الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التوحيد والوساطة في التربية الدعوية [الجزء الأول]

فريد الأنصاري

(أ) المرحلة الأرقمية

تميزت التربية التوحيدية في المرحلة المكية للدعوة الإسلامية، ببنائها الأرقمي.. و (الأرقمية) مصطلح، نعبر به عن المنهج التربوي، الذي سار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في تربية الجيل الأول من الصحابة، بدار الأرقم بن أبي الأرقم ، [ ص: 79 ] قبل الهجرة إلى المدينة المنورة ، حيث كان يجتمع بأصحابه، أولا في الشعاب سرا. وبعد حصول مواجهات بينهم وبين الكفار، انتقل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دار الأرقم المخزومي ، على الصفا [1] .

والتربية الأرقمية: هـي التكوين المقصود به صناعة العقلية القيادية خاصة، من خلال المتابعة الدقيقة لكل فرد على حدة بتشكل شخصيته، تشكيلا يقوم على منتهى صفتي القوة والأمانة، ومن هـنا لم تكن الأرقمية تعنى بإنتاج العقلية الجندية، إلا بقدر ما هـي طريق لاكتساب العقلية القيادية فيما بعد. وفي هـذا الصدد يقول الدكتور أكرم ضياء العمري : (وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ، يربي أصحابه على عينه، ويوجههم نحو توثيق الصلة بالله، والتقرب إليه بالعبادة.. تمهيدا لحمل زمام القيادة، والتوجيه في عالمهم... فالعشرات من المؤمنين في هـذه المرحلة التاريخية، كانت أمامهم المهمات الجسيمة، في تعديل مسار البشرية) [2] والمادة التربوية التي كانت معتمد الجيل الأول - كما أسلفنا - كانت هـي القرآن. وللقرآن المكي طبيعة خاصة من الناحية التربوية، فهو كان يسهم بشكل مباشر في تكوين العقلية القيادية، ويساعد على ذلك، إذ التشريع المكي في الغالب، كان كليات ابتدائية، وعزائم تكليفية.

يقول الإمام الشاطبي : ( وهذا كله ظاهر لمن نظر في الأحكام المكية، [ ص: 80 ] مع الأحكام المدنية، فإن الأحكام المكية مبنية على الإنصاف من النفس، وبذل المجهود في الامتثال، بالنسبة إلى حقوق الله أو حقوق الآدميين. أما الأحكام المدنية فمنزلة في الغالب على وقائع، لم تكن فيما تقدم، من بعض المنازعات،والمشاحات، والرخص، والتخفيفات وتقرير العقوبات، في الجزئيات لا الكليات، فإن الكليات كانت مقررة محكمة في مكة ) [3] ثم قال : ( كان المسلمون قبل الهجرة، آخذين بمقتضى التنزيل المكي، على ما أداهم إليه اجتهادهم، واحتياطهم، فسبقوا غاية السبق، حتى سموا السابقين بإطلاق. ثم هـاجروا إلى المدينة ، ولحقهم في ذلك السبق من شاء الله من الأنصار، وكملت لهم بها شعب الإيمان، ومكارم الأخلاق، وصادفوا ذلك وقد رسخت في أصولها أقدامهم، فكانت المتممات أسهل عليهم، فصاروا، بذلك نورا، حتى نزل مدحهم، والثناء عليهم، في مواضع من كتاب الله ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقدارهم، وجعلهم في الدين أئمة فكانوا هـم القدوة العظمى في أهل الشريعة) [4] .

فواضح من خلال هـذين النصين، أن القرآن المكي، كان له أثر كبير في تخريج الطاقات القيادية من الصحابة الأوائل خاصة، وذلك لما له من طبيعة كلية، مبنية على عزائم ابتدائية. [ ص: 81 ]

وهو أمر طبيعي، فكل دعوة كانت في مرحلة التأسيس، لا بد لها من السعي إلى تربية الخلايا الأولى، التي سيتولى أفرادها مهمة الإنتاج والاستيعاب، فيما بعد؛ فيكون التأسيس التربوي الأول بطبعه، تأسيسا قياديا، بالدرجة الأولى. ووعيا من الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الهدف، كان يتحرى في دعوته أول الأمر، من تبدو عليه مخايل العبقرية القيادية، ورغم أن الدعوة كانت منذ انطلاقتها الأولى لكل الناس، إلا أنه عليه الصلاة والسلام ، كان يسير وفق منهج القرآن المكي، في بناء القادة أساسا، سواء كان المدعو من الفقراء، أو الأغنياء، وسواء كان من السادة، أو من الأرقاء، حتى إذا أسلم الرجل، من أي شريحة اجتماعية كان، سعى به تربويا، نحو هـذا الاتجاه. وثمة نصوص حديثية تشير إلى هـذا المعنى، كما في ( قوله صلى الله عليه وسلم : خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا ) [5] ، ( وقوله صلى الله عليه وسلم اللهم أعز الإسلام بعمر ) [6] ، وفي رواية: ( اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: بأبي جهل أو بعمر ) [7] وقصة ابن أم مكتوم مع الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا، تبين هـذا المعنى لا عكسه كما قد يبدو، ذلك أن إعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، لانشغاله بدعوة بعض عظماء قريش ، لم يكن لتفضيل غيره عليه،كما يقول ابن كثير : [ ص: 82 ] ( وكان ممن أسلم قديما، فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وود النبي صلى الله عليه وسلم ، أن لو كف ساعته تلك، ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل طمعا ورغبة، في هـدايته، وعبس في وجه ابن أم مكتوم فأعرض عنه، وأقبل على الآخر) [8] .

فنزل القرآن، لا ليبين خطأ المنهج، ولكن ليصوب التطبيق، ذلك أن الصفة القيادية، التي ظنها الرسول صلى الله عليه وسلم ، متوفرة في الرجل المشرك، واستبعدها في هـذا الرجل المؤمن لعماه، جعلته يعرض عن ابن أم مكتوم ، الذي طلب الاستزادة في العلم، ويقبل على من ظن أن الإسلام يتقوى بإسلامه، فنبهه القرآن معاتبا : ( وما يدريك لعله يزكى ) (عبس : 3) ، فيصبح من النوعية التي تبحث عنها، وتتحراها. وذلك الذي كان فعلا، فقد " أخرج البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنهما ، قال في سياق الحديث، عن أوائل المهاجرين : (أول من قدم علينا مصعب بن عمير ، وابن أم مكتوم ، وكانوا يقرئون الناس " [9] ، فكان رغم عاهته رضي الله عنه ، داعية إلى الله، مجاهدا، رائدا من رواد الدعوة الأوائل، معلما، وقائدا، ولم يكن خاملا، ولا مستهلكا، لكنه كان منتجا فاعلا. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلفه أميرا على المدينة، إذا خرج غازيا [10] . [ ص: 83 ]

" بل لقد كان يخرج بنفسه، إلى القتال أحيانا، " قال أنس رضي الله عنه : فرأيته يوم القادسية، عليه درع، ومعه راية سوداء " [11] .

ويذكر عنه رضي الله عنه ،أنه " كان يقول لأصحابه: في المعركة: أقيموني بين الصفين، وحملوني اللواء أحمله لكم، وأحفظه، فأنا أعمى، لا أستطيع الفرار " [12] .

وقد وجد بعد ذلك صريعا عند انتهاء معركة القادسية، يعانق راية المسلمين شهيدا [13] ، وهو فوق ذلك كله مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانب بلال ابن رباح ، رضي الله عنه ، وهكذا فقد تزكى ابن أم مكتوم فعلا، واستفاد حقا من التربية الأرقمية الأولى، وتحقق هـدفها فيه.

إن المنهج الأرقمي، المبني على نظام الجلسة التربوية، ومدارسة النصوص القرآنية، والحديثية، حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشكل شخصيات المتربين،من أصحابه الأوائل، فردا، فردا، ويصنعهم على عينه... قلت : ذلك المنهج، هـو الذي خرج قادة الدعوة الإسلامية الأوائل. فالعبقرية القيادية، لم نرها في الغالب الأعم، إلا في شخصيات المهاجرين السابقين، فهم الخلفاء الراشدون، وهم الفقهاء المعلمون، والمستنبطون المجتهدون، ولذلك حينما اختلف المهاجرون والأنصار حول خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم بعيد وفاته، " قال أبو بكر الصديق ، وهو يعلم ما يقول: نحن الأمراء، وأنتم الوزراء " ردا" على قولهم: [ ص: 84 ] (منا أمير، ومنكم أمير) [14] ، وكان " من خطبته رضي الله عنه يومئذ: أنتم إخواننا في كتاب الله وشركاؤنا في دين الله، وأحب الناس إلينا، فأنتم أحق الناس بالرضا بقضاء الله، والتسليم لفضيلة إخوانكم، وأن لا تحسدوهم على خير " [15] ومدارس الفقه الإسلامي، والتفسير، والتشريع، والقضاء، ومعظم الأصول العلمية للدولة الإسلامية، إنما أسسها المهاجرون الأرقميون خاصة، بدءا بالخلفاء الراشدين، كفقهاء، وقضاة مجتهدين، وانتهاء بالشخصيات الأرقمية الأخرى، الذين صاروا، كما قال الشاطبي : (أئمة، فكانوا هـم القدوة العظمى في أهل الشريعة) [16] .

وأما الأنصار، فقد كانت لهم الجندية، والاتباع، في الغالب الأعم، فهم أهل نصر، ومبادرة، وجهاد. وهذا لا يعني أن أحدا من الأنصار لم تنبغ عبقريته إطلاقا، وإنما هـناك قلائل نبغوا، وصاروا قادة في مجال ما، كمعاذ بن جبل ، فقيه الأمة، الذي كان كما قال صلى الله عليه وسلم فيه :أعلم الأمة بالحلال والحرام [17] ، ولذلك أرسله معلما، ومربيا، وقائدا، لأهل اليمن [ ص: 85 ] والسبب في ذلك، يرجع إلى ما طبق من الأرقمية في المدينة المنورة إلى جانب المنهج المنبري، كما سوف نوضح بحول الله، بيد أن المقصود من الأحكام السالفة واللاحقة، هـو العموم الغالب، لا العموم القطعي التام.. هـذا، وقد كان المنهج الأرقمي، يعتمد أساسا على النص القرآني لاستيعاب الناس بالإسلام، وكذا لترقيتهم في مدارج الإيمان.

ويروي ابن هـشام حوار أبي الوليد عتبة بن ربيعة ، مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، حينما جاء مفاوضا باسم قريش ، فقال مقالته : (حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال : ( أقد فرغت يا أبا الوليد ؟ ) قال : ( فاستمع مني ) ، قال : أفعل، فقال : بسم الله الرحمن الرحيم: ( حم * تنزيل من الرحمن الرحيم ... ) (فصلت : 1-2 ) ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيها،يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة، أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره، معتمدا عليهما، يستمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد... فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال ورائي أني سمعت قولا، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هـو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة! يا معشر قريش ! أطيعوني، واجعلوها بي، وخلوا بين هـذا الرجل وبين ما هـو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه، نبأ عظيم ! [18] . [ ص: 86 ]

فالرسول صلى الله عليه وسلم إذن، كان يستوعب الناس للإسلام بالقرآن أساسا، ورغم أن أبا الوليد لم يسلم، إلا أن تأثره بالقرآن واضح جدا، من خلال النص المذكور، ولذلك فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله، بكلام الله أساسا.

وقد حكى عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، انبهار جمع من كفار قريش بالقرآن الكريم، حينما تلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عليهم - في حديث متفق عليه - ( قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم النجم بمكة، فسجد فيها وسجد من معه ) ، وفي رواية ( عن ابن عباس رضي الله عنهما : وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس ) .. " قال ابن مسعود: غير شيخ أخذ كفا من حصى، أو تراب، فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفيني هـذا، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا " [19] وقد أسلم الناس في المرحلة المكية، بسبب سماعهم القرآن.. " قال عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : فلما سمعت القرآن، رق له قلبي، فبكيت، ودخلني الإسلام ! " [20] .

.. وقال الطفيل بن عمرو الدوسي ، وقد حشا في أذنيه كرسفا، لئلا يسمع القرآن: فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله. قال: فسمعت كلاما حسنا، قال فقلت في نفسي: واثكل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يعنيني أن أسمع من هـذا الرجل ما يقول؟ ... قال فعرض علي رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، وتلا علي القرآن، [ ص: 87 ]

وحكت أم سلمة رضي الله عنها ، أن النجاشي استقرأ جعفرا، رضي الله عنه القرآن، (قالت : فقرأ عليه صدرا من (كهيعص) .. قالت: فبكى النجاشي، حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم ) [21] وجاء وفد من نصارى الحبشة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، لما سمعوا به فتلا عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم كلام الله، ( فلما سمعوا القرآن، فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله، وآمنوا به) [22] وعندما التقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفد الخزرج بمكة، أول مرة، قال لهم: ( أفلا تجلسون أكلمكم؟) قالوا: بلى. فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل ، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن ... ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا، وصدقوا [23] وكذلك كان مصعب بن عمير ، رضي الله عنه ، يطبق نفس المنهج بالمدينة ، قبل هـجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، فقد حكى ابن هـشام عن ابن إسحاق ، [ ص: 88 ] قال " حدثني عبد الله بن المغيرة بن معيقب ، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم ، أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير ، يريد به دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر ... وسعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل ، وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به، قال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير ، لا أبا لك، انطلق إلى هـذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا، ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما، وانههما عن أن يأتيا دارينا ... فأخذ أسيد بن حضير، حربته، ثم أقبل إليهما... فقال له مصعب : أو تجلس، فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته، كف عنك ما تكره ؟ قال: أنصفت! ثم ركز حربته، وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن ؟ فقالا، فيما يذكر عنهما : والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم به، في إشراقه، وتسهله، ثم قال : ما أحسن هـذا الكلام، وأجمله... وشهد شهادة الحق... ثم أخذ حربته، ثم انصرف إلى سعد... فقام سعد مغضبا... فأخذ الحربة من يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا ثم خرج إليهما... فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا، ورغبت فيه، قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال سعد: أنصفت. ثم ركز الحربة، وجلس، فقرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قالا : فعرفنا والله في وجهه الإسلام، قبل أن يتكلم، لإشراقه وتسهله ... وتشهد شهادة الحق! " [24] . [ ص: 89 ]

وهكذا، نرى أن القرآن، كان هـو المادة الأساس، التي اعتمدت في إدخال الناس إلى الإسلام،وأن ربطهم منذ اللحظة الأولى، كان بالله مباشرة، من خلال كتابه العزيز. ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمده وحده كمادة تربوية، للترقي بأصحابه في مقامات الإيمان، كما اعتمد نصوصه المكية في تشكيل شخصياتهم، وبنائها، تربويا، في الجلسات الأرقمية العظيمة: (وكانت الآيات،وقطع السور، التي تنزل في هـذا الزمان، آيات قصيرة، ذات فواصل رائعة منيعة، وإيقاعات هـادئة خلابة، تتناسق مع ذلك الجو الهامس الرقيق، تشتمل على تحسين تزكية النفوس، وتقبيح تلويثها برغائم الدنيا.. تصف الجنة والنار، كأنهما رؤى العين.. تسير بالمؤمنين في جو آخر، غير الذي فيه المجتمع البشري آنذاك) [25] فكانت سور من مثل سورة الفرقان، التي تصف عباد الرحمن بأنهم: ( الذين يمشون على الأرض هـونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) ( الفرقان :63) ، وتحدد لهم مجموعة من الصفات الربانية، من قيام الليل، وخوف من عذاب الله، وتوحيد له سبحانه، وعدم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وإنفاق في سبيله،وحفظ للفروج من الزنى، وترك شهادة الزور، واللغو، ونحو ذلك. كما كانت سور أخرى، تثبت الصحابة الأرقميين في محنهم بمكة، مثل سورة البروج، التي كما قال الأستاذ سيد قطب ، رحمه الله: (تشع حولها أضواء قوية، بعيدة المدى، وراء المعاني، والحقائق المباشرة، [ ص: 90 ] التي تعبر عنها نصوصها، حتى لتكاد كل آية - وأحيانا كل كلمة في الآية - أن تفتح كوة على عالم مترامي الأطراف، من الحقيقة) [26] فكان القرآن إذن، هـو المادة التربوية للاستيعاب الداخلي والخارجي معا، عليه يقوم المنهاج النبوي التربوي، وتميزت مرحلته المكية بالتطبيق الأرقمي، من حيث الاصطفائية، ثم التتبع الدقيق،والمعالجة الخاصة، لكل فرد على حدة، قصد صناعة القادة من الجيل الأول، الذين أرسوا قواعد الدولة الإسلامية بعد.

وكما كان ذلك ساريا في مكة قبل الهجرة، كان ساريا أيضا في المدينة المنورة، سواء تعلق الأمر بالاستيعاب الخارجي، كما تبين مما سبق، أو الاستيعاب الداخلي، والتزكية الفردية، من خلال الجلسات الأرقمية. وقد روى البخاري في صحيحه، كما أسلفنا، أن أو ل من قدم المدينة مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، وكانا يقرئان الناس القرآن.

وروى ابن هـشام قال: قال ابن إسحاق : فلما انصرف عنه صلى الله عليه وسلم القوم (يعني وفد الأنصار) بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير ... وأمر أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقهم في الدين، فكان يسمى مصعب بالمدينة: المقرئ [27] . [ ص: 91 ]

فمصعب رضي الله عنه ، كان يطبق نظام الجلسات، لمدارسة القرآن، وهو يشكل شخصيات قيادية من الأنصار. وكان ذلك نقلا للمنهج الأرقمي الذي بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، يمارسه في تربيته للناس، بيد أن ذلك لم يستمر على حاله طويلا، إذ سرعان ما هـاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، لا ليلغي المنهج الأرقمي، ولكن ليشفعه بالمنهج المنبري، الذي صار أكثر اعتمادا من الأول، في تربية المسلمين وتزكيتهم. وهنا يزول ما يحصل من تعارض، حينما نجد أن ثمة تطبيقات للأرقمية بالمدينة المنورة من جهة، وأن قادة من الأنصار، تخرجوا عليه، وكانوا أئمة في مجالات أخرى من مجالات الدين. بيد أن الغالب الأعم، على التربية التوحيدية بالمدينة المنورة، هـو تطبيق المنهج المنبري، الذي كان يصنع ما يمكن تسميته بالرأي العام الإسلامي. فما هـي خصائص هـذا المنهج إذن؟

التالي السابق


الخدمات العلمية