تقديم بقلم: عمـر عبيـد حسـنـه
الحمد لله، الذي أورث الأمة الإسلامية النبوة والكتاب، واصطفاها لوراثة الثقافة، والحضارة الإنسانية، وختم بها النبوات، فانتهت إلى كتابها أصول الرسالات السماوية، وانتهى إليها التاريخ البشري، قال تعالى: ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هـو الفضل الكبير ) (فاطر: 32) ..
وجعلها أمة وسطا، وناط بها حمل الرسالة السماوية، وأداء أمانة البلاغ المبين، فكانت وظيفتها الشهادة على الناس، وتصويب مسيرتهم، وقيادتهم إلى الخير، قال تعالى: ( وكـذلك جعـلناكم أمة وسـطا لتكونوا شـهداء على الناس ويـكون الرسـول عليكم شهيدا ) (البقرة: 143) ،
وقال: ( قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا * إلا بلاغا من الله ورسالاته ) (الجن: 22-23) ..
وكان سبيلها واضحا، بسبب من عصمة الوحي، وهداياته إلى التبصر بأحوال الأمم السابقة، وما خضعت له من سنن وقوانين، فتأخذ حذرها، وتحقق الوقاية الحضـارية، [ ص: 9 ] قال تعالى: ( قل هـذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) (يوسف: 108) ..
وقال تعالى: ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين * هـذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) (آل عمران: 137-138) .
والصلاة والسلام على المبعوث للناس كافة، بشيرا ونذيرا، قال تعالى: ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ) (سبأ: 28) ،
الذي يقف على خط النهاية من الرسل، وقمة التجربة البشرية، من لدن آدم عليه السلام ، حيث اختتمت بالإسلام رسالات السماء،
قال تعالى: ( إن الدين عند الله الإسلام ) (آل عمران: 19) ،
واكتمل للبشرية دينها،
قال تعالى: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) (المائدة: 3) ..
كما اجتمعت لشخصه صلى الله عليه وسلم جميع كمالات الأنبياء، فتمحضت رسالته، لإلحاق الرحمة بالبشرية جميعها،
قال تعالى: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء: 107) .
وبعد:
فهذا كتاب الأمة الخمسون: (التأصيل الإسلامي لنظريات ابن خلدون رحمه الله) للدكتور عبد الحليم عويس ، في سلسلة كتاب الأمة، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، في دولة قطر، مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري، والتحصين [ ص: 10 ] الثقافي، ومحاولة إعادة البناء، وإحياء وعي الأمة الإسلامية، ومسئوليتها تجاه نفسها والإنسانية، واستيعاب التجربة التاريخية، وإشعارها بأهمية التوغل في التاريخ، والسير في الأرض، والنظر في العواقب والمآلات، وإدراك السنن والقوانين الاجتماعية، التي تحكم الحياة والأحياء، مستمسكة بهدايات الوحي، ومعايير الكتاب والسنة، حيث أعطى الله سبحانه وتعالى كل شيء خلقه ثم هـدى هـذا الخلق.. وتلك الهداية هـي هـذه السنن، التي تمثل أقدار الله الغلابة، التي لا تتبدل، ولا تتحول، ولا تخترق، إلا بالمعجزات والخوارق، عندما يشاؤها الذي خلقها، وأودع في كل شيء قدره، وقوانين حركته الداخلية، وتوازنه، وانسجامه مع سائر المخلوقات في حركته الخارجية.. ولعلنا نقول هـنا: إن خرق السنن والأسباب، من الله بالمعجزات دليل على اطرادها، وعجز الإنسان عن خرقها.
ولن يتأتى للأمة المسلمة استئناف النهوض، ومعاودة استثمار طاقاتها الروحية والمادية، ما لم تفتش عن نفسها من جديد في كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وتحسن التعامل مع معارف الوحي، وتقوم الواقع بها، فتنظر إلى الواقع من خلال قيم الكتاب والسنة، وتتأمل في الكتاب والسنة، وتبصر الحلول وكيفيات التنزيل، ووضع البرامج والخطط، من خلال معاناة الواقع وحاجاته، وتستوعب التجربة التاريخية، وتدرك حركتها وسنتها الاجتماعية -إن صح التعبير- فتصبح قادرة على مغالبة قدر بقدر، والفرار من قدر إلى قدر.. تدرك الأسباب والمقدمات، فتحسن التعامل معها، وتحسن توجيهها، والمداخلة في مسارها، وبذلك تتخلص من أسر النتائج [ ص: 11 ] والآثار المترتبة، فتفيد من خلاصة التجارب، التي كان محلها التاريخ والفعل البشري.. فتكون بداياتها، هـي نهايات الآخرين.. تتحول مما يملكها إلى ما تملكه، فتتحقق بالرؤية الإسلامية السليمة، التي تحميها من العقم الفلسفي، والعبث السياسي، والتضليل الثقافي.
ونسارع إلى القول: إن من المنطلقات الأساس، التي لا بد من التوقف عندها، وتحرير القول فيها، مما يسمح به المجال، هـو أن الأمة المسلمة دون غيرها من سائر الأمم والحضارات الأخرى، تمتلك النص الإلهي الصحيح، الوارد بالتواتر، الذي يفيد علم اليقين، كما أنها تمتلك البيان النبوي المعصوم، الذي تحقق له من شروط وضوابط النقل، والتوثيق، والتحقيق، والحفظ، ما لم يتحقق لغيره، حتى في أرقى العصور المعلوماتية، إضافة إلى ما يمتاز به أيضا، من تحويله من نظر إلى واقع، ومن فلسفة إلى ممارسة، ومن فكر إلى فعل، وتنزيله على واقع الناس، في مرحلة السيرة النبوية، حيث تسديد وتصويب الوحي، وفي مرحلة الخلافة الراشدة، حيث امتداد التنزيل والفعل البشري بعد توقف الوحي، تأييدا وتسديدا.
ومعرفة الوحي هـذه، التي يمتلكها المسلمون اليوم، من نص، وبيان، وتطبيق، وتجسيد في الواقع، والتي اتسمت بشمولية كاملة، تعتبر منهج العمل، ودليل التعامل مع الحياة، أي البوصلة التي تحدد الاتجاهات من جانب، كما تعتبر المعيار، وأداة التقويم، ومركز الرؤية، لمدى صوابية وسلامة الفعل، والاجتهاد البشري، من جانب آخر. [ ص: 12 ]
كما أنها تمتاز بالخلود، كما أشرنا في أكثر من موقع، الذي يعني تجردها عن حدود وقيود الزمان والمكان، والمناسبة، أو أسباب النزول بالنسبة للنص القرآني، وأسباب الورود بالنسبة للنص الحديثي.. وهذا التجرد أو هـذا الخلود، هـو الذي يمنح القدرة على تعدية الرؤية، والامتداد بها، وبلوغ آفاق كل زمان ومكان، وتقويم سلوك كل المجتمعات، والارتقاء والانطلاق بها، من الحالة التي هـي عليها، شريطة انضباط تلك الرؤية بالمصدرية في الكتاب والسنة والسيرة، والمرجعية بفهم القرون المشهود لها بالخيرية.
إن هـذا التحرر، أو التجريد للنص من ظرفية الزمان والمكان والمناسبة، يمكن من توليد الأحكام والحلول الشرعية، وتحقيق الاستجابة، لمعالجة الواقع، شريطة ألا يعود بالنقض أو الإلغاء للبيان النبوي المعصوم.. ولا أرى أننا بحاجة إلى إعادة التذكير والتحذير مما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم ، من حالات التخاذل والاسترخاء، والخروج من الواقع وفقه المعركة، والاتكاء على الأرائك، والقعود مع الخوالف، والرسم بالفراغ، والتحلل من التكاليف، والضوابط الشرعية، حيث تتكرر مقولة: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه، وما وجدنا فيه حراما حرمناه...
ومحاولة إسقاط السنة، أحد مصدري الإسلام، بحجة أن ما ورد من البيان والتنزيل النبوي بعمومه، لا يتعدى حدود الظنية في الدلالة، التي يجوز تجاوزها، وعدم الأخذ بها، ومن ثم الاقتصار على القرآن، حتى وصل الأمر ببعض دعاة المعرفيات الجديدة، إلى القول بجواز رد كل [ ص: 13 ] الأحاديث لأنها ظنية، والاقتصار على كتاب الله.. وهكذا يراد للأمة اليوم أن تلغي حديث المعصوم، الذي توافرت له شروط النقل والتوثيق، من الناحية الفنية، والغيرة والإخلاص من الناحية الدينية، وتقبل كلام، واجتهـادات، ومعـارف، وفلسـفات البشـر، الـذي لا عصمـة لهم، ولا اهتمام بهم.
وهنا حقيقة قد يكون من المفيد الإشارة إليها، والتأكيد عليها، لأنها تشكل منطلقا مهما في البناء المعرفي، وهي أن ما يردنا عن طريق الوحي، يشكل حقيقة، سواء نظرنا إلى ذلك من حيث المصدرية، ووروده عن المعصوم، أو نظرنا لذلك من خلال ما توفر له، من شروط وضوابط النقل... وأن ما يردنا عن غير طريق الوحي.. هـو مجرد معارف، ومعلومات، تحتمل الخطأ والصواب، ويبقى ذلك ملازما لها، فهي دائما قابلة للفحص والاختبار، والقبول والرد والنقض، على عكس حقائق معرفة الوحي، حتى إن بعض العلماء رأى قصر مصطلح العلم عليه دون غيره، وأن ما وراء ذلك لا يخرج عن كونه معرفة قابلة للنقض والتعديل، لم ترق إلى مستوى العلم.
ولعل القضية التي لا تزال بحاجة إلى التأكيد والتأصيل: أن معرفة الوحي في الكتاب، والسنة، والسيرة العملية، وضعت الأصول والمعالم، وحددت المقاصد الأساسية لجميع جوانب الحياة، أو بمعنى آخر: غطت جميع مجالات الحياة، ولم تقتصر في ذلك على الجانب المعرفي، والرؤية النظرية التصورية، على أهمية ذلك وضرورته، لأن الفكر دليل الفعل، ومصباح الطريق، وإنما جاءت بالفكر والفعل، بالإيمان والعمل، بل اعتبرت [ ص: 14 ] عدم التطبيق والعمل من خوارم الإيمان، ونواقض التصديق، واستصحبت تاريخ التجربة البشرية، من لدن آدم ، وحتى انتهى التاريخ إلى الرسالة الخاتمة، كوعاء بشري، وميدان تطبيق لاطراد السنن، كلما توفرت مقدماتها، غير مكتفية بتاريخ وحركة أمة الرسالة الخاتمة، التي لا تخرج عن كونها حلقة في السلسلة، أو في المسألة الاجتماعية.
نعود إلى القول: بأن معرفة الوحي غطت جميع جوانب الحياة ومجالاتها، مؤيدة بالبراهين والأدلة العملية الميدانية، من حياة الأمم السابقة، على اطرادها، وخضوع الأمم لسننها وقوانينها، في السقوط والنهوض.. وقدمت النماذج والعينات التطبيقية في شتى المجالات.. قدمت خلاصة التجربة المخبرية، إذا اعتبرنا التاريخ هـو مختبر العلوم الاجتماعية والإنسانية واطراد السنن، وشاهد الفعل البشري، ليعتبر المسلم، فينطلق للتعامل مع المعارف اليقينة، والنتائج المحسومة، اختصارا للجهود والأعمار.
قدمت نماذج لنهوض الأمم، وعللت أسباب النهوض، وقدمت نماذج لعوارض النهوض وأمراضه، وبينت طريق السقوط، والانقراض الحضاري.. قدمت نماذج للطغيان والظلم السياسي: فرعون وجنوده، وحمت المسلم من السقوط على أقدام الظلمة، فبينت مآله وعواقبه.. وقدمت نماذج للطغيان والظلم الاقتصادي: قارون ومن على شاكلته، وبينت إغراءاته وأسباب سقوطه.. وقدمت نماذج للظلم والطغيان الاجتماعي، والمصير الذي انتهى إليه.. قدمت نماذج للترف، والبطر، والكبر، وسائر الأمراض والأوبئة الاجتماعية، المؤذنة بالخراب والتدمير. [ ص: 15 ]
ربطت السنن المادية بالسنن النفسية، وبينت مدى التلازم والتأثير والتأثر بينها، بحيث قد تكون الأولى نتيجة للثانية.
قدمت نماذج على مستوى الفرد، والجماعة، والملأ، والقوم، والأتباع والمتبوعين.. قدمت نماذج للمرأة المؤمنة والزوج الكافر، وللزوج المؤمن والمرأة الكافرة، وللأب المؤمن والابن الكافر، والابن المؤمن والأب الكافر، وهكذا.. قدمت نماذج للكفر والإيمان، والعلاقة الجدلية بينهما.. قدمت نماذج لكيفية التعامل مع الهزائم والانتصارات، والاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، لتكون معرفة الوحي دليل المسلم للتعامل مع الحياة، وامتلاك ملكة الفرقان، وتقدير المواقف، وقراءة الاحتمالات، ورؤية المستقبليات-من خلال اطراد السنن- واعتبار الماضي مقدمة الحاضر، والحاضر مقدمة المستقبل، حتى يمكن القول: بأن معرفة الوحي امتدت إلى التبصير بالمستقبل، وبما ستصير إليه الأمور، إذا لم نستدرك الأمر في الحاضر.
ولعلي أرى فيما اصطلح على تسميته: (أحاديث الفتن) ، أنها تشكل رؤية مستقبلية، لا بد من دراستها.. فمثلا عندما ( يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا، ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا، ويصبح كافرا، يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا قليل. ) (رواه أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، عن أبي هـريرة ) ، أليس ذلك رؤية علاجية لمواجهة الفتن، وحالة التلقي بالألسنة، وتعطيل التفكير، وانكماش السنن، وانتشار البدع، وشيوع القيل والقال، وأن المواجهة [ ص: 16 ] تكون بالعمل الصالح، الذي يكشف فساد القول، ويحمي الأمة من امتداده، واستنزاف طاقاتها بالقيل والقال، حيث العلم الذي لا ينفع؟!
وعندما يقول صلى الله عليه وسلم : ( يا معشر المهاجرين، خصال خمس، إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع، التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا.. ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان عليهم.. ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا.. ولم ينقضوا عهد الله، وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما كان في أيديهم.. وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله عز وجل ، ويتحروا فيما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم. ) (رواه ابن ماجه ، والحاكم عن ابن عمر ) ، أليس ذلك دعوة إلى التحذير من ظهور الفواحش، وما تورثه من الخلل الاجتماعي، وما يترتب عليها من آثار سلبية، ليكون المسلمون على حذر من شيوعها، وأهمية محاصرتها؟!
وعندما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة، وهي الجماعة. ) (رواه ابن ماجه عن أنس ) .. وفي رواية: ( ما أنا عليه وأصحابي. )
أليس ذلك دعوة إلى الاستمساك بالكتاب والسنة، واعتمادها سبيل النجاة، والقيام بالمراجعة الكاملة، على المستويات المتعددة، والنظر في مدى انطباق أعمالنا على متطلبات الكتاب والسنة، وعدم الاستسلام [ ص: 17 ] للافتراق، والتحول من العزيمة على العمل بالكتاب والسنة، إلى فرز الناس إلى فرق ناجية، وفرق في النار، وزيادة اشعال الفتن بدل سبيل معالجتها، وإطفائها بالسنن؟!
وهكذا نرى أن أحاديث الفتن، هـي في الحقيقة رؤى مستقبلية، تدفع للمداخلة في الحركة التاريخية، ودفع قدر بقدر، والاستعداد لكيفية التعامل معها، وإلا ما معنى وجدوى ورود أحاديث الفتن، والتحذيرات المستقبلية، مما يمكن أن تصير إليه الأمور؟ وما هـو موقف المسلم، إذا لم يمتلك مدافعة قدر بقدر، ويستلم زمام المبادرة في الحيلولة دون الفتن، وكيفية التعامل معها حال وقوعها؟
ما الفائدة من أحاديث الفتن، إذا لم تدرك أبعادها على أنها إشارات مستقبلية، لا بد أن نأخذ حذرنا تجاهها، ونعد لها ما استطعنا؟
إن سنن السقوط والنهوض، أو القوانين التي تخضع لها مجتمعات البشر، لم تقتصر في معرفة الوحي على قراءة الماضي، أو استيعاب الحاضر فحسب، وإنما تجاوزت حدود المنظور إلى تقديم رؤى مستقبلية، تسبق الزمن، لنحسن الإعداد، والاستعداد، للتعامل معه.
ولعلنا نقول: إن أقدار التدين في صعود وهبوط، على مستوى الأفراد، والدول، والأمم، وإن السقوط والنهوض منوط إلى حد بعيد بهذه الأقدار، صعودا وهبوطا، وبمدى إدراك شمولية معرفة الوحي وفاعليتها، وتغطيتها لجميع مجالات الحياة، والقدرة على الامتداد بها، صوب تعليل الحاضر، وقراءة المستقبل. [ ص: 18 ]
وقد تكون المشكلة كل المشكلة اليوم، في توهين وزحزحة وإسقاط معرفة الوحي من النظام المعرفي، أو انحسارها في معاهدنا، ومدارسنا، وجامعاتنا، ومراكز بحوثنا، وأذهاننا، وعدم فاعليتها، والتوهم بأنها مناقضة للعلم والموضوعية، ومتعلقة بالخوارق والغيبيات، والأوهام، التي تكتفي بالتفسير السطحي، وتقصي العقل عن التعليل، وتضع له القيود المسبقة، أو المعلومة المسبقة، التي لا يمكنه التحرك إلا من خلالها، والادعاء بأن الاجتماع البشري، والوجود بشكل أعم، فيما ذهبت إليه سائر العلوم الإنسانية، محكوم بقوانين تسيره من داخله، وتتحكم بحركته، ولا سلطان عليه لجهة خارجة عنه، لنفي صلة الكون بخالقه ومسيره، ونفي المعارف الواردة من طريق الوحي، وتحييدها عن واقع الحياة أو إلغائها!!
والحقيقة التي لا شك فيها: أن الكون لم يخلق عبثا ومصادفة -ولعل قوانينه الداخلية دليل انتفاء المصادفة- وإنما خضع لنظام وقانون يحكم حركته، وسنن تنتظم سيره، وأنه لا يمكن التعامل معه، وحسن تسخيره، بعيدا عن اكتشاف تلك السنن، التي تمكن من تفسير الحركة، وتقدير النتائج، لكن ذلك التفسير للظواهر الكونية والاجتماعية، وقراءة حركتها، لا يعني غاية التعليل المطلوب، وإنما يبقى قراءة بتراء، إذا لم تتجاوز إلى اكتشاف العلة في الخلق، وأن وراء هـذا التنظيم أو القانون الحاكم للحركة، منظم أعطى كل شيء خلقه ثم هـدى، ذلك أن علمنا يقتصر على قراءة هـذه القوانين، دون معرفة ناموس الخلق، الذي يشكل، لا أقول نصف الحقيقة في التعليل، وإنما أساس الحقيقة.
ومحاولة إلغاء المعارف المسبقة، باعتبارها قيودا للعقل، تحول بينه وبين الطلاقة في التفكير والتعليل والاكتشاف، قد تستهوي الإنسان ابتداء، [ ص: 19 ] لرغبة التمرد الكامنة فيه، لكنها لا تصمد في الحقيقة، ذلك أنه لا يمكن أن تتم أية من العمليات التفكيرية دون محرضات، وأسباب، واستقراء، ومسبقات سلبية أو إيجابية، ومشاهدات.. حتى خطرات القلوب، ولمحات العقول، إنما تتحصل من مشاهدات، وآثار ومؤثرات خارجية، وإلا انفصل العقل عن محيطه وواقعه، وعجز عن النظر، والتعليل، والاستنتاج، والاستقراء.
فموضوعات التعليل مسبقات، ووسائله وأدواته مسبقات، والإنسان نفسه -أداة النظر وموضوع ومحل النظر- إذا لم تتوفر له معارف يقينية، وثوابت سليمة، تحمي عقله ولا تناقضه، وتوجهه، وتشكل له معايير التقويم، وضوابط المنهج، ومرجعية الفهم، وتحقيق الاطمئنان إلى الصواب، فكيف سيكون حاله واستقراره، خاصة وأنه -كما أسلفنا- محل الدراسة وأداتها، وعلى الأخص في الدراسات الاجتماعية والإنسانية ا!
من هـنا ندرك أهمية معرفة الوحي اليقينية في تحقيق النهوض، وتوفير الطاقة، والحماية من السقوط، وإطلاق العقل للنظر والتدبر، وتحقيق الاعتبار، الذي يعني امتلاك القدرة، ومعرفة سبل العبور السليم من الماضي إلى المستقبل.. وندرك كيف أن الإسلام ألغى الآبائية والمسبقات، التي لا تبنى على حقائق وعلم صحيح، لتخليص الإنسان من قيد الخرافة، والتحول إلى الحقيقة،
قال تعالى: ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) (البقرة: 170) . [ ص: 20 ]
وندرك الحكمة من القصص القرآني، الذي يشكل بالنسبة لنا تجربة تاريخية غنية، ومختبرا لنفاذ السنن واطرادها، ومصدرا مهما لعلم الاجتماع البشري، والقوانين التي تحكمه، ونتعامل مع نتائج وخلاصات يقينية، أشبه بنتائج التجارب في العلوم المادية، وأشبه بالمعادلات الصارمة الدقة في العلوم الرياضية والفيزيائية...
لكن المشكلة الحقيقية: أننا اليوم دون مستوى الإفادة من قيم الكتاب والسنة، وتحقيق خلودها فعلا في الحياة والواقع.. دون سوية التراث الإسلامي أيضا، الذي هـو محاولات واجتهادات بشرية، لتحويل القيم والمبادئ إلى خطط وبرامج.. تحويل الفكر إلى فعل.. تنزيل معرفة الوحي على واقع الناس، وتجسيدها في حياتهم، بما نسميه: (الحركة التاريخية) بمدلولها الثقافي.. وهذا الفعل التاريخي، قد يخطئ في التعامل مع معرفة الوحي، وقد يصيب، وهو في كلا الحالين يمنح العبرة.. والعبرة بمعناها الأخص، الذي يعني لغة واصطلاحا: المعرفة التي تمكننا من العبور إلى المستقبل بشكل صحيح، مستصحبين تجارب الماضي في الخطأ والصواب، في النجاح والفشل، ذلك أن العاجز عن استيعاب التراث، واستشراف الماضي، سوف يعيش متخاذلا وعاجزا عن تحقيق العبرة التي تقود إلى العبور السليم، واستشراف المستقبل.
وفي تقديري، أن الإنجاز الحضاري، أو أي مشروع للنهوض، لا بد أن يأخذ في اعتباره الأبعاد الثلاثة المطلوبة كمرتكزات لهذا الإنجاز: استشراف الماضي، الأمر الذي يعني استيعاب مسيرة التراث، واستلهامه، وتقويمه، من خلال قيم الوحي في الكتاب والسنة، واعتماده مصدر عبرة، [ ص: 21 ] ومخبر تجرية، وليس مصدرا للتشريع، لأن مصدر التشريع والتقويم والمعايرة، نصوص الكتاب، وصحيح السنة.. واستيعاب الحاضر، والسنن التي حكمت تكوينه وتشكيله، وموقعه من مسيرة الماضي (التراث) .. ورؤية المستقبل، أو استشراف المستقبل، واستلهام التراث، تعني قدرتنا على جعل التراث يجيب عن أسئلة الحاضر، ويمكننا من رؤية المستقبل.. وأي مشروع نهضوي لا يأخذ هـذه الأبعاد المتلازمة بعين الاعتبار، محكوم عليه بالفشل، والله أعلم، لذا أعتقد أن اتهام العاملين للإسلام، بأنهم ماضويين، أو محولين رءوسهم للماضي، أو أن الماضي هـو بديل المستقبل بالنسبة لهم، قول محل نظر، لأن الذي يستوعب الماضي حقيقة، يدرك الحاضر، ويرى المستقبل، والذي لا يحقق ذلك هـو دون سوية الماضي، أو دون سوية التراث بشكل أخص.
وقد تكون المشكلة في الحقيقة، بعد حقب من التخلف، بسبب التخاذل الثقافي، والجمود العقلي، والتقليد الجماعي، وإلغاء الاجتهاد، ومحاصرة الخلود في النص الإلهي، تحت شتى المعاذير والمسوغات: أننا بدأنا نتعرف على تراثنا وأعلامنا، ونقرأهم من خلال فكر الآخرين، وأبجدية الآخرين، أو مناهج الآخرين المعرفية بشكل أعم، ونحن إزاء ذلك لا نخرج عن أحد موقفين:
إما موقف الدفاع، ورد الشبهات، ودرء السهام، والانحياز العاطفي، دون أن تكون عندنا القدرة على الإفادة من تراثنا، وإنضاج دراسات حوله، واستلهامه، لاستيعاب الحاضر وإصلاحه، وإبصار المستقبل والإعداد له، والاعتبار بهذه التجارب الثقافية الغنية، وبذلك يسرق تراثنا وفكرنا [ ص: 22 ] وأعلامنا، ويكون الآخر أقدر على الإفادة منهم، في الداخل والخارج، على حد سواء، ونحن نستنزف طاقاتنا بالفكر الدفاعي، والمرابطة على الحدود، دون إمكانية البناء والارتقاء في الداخل، إضافة إلى ما يمكن أن يشكل هـذا الفكر الدفاعي من مخاطر، ليس أقلها التحكم الثقافي...
وإما تبني قراءات الآخرين، والوقوف على أقدامهم، والمفاخرة بإنجازهم، والتبشير بها، والخضوع لنتائجهم ومعاييرهم، وتشكيل عقدة كاذبة للتعاظم بأعلامنا الذين سرقوا منا، وكيف أنهم أسهموا بنهوض الآخرين.. أما نحن فلم نفد منهم، ودون أن ندري أو ندرك أن سرقة هـؤلاء العظماء والأعلام، سوف يؤدي إلى أمرين:
الأمر الأول: قدرة (الآخر) على الإفادة منهم في تراكمه المعرفي.. والأمر الثاني: أن قراءة (الآخر) ودراسته لأعلامنا، من خلال أبجديته ونظامه المعرفي، وانتقال هـذه القراءة إلى الداخل الإسلامي، سوف تشكل معابر للغزو الثقافي، وتسهم بتشكيل قابليات في الداخل الإسلامي، لقبول (الآخر) ، لأنه ليس غريبا عن تراثنا وهويتنا الثقافية، وإنما عبر إلينا من خلالنا، أو بما يسمى: (عملية الغزو الذاتي) .
ولعل معظم البلاء تسلل إلينا من خلال عمليات الابتعاث العشوائية، والتشكل ضمن مناخ الثقافة الغربية، بدون حصانة وضوابط، إلى درجة يمكن أن نقول معها: بأن خصومنا أفادوا من ابتعاثنا الثقافي، ووظفوه لمصلحتهم وثقافتهم أكثر منا، لأنهم اعتبروا المبتعثين أدلة لهم لفهم عالمنا، وأدوات بحث في تراثنا، وفق مناهجهم، وإذا ما عادوا عادوا مشبعين بالمنهج المعرفي الغربي، والقراءة وفق الأبجدية والأهداف الغربية لتراثنا [ ص: 23 ] وأعلامنا، فيتقلدون مراكز القيادة والأستاذية في الشرق، بعد أن كانوا تلاميذ في الغرب، فيساهمون بالتغريب، والاستيلاب الحضاري الذاتي، وبذلك نشتري غزونا واستعمارنا بأموالنا، وعلى أحسن الأحوال، نشغل بإقامة ترسانات فكرية ومتاريس دفاعية، يمكن أن تحسب في خانة درء المفاسد، ونبقى نراوح في مكاننا، دون أن تكون عندنا القدرة على جلب وتحقيق المقاصد، وهذا يصدق إلى حد بعيد على العلامة ابن خلدون، الذي نقدم له، حيث بالإمكان القول: بأن (الآخر) أفاد منه مرتين:
مرة بسبقه العلمي في مجال فلسفة التاريخ، كعلم امتد وتم تأصيله وبلورته عندهم، وأفادوا منه في قراءة المجتمعات البشرية، والعوامل الحاكمة للحركة التاريخية، وأنشأوا نواة العلوم الاجتماعية.
ومرة أخرى، بمحاولة إخراجه من إطاره المرجعي، ومناخه الثقافي، وطرحه كإشكال فكري أقرب انتماء لحضارة (الآخر) منه لحضارته.
لذلك نقول: إنه لا بد ابتداء من تشكيل المرجعية، من خلال معرفة الوحي في الكتاب والسنة، كمعارف يقينية، وأدلة عمل وتعامل، وكحماية ثقافية، وكخلاصات اختصرت التجربة البشرية لصالح الأمة الخاتمة، وكمعيار لبيان الخطأ والصواب، والحكم على الفعل التاريخي في المسيرة الفكرية والثقافية.
لأننا إذا افتقدنا المعيارية، واهتز عندنا مركز الرؤية، ولم نحقق الإطار المرجعي لمعرفة الوحي، وجاء هـذا السيل الجارف، والزبد الطامي من (الآخر) في تحليل ودراسة رموزنا العلمية والثقافية، من خلال رؤيته الحضارية، وأنظمته المعرفية، أمكنه استيلابنا، والتحكم الثقافي فينا، خاصة [ ص: 24 ] وأن شعب المعرفة في العلوم الاجتماعية والإنسانية قد تطورت عنده تطورا مذهلا، وأصبح معها قادرا على هـضم كل الثقافات والأفكار، والتقوي بها، وإعادة إنتاجها، وتصديرها، حاملة أهدافه وقسماته الحضارية والثقافية.. إنه يدخل علينا من الأبواب جميعا، خاصة وأن شعب المعرفة في هـذه العلوم لم تمتد بالشكل المناسب في الواقع الإسلامي المعاصر، بل نستطيع القول: بأنها توقفت منذ زمن بعيد، وأحدثت فراغا مذهلا، وعجزا، وتخاذلا، تمدد من خلاله (الآخر) .
صحيح أن أسلافنا عندما استوعبوا معرفة الوحي في الكتاب والسنة، قادتهم إلى الفعل والإنجاز الحضاري والثقافي، والامتداد بجميع مناحي الحياة، وشعب المعرفة، وإن لم يشتغلوا ببلورة موضوعات العلوم، وتحديد مصطلحاتها من الناحية الفنية.. لقد تعاملوا مع وظيفة المصطلح، وحققوا مقاصد العلم، تعلموا العلم للعمل، ولم يتوقفوا عند التعريفات والتحديدات المصطلحية.. ثم تحول الأمر، حيث أصبح الاشتغال بتحديد المصطلحات والجدل الكلامي هـو العمل، بدل أن يكون سبيل العمل.. إن مرحلة الجدل الكلامي، تحولت إلى البحث في التعريفات وموضوعات العلوم، واستغنت بذلك عن تحقيق الوظيفة، التي هـي المقصود الأول في الفعل الحضاري.
فجاء (الآخر) بإنجازه وتفوقه وأدلته، من طلبة الابتعاث، ليغمر العالم الإسلامي برؤيته، ودراساته، ومناهجه، وأنظمته المعرفية، وتحليلاته حتى لتراثنا، ورموزنا العلمية والثقافية، وأفاد منها أكثر من أهلها أنفسهم.
وعلى أحسن الأحوال، فإن الكثير منا جاء انحيازه لتراثنا ورموزنا [ ص: 25 ] عاطفيا، ويغلب عليه الحماس والتوثب العاطفي والروحي، في محاولة لاسترداد رموزنا وتراثنا، دون أن نوطن أنفسنا على إنضاج بحث أو دراسة مقدورة، نفيد فيها من تراثنا ورموزنا، ونؤصل لمناهجهم، ونقومها ونبين مواطن الخلل فيها، في ضوء معرفة الوحي ومعاييره، وبذلك نستوعب تراثنا، ونفيد من ماضينا، ونصوب مسيرتنا.
وبعد: فقد يكون من المفيد في هـذا المقام، حيث الحديث عن ابن خلدون، أحد الرواد العظام في تاريخنا الثقافي، والدراسات الكثيرة التي درات حوله، وحاولت إخراجه من إطاره الإسلامي، والتسلل من خلاله، أن نثبت رؤية الشيخ محمد الفاضل بن عاشور ، رحمه الله، في تقويمه لمن اهتموا بمشكلة الحضارة الإسلامية من أبنائها.. قال الشيخ رحمه الله:
إن الذين تناولوا مشكلة الحضارة الإسلامية من أبنائها، هـم ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين، وقد كان العلامة ولي الدين بن خلدون من بين هـؤلاء وهؤلاء، أجدر من طأطأت له الرءوس، اعترافا بدقيق تحليله لهذه المشكلة، وإجلالا لحسن عرضه إياها، وحكم بيانه لها، لأنه تناولها على منهج دراسي نظري، مؤصل مفصل، إذ نظر إلى طبيعة الدولة الإسلامية ومقوماتها، وفكك بين الأصول التي قامت عليها، وبين الواقع الذي آلت إليه، ورجع إلى النفسية الفردية للمسلم، بين عهد السلف، وعهد الخلف، يضبط حقيقتها، من حيث تتمثل الصورة الاجتماعية للأمة، في ما يصدر عنها في كل عصر، من مدارك الحضارة والثقافة، على ما اختلف ذلك قربا وبعدا، من حقيقة الدين، ومن حقيقة المظهر المثالي الكامل، الذي ينبغي أن يبرز فيه المجتمع الذي يتكون بهذا الدين. [ ص: 26 ]
فجعل شئون السياسة، والعمران، والصناعة، والعلم، في الدولة الإسلامية، تبعا لشأن الدين.
وجعل الحقيقة الأولى للدين، التي هـي العقيدة الفردية، أصلا وأساسا لذلك كله، فأخذ يدرس مشكلة فساد الدولة، وركود ريح العمران، في عصور الإسلام اللاحقة عن عصوره السابقة، وانتقاص الصنائع، وتلاشي ملكات العلوم، واختلال طرائق التعليم في الأمصار الإسلامية لعهده، جاعلا ذلك كله راجعا إلى اختلال الحقيقة الأولى للدين، التي هـي أساس العمران الناشئ به، والدولة القائمة عليه، أعني العقيدة الدينية.
فرد ذلك كله إلى صورة تكون الفرد، تكونا إيمانيا، يرتبط من جهة بالدين الإسلامي في عقيدته، ويسري منه إلى كل ما انبثق عن تلك العقيدة، من مظاهر عمرانية، وصناعية، وفكرية.
وإذا كان الناس -كما يقول ابن عاشور - يكتفون، بأن يعللوا ما بدا في حياة المجتمع الإسلامي وحضارته من إخلال، بما يرجع إلى نظم الحكم، وصور الدول، وما شاع من فساد الخلق، وتفكك الروابط الاجتماعية، فإن ابن خلدون يطلب لهذه العلل عللا، ويرد هـذه الأسباب إلى أسباب وراءها، حتى يظهر أنها وإن أثرت في أوضاع الحضارة والثقافة تأثيرا مباشرا، فليس ذلك التأثير بأصلي ولا جوهري، لأنها هـي بذاتها تأثرت، بما تكيف به العامل الأصلي من كيفية مختلة، فبقيت صالحة مستقيمة ما استطاع ذلك العامل الأصلي وصلح، وآلت إلى الاختلال والفساد، لـمـا آل أصلها ومنشؤها إلى ذلك. [ ص: 27 ]
فالناس جميعا يدركون، أن حالة الحضارة والثقافة، من حيث قابلية الإنشاء، وقوة الصعود، وحرارة المزاج، في عهد الخلفاء الراشدين، غير الحضارة والثقافة في آخر العهد العباسي، وإن كانت المظاهر أقوى، والأعداد أكثر، فإن العبرة بالروح المنتمية، لا بالأشباح الناشئة على إلف الأوضاع المستقرة الموروثة.
فحضارة الإسلام المعتد بها، هـي الصورة اليقظة الفكرية، والهمة الإنشائية، التي تولدت من حرارة إيمان المسلمين في الأجيال الأولى، فمكنتهم من أن يخرجوا عن المحيط الإقليمي، إلى المحيط العالمي، وأن يتناولوا المعارف كلها بداع من إيمانهم الديني، ولغاية تبدو في عظمة دينهم، يستباح الفداء فيها، والهلاك من أجلها، فطلبوا المعارف ونالوها، وجمعوا بين أطرافها وهضموها، وصنفوها وتحكموا فيها، فتطورت على أيديهم، وتواصلت وتقابست، وتأصل ما بينها وبين دينهم، فانطبعت بشخصيتهم، وتأثرت بأوضاعهم الفكرية الأساسية، التي هـي أوضاع الفكر الدينية، التي أنشأ الإسلام عليها أفكارهم، والسكينة الإيمانية، التي رتبت دعوة الإسلام عليها نفوسهم.
هذه الحضارة هـي التي ولدت ما ازدهر به التاريخ الإسلامي من المعارف، والآداب، والصنائع، والفنون، فكان المسلم الذي هـو منشئ تلك الآثار الباهرة من الحضارة، سيدها ومعمرها بإيمانه القوي، وروحه المتقدة، وفكره المتوثب، وخلقه الطاهر، وسلوكه الأمين.
فلما تحولت به الحال، عن تلك المعاني السامية، بقيت مظاهر الحضارة ومعالمها، ونشأت بعدها مظاهر ومعالم أخرى، ولكن المسلم لم يبق سيدها [ ص: 28 ] ومعمرها، وإن كانت تنشأ في أرضه، بيده وعن معرفته، لأنه أصبح أسيرها، وعامل فسادها وخرابها، لما فقد ما كان عنده من قوة الإيمان، والروح، والفكر، والخلق، والسلوك.
هنا تبدو حقيقة مشكلة الحضارة الإسلامية، وهنا يبدو الموقف الحكيم، الذي وقفه منها ابن خلدون .. فالحضارة الإسلامية في عصر ابن خلدون، لم تكن صور عرض مشكلتها، كما كانت عند السيد جمال الدين الأفغاني ، ولا الشيخ محمد عبده ، ولا الأمير شكيب أرسلان ، ولا الحكيم محمد إقبال ، فهؤلاء وجدوا أمة مغلوبة، ومدنية مضروبة، ودولا زائلة، أو في حكم الزائلة، وأمة تتحرق على ما ترى عند غيرها من مظاهر القوة والسمو، فلا تستطيع أن تبلغ مبلغ الدنو منها، أو الزحف إليها.
أما ابن خلدون فعلى ما أصاب الإسلام قبله من نكبات، أهمها سقوط بغداد ، فإن الأمة لم تزل في الشعور بعظمتها، ودولها.. لم تزل ذات شوكة مخشية، ونسبة غيرها من الدول والأمم منها، لم تكن تبرز شيئا يحس به، مما ينال الأمة الإسلامية في شعورها، ويعقد في نفوسها عقد الشعور بالنقص والهضيمة، إلا أن عبرا من الأحداث يستخلصها الفكر الوقاد، وتلويحات دقيقة تشير إلى المستقبل المنتظر من ارتفاع الوضيع، وانحطاط الرفيع، لا يدرك مغزاها إلا من أوتي ما أوتيه ابن خلدون من بصر نافذ، هـي التي قربت من ذلك النظر القوي الغريب، صور عرض المشكلة، فجلاها لنا بقلمه، قبل يومنا هـذا بنحو من ستة قرون، كما نستجليها نحن الآن، وكما استجلاها عظماء الباحثين في المشكلة [ ص: 29 ] الإسلامية في هـذا العصر، بل لعله استطاع أن يضع يده من بعيد، على مجالي تلك المشكلة، التي لـما نضع نحن أيدينا عليها بصورة تامة واضحة.
لقد تناول ابن خلدون -والكلام ما يزال للشيخ ابن عاشور ، رحمه الله- هـذه القضية، عن طريق الدولة والعمران، فبنى بحثه على ما هـو معروف عند المسلمين، وسبقت به الأخبار النبوية، من انقلاب الخلافة إلى ملك، وقد كان الناس يعتبرون ذلك أصل فساد الدولة الإسلامية، وفساد الرعية تبعا لفساد رعاتها.
فجاء ابن خلدون يرد هـذه النظرية إلى وضع آخر، إذ يجعل فساد الدولة، وانقلاب الخلافة إلى ملك، أمرا عرضيا، ليس من شأنه أن يؤثر في جملة المظاهر العمرانية لدولة الإسلام، بل إن هـناك مطلوبا آخر من العلل، هـو الذي يرجع إليه فساد الدولة، رجوع المسبب لا رجوع السبب.
وأرجع الأمر كله إلى الحق والباطل، وإلى حسن القصد وسوء القصد، بحسب ما يكون بين نفوس الأفراد من عقد وأمانة، وفي سلوكهم من استقامة وإخلاص.
فالذين راعوا الدين، واعتمدوا الحق، لم يضرهم تبدل شكل الدولة من خلافة إلى ملك، ولا أودى بهم ما سلكوا في حكمهم من مسالك السياسة. والذين طغت عليهم نزعاتهم النفسية، فاستعملوا طبيعة الملك في أغراضهم ومقاصدهم، ونسوا ما كان عليه سلفهم من تحرير القصد فيها، واعتماد الحق في مذاهبها، هـم الذين نبذوا الدين وراءهم ظهريا، فتغير [ ص: 30 ] الوازع الديني إلى مقاصد التغلب والقهر، والتقلب في الشهوات والملاذ، وأصبحت العصبية عصبية دولة، لا عصبية دين.
لقد أرجع ابن خلدون الحضارة الإسلامية إلى أصلها أو أساسها، أو بالأوضح إلى روحها، وهو العقيدة الدينية.
والحق أن النظر في مشكلة الحضارة الإسلامية، لو لم يتبع فيه هـذا المنهج الخلدوني، لبقي نظرا حائرا مترددا، لا يكاد يقع على مظهر يتعلق به، ويحسبه أصل المشكلة وسببها، حتى يبدو له مظهر آخر يصده عنه، ويطلب منه له ولأخيه علة من وراء ذلك) (انتهى: انظر روح الحضارة الإسلامية) .
وتأتي أهمية دراسة ابن خلدون، واستيعاب منهجه في التحليل والتعليل للحركة التاريخية، وفق معايير الكتاب والسنة، في هـذه المرحلة بالذات، حيث المسلمون بحاجة أكثر من أي وقت مضى، للعودة إلى الذات، وتحديد مواطن الخلل والقصور، ودراسة أسباب التقصير، واستئناف ما توقف في حياتهم الثقافية، من دراسة السنن المطردة، التي تحكم الحياة والأحياء، والتي احتل الحديث عنها، والشواهد على صدقيتها وثباتها، مساحات تعبيرية كبيرة في القصص القرآني، هـذا العلم الذي توقف على الرغم من فرضية وإلحاح القرآن المستمر على السير في الأرض، والاهتداء إلى قوانين السقوط والنهوض، والاتعاظ وتحقيق الوقاية الحضارية.
وهذا الكتاب الذي نقدمه، هـو إحدى المحاولات الجادة، لإنصاف رمز عظيم من رموزنا الثقافية العملاقة، التي ما تزال الحاجة إلى استردادها [ ص: 31 ] واستيعابها قائمة، لأن أثرها ما يزال ممتدا في حياتنا الفكرية، خاصة وأن معظم معرفتنا بها إنما جاء عن طريق دراسات المبتعثين، تلامذة الحضارة الغربية، ومناهجها، وقيمها.
لقد كان عبد الرحمن ابن خلدون، رحمه الله، ابن ثقافته الإسلامية، وابن عصره تماما، حيث قادته التناقضات، والمدافعات، والاضطرابات السياسية، التي عايشها، إلى التحول من الصورة إلى الحقيقة، من السياسة إلى الثقافة، ودراسة الأسباب، وتعليل الظواهر، للوصول إلى السنن، التي تحكم الحياة والأحياء، وتكمن وراء الحركة التاريخية.
وعلى الرغم مما يمكن أن يتحصل من آثار سلبية للفكر الدفاعي، حيث يصبح العدو هـو المتحكم بساحة التفكير ومجالات النشاط الذهني، بما يطرح من مشكلات، إلا أن الأمر قد يختلف بالنسبة لابن خلدون، أحد الرواد الذين سرقتهم الثقافات الأخرى، حيث ما تزال الحاجة ماسة إسلاميا، للإحاطة بالمنهج الخلدوني للتوغل في التاريخ، ومعرفة العلل، والأسباب، والسنن، التي تحكم الحركة التاريخية، هـذا العلم الذي ما يزال غائبا بالقدر المطلوب، لاكتشاف الإصابة، وتحقيق الوقاية الحضارية، استجابة لقوله تعالى: ( قد خلـت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكـذبين * هذا بيان للنـاس وهـدى وموعظة للمتقين ) (آل عمران: 137-138) .
والله المسدد والهادي إلى سواء السبيل. [ ص: 32 ]