشباعها، فهي مداميك ثلاثة أساسية: الذات، والوسيط، والموضوع) [6] .
وبذلك أضيفت إلى الثنائية: إنسان وحيوان، وإلى أنواع الازدواجيات: خير وشر، وحلال وحرام، جميل وقبيح، ملك وشيطان ... إلخ رؤية مثلثة يحتل فيها الوسيط، مركز الصدارة، ويتمتع بسلطة قوية ذات تأثير، ونفود كبيرين على الذات، وعلى الموضوع في آن واحد) [7] .
ويقول أيضا : (إن الإشكال الكبير، الذي يواجه نظرية الوساطة هـو علاقاتها بالوسطية. فمن المؤكد أن اشتراك النظرية والمذاهب في الجذر اللغوي، [ ص: 41 ] لا يعني البتة الاتفاق في الدلالة،أو حتى الحقل المفهومي والمعرفي) [8] .
والوساطة بهذا المعنى، قد تظهر في المجال التربوي الإسلامي، إذا انحرفت التربية عن مدار (التوحيد) ، فتكون التربية الوساطية، إذن، هـي: ترقية الفرد في مراتب التدين، لا من خلال ذات النصوص الشرعية، ولكن من خلال ذات (الوسيط) .. فيكون المتربي بهذا النهج متدينا بالإسلام، كما فهمه الوسيط، أو كما التزمه، وليس بالضرورة كما هـو في ذاته.
والوساطة في المجال التربوي الإسلامي، نوعان:
(أ) الوساطة الروحية: وهي التربية القائمة على أساس الوسيط الروحي، أي الشيخ الصوفي، أو شيخ الطريقة، واضع الأوراد، وصاحب الأحوال والمقامات، الذي يتدين مريدوه بواسطة أوراده، وأحواله، ويسعون لاكتساب مقاماته، باعتباره (الشيخ الكامل) و (القطب الرباني) .فالأفراد السالكون على طريقته، المتربون على يده، كلهم نمط واحد، ورغبة واحدة يتوسطون إلى رضى الله تعالى،بمحاكاة صورة الشيخ، المطبوعة في أذهانهم وأعمالهم. [ ص: 42 ]
(ب) الوساطة الفكرية: وهي التربية القائمة على أساس الوسيط الفكري، أي الأستاذ المفكر، أو الكتاب المعتمد، ذلك أنه من السهولة بمكان، ملاحظة ظاهرة الارتباط في مجال التدين،وسط الحركات الإسلامية، بشخصية فكرية معينة، ارتباطا تربويا بحيث ينحو المتربي في تدينه منحى أستاذه، فهما للإسلام، وتنزيلا له، فيقلده في كل ذلك، تقليدا يقوم على التقديس الشعوري، أو اللاشعوري، لأفكاره ومؤلفاته، بحيث لا يكاد يرى الحق إلا فيما قاله أستاذه،ولا يجد الصواب إلا فيما ذهب إليه، فيتشكل في مجموع التلامذة من هـذا النوع، نمط تربوي فكري واحد، لا ينظرون إلى الإسلام، ولا يتدينون به، إلا من خلال منظار الوسيط الفكري، المسيطر على عقولهم، ووجدانهم، سيطرة قد تصل إلى نوع من الوثنية، أو الشرك الخفي. [ ص: 43 ]