الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

التأصيل الإسلامي لنظريات ابن خلدون

الدكتور / عبد الحليم عويس

تـوطـئـة

لم يسـتطع كـثير من دارسـي العلـوم الإنسانية، في الحضارة الغربيـة - حتى في أرفع المستويات الأكاديمية - أن يلتزموا الموضوعية، والحياد، عند دراستهم للقضايا، والشخصيات الإسلامية.

ولم يكن هـذا الأمر، وقفا على الفكر الاستشراقي، الموجه أصلا لخدمة أهداف استراتيجية مسبقة، بل كان عاما - إلا في القليل النادر - امتد إلى كل مستويات التعامل الفكري!!

ولعل استغلال الأكاديميين الأوروبيين، ثم الأمريكان، لطلبة الدراسات العليا، من المسلمين والعـرب، وتوجيـههم لبحـوثهم - شـاءوا أم أبوا - وجهات خاصة، تتناقض مع الموضوعية، والعلم، فضلا عن تناقضها مع الإسلام...

لعل هـذا الاستغلال، من أبرز المجالات، التي تحتاج إلى رصد، وفحص عميقين، لمعرفة نتائجه، ومعالجة آثاره الاجتماعية، والفكرية، على مجتمعاتنا الإسلامية!!

ولعل ذاكرتنا الإسلامية، لم تنس بعد، خضوع الدكتور منصور فهمي ، المبتعث من مصر إلى جامعة باريس، في عشرينيات القرن العشرين الميلادي، لتوجيهات أستاذه اليهودي المتعصب، وإرساله التهم جزافا للإسلام، ولنبي الإسلام، عليه الصلاة والسلام !!

وبعد فترة من عودته إلى مصر، ومواجهته بالحقائق الموضوعية، عدل منصور فهمي، عن آرائه، وتاب إلى الله منها، واعترف بالضغوط التي تعرض لها. [ ص: 33 ]

وفي العشرينيات - أيضا - قدم الطالب ( طه حسين ) رسالته في باريس، أيضا عن (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية [1] ) وبتوجيه من أستاذه (بول كازنوفات) ، كال (طه حسين) التهم للعلامة (ابن خلدون) ... وحاول تجريده من ريادته، في مجال تأسيس علم الاجتماع، وسفه آراء العرب، والأوروبيين الذين يعطون ابن خلدون هـذا الفضل [2] ، وحصر عبقرية ابن خلدون ، في أنه فصل السياسة عن الأخـلاق، والقـانون، والاعتـبارات الدينـية .. وهو إسـقاط علـماني لا رصيد له في فكر ابن خلدون، العالم المسلم الملتزم!!

وقد رد على طه حسين، كثيرون، ويؤكد الشيخ (محمد الغزالي) وغيره، أن الدكتور طه حسين، قد تاب إلى الله، عن أخطائه كلها، في آخر أيامه، وأنه كان يقضي آخر سنواته، في الإنصات بعمق إلى القرآن الكريم.. إلا أن الظروف المحيطة به، لم تدع له الفرصة، ليعلن انسلاخه، من ماضيه... وليحلل مجموعة الضغوط غير الموضوعية، التي قادته في طريق حياته الشائك، الذي اقتيد إليه!!

وفي باريس - كذلك - (!!) نوقشت رسالة دكتوراه، خلال فبراير 1977م، نشرها صاحبها الدكتور (علي أومليل) - بالعربية - تحت عنوان: (الخطاب التاريخي - دراسة لمنهجية ابن خلدون) [3] حاول فيها - بكل ما [ ص: 34 ] يستطيع من تحليل، وإسقاط فكري - تجريد ابن خلدون من كل أشكال الريادة ... ففي رأيه أن جميع الأحاديث المتصلة بفلسفة التاريخ عند ابن خلدون ، هـي أحاديث في غير موضعها، (وكثيرا ما حاول بعضهم التقريب بين فلسفة التاريخ في المقدمة، وبين الفلسفات التي ظهرت بعدها، في الفكر الغربي، ليخلصوا من ذلك إلى أن ابن خلدون، كان رائدا في هـذا المجال، كما كان رائدا في مجال علم الاجتماع . إلا أن قيام فلسفة التاريخ بمعناها الدقيق، أي الطريقة القصدية في إدراك التاريخ، بصفته معطى موضوعيا، وعنصرا فاعلا، وفي التفكير في مبادئه المحركة، وغائيته، هـي مسألة مرتبطة تاريخيا بتطور الفكر الغربي، وخاصة منذ القرن الثامن عشر) [4] ... فالكاتب ينفي ريادة ابن خلدون لفلسفة التاريخ!!

ولا يكتفي الكـاتب بهذا، بـل يلاحـق ابن خلـدون في علـم الاجتماع... قائلا: (وهناك من يؤكد تأكيدا جازما، أن ابن خلدون هـو مؤسس العلوم الإنسانية، والاجتماعية، وخالق التاريخ العلمي، وعلم الاجتماع، كذلك أصبح من الرائج القول: بأن علم العمران الخلدوني، هـو نفسه السوسيولوجيا (علم الاجتماع) . وهنا أيضا ينبغي أن نذكر بالعلاقة بين ميلاد (السوسيولوجيا) ، بالمعنى المحدد لهذا العلم، في القرن الماضي، وبين الثورة الاجتماعية - التاريخية التي قامت بها الطبقة الوسطى، في الغرب [5] !! [ ص: 35 ]

فالكاتب يتمادى، في ملاحقته لابن خلدون، فينفي عنه ريادته المعترف بها عالميا، في تأسيس علم الاجتماع (السوسيولوجيا) ... وذلك - أيضا - لحساب الحضارة الأوروبية.

وإن تعجب، فاعجب لهؤلاء العرب، والمسلمين، الذين ينسحقون أمام الضغوط الخارجية، ويقبلون أن يجندوا لتشويه حضارتهم، وتجريد رموزها العملاقة، من حقهم في الريادة... في الوقت الذي ينصف فيه العلميون الأوروبيون - بكل قوة ووضوح - هـذه الرموز، ويتحدثون عنها، بكل احترام وتبجيل...

ترى: من نصدق ا هـل نصدق هـؤلاء المقهورين أمام إغراءات الشهادات، والألقاب العلمية، العاجزين عن الارتفاع إلى مستوى الأستاذ الدكتور (محمد ضياء الدين الريس) ، الذي رفض كل الضغوط، وعاد بلا دكتوراه، لينشر رسالته نفسها المرفوضة هـناك، وهي: (النظريات السياسية الإسلامية) ، التي أصبحت - بدون ريب - من أهم ما أصدرته المكتبة الإسلامية، في القرن العشرين، وفرضت نفسها كمرجع أساس على كل الباحثين في الفكر السياسي الإسلامي، وأصبح هـو كذلك من أكبر أساتذة (ودكاترة) جامعة القاهرة!!

من نصدق إذن؟ هـل نصدق هـؤلاء المقهورين الرازحين تحت نير الحاجـة للدكتوراه (... طريقـهم إلى الحـياة والمجـد في بـلادهم ) ، أم نصدق كبار رجال الفكر، في أوروبا، الذين يشيدون برموزنا... ويتعاملون معهم بلغة تليق بالحديث، عن قادة الفكر، ورواد التيارات الحضارية؟! [ ص: 36 ]

وبينما نجد الطلاب العرب، يطعنون في ريادة ابن خلدون، لعلمي تفسير التاريخ، والاجتماع، على النحو الذي ألمحنا إليه، نجد في الوقت نفسه، مؤرخا عملاقا، يعتبر بحق من أكبر مؤرخي القرن العشرين، وهو (أرنولد توينبي) (ت: 1975م) ، يقرر في موسوعته الرائعة: (دراسة للتاريخ ) ، أن ابن خلدون، قد وضع فلسفة للتاريخ، هـي بلا مراء، أعظم عمل من نوعه، ابتدعه عقل في أي مكان، أو زمان.. ويقرر - كذلك - أن ابن خلدون: ( لم يستلهم أحدا من السابقين، ولا يدانيه أحد من معاصريه، بل لم يثر قبس الإلهام، لدى تابعيه، مع أنه في مقدمته للتاريخ العالمي، قد تصور وصاغ فلسفة للتاريخ، تعد بلا شك أعظم عمل من نوعه) .

وأما المؤرخ العـالمي المعـروف (روبـرت فلنـت ) ، فيقـول عن ابن خلدون: (إنه لا العالم الكلاسيكي، ولا المسيحي الوسيط، قد أنجب مثيلا في فلسفة التاريخ (. .. ) .. وليس له كباحث نظري مثيل، في أي عصر، أو قطر، حتى ظهر (فيكو) ، بعده بثـلاثة قـرون ... لم يكن أفلاطون، أو أرسطو، أو سان أوغسطين، أندادا له، ولا يستحق غيرهم، أن يذكر إلى جانبه) ... فمن نصدق يا ترى؟

أنصدق كبار الفلاسفة، والمؤرخين، وأساتذة الاجتماع، وفلسفة التاريخ والحضارة؟.. أم نصدق طلاب الدراسات العليا، الموجهين من أساتذتهم في الجامعات الفرنسية، والخاضعين لظروف غير موضوعية؟!!

إنني أنتهز هـذه الفرصة، لأدعو الجامعات العربية، والإسلامية، [ ص: 37 ] والباحثين المنتمين إلى حضارة هـذه الأمة، لرصد تلك الأطروحات، والبحوث، التي قدمت للجامعات الأوروبية، والأمريكية، في المجالات الإنسانية، وتعرضت لتوجيهات غير علمية... ومن ثم فحصها، وتقويم مصادرها، غير الأصلية، ومناهجها غير الموضوعية .. بل أدعو الباحثين أنفسهم، إلى مراجعة ما كتبوه في هـذه الظروف !!

لقد كان عبدالرحمن بن خلدون -بحق- نبتة طبيعية للثوابت الإسلامية، الأساس، وكان وهو يصارع في المجالات السياسية، يعيش قلقا، وتوترا دائمين، ولم يجد ذاته إلا عندما قفز من فوق ضغوط الواقع، وأساليب السياسة، واعتكف في قلعة سلامة، منصهرا في تراث أمته، وتجربتها الحضارية، ولو بقي ابن خلدون في المعترك السياسي، لما أبدع شيئا ولما عرفه الناس...

ولم يتجاوز ابن خلدون أي منطلق تراثي -على الرغم من إبداعه وتجديده- بل كان مثل أبي محمد علي بن حزم الأندلسي (ت: 456) ، صاحب نظريات: (كروية الأرض، نقلا، وعقلا) ، و (الحب العذري) ، و (نظريات المعرفة) ، و (الجزيء الذي يتجزأ أبدا) ، و (الفقيه الظاهري) ، والموسـوعي في (مقـارنة الأديـان) ، و (الأصول) ... بل كان إبداعهما -وغيرهما- من خلال التراث ... أي من خندق القرآن الكريم والسنة، اللذين هـما الطريق الصحيح الموصل للإبداع الإيجابي الحقيقي الواعي بالذات...

وعبثا، حاول الدكتور (علي أومليل) ، أن يقنعنا بأن ابن خلدون قد رفض (الإسناد) منهجا للتاريخ، وأنه بهذا قد خرج عن تقليد متداول [ ص: 38 ] منذ قرون [6] ... فالصواب غير ذلك .. ذلك أن ابن خلدون شأنه شأن كل المؤرخين المسلمين، يدرك أن الإسناد هـو خصوصية الأمة الإسلامية، التي ترتفع به عن كل الحضارات... ومن هـنا كان احترام ابن خلدون للطبري -كما اعترف (أومليل) [7] - لكن ابن خلدون أضاف إلى الإسناد، فيما يتعلق بالوقائع التاريخية، قواعد منهج النقد التاريخي، التي يمكن أن نلخصها في عبارة المحدثين المعروفة: (نقد المتن) ، أو (الدراية) (المكملة للرواية) ...

وشتان بين الإضافة والإلغاء ... ولا سيما وأن الإضافة -أيضا- مستمدة من التراث نفسه!!

والحقيقة أننا ونحن بصدد الحديث عن ابن خلدون، نجد أنفسنا أمام منحدر آخر، سقط فيه الباحثون الخاضعون للمناهج الأوروبيـة، إما تحت ضغوط، أو تقليد أعمى... ذلك أنهم لا يتصورون أن الإبداع يمكن أن يقع من داخل الخندق الإسلامي، والثوابت الإسلامية... إن التجربة الأوروبية الإلحادية، القائمة على الصراع ضد الكنيسة، وعلى التصور اللاهوتي الانعزالي للدين، ضاغطة عليهم، وهم -بالتالي- لا يتصورون أن طبيعة ديننا، ونسقنا الحضاري مختلفان جذريا عن النمط الحضاري المادي، والعقيدة اللاهوتية... وأن الوحي يتكامل مع العقل، في حضارتنا .. ومن هـنا فإن كل أطبائنا وفلكيينا، ومهندسينا، وفلاسفتنا [ ص: 39 ] المبدعين، ومخترعينا، ومنظرينا، كانوا ممثلين حقيقيين لثوابتنا، ولتصورنا للكون، والإنسان والحياة... إنهم حملوا المعالم وانطلقوا، فأعطوا وأبدعوا... وتجاوبت معهم الأمة .. وبقيت بصماتهم قوية في الحضارتين الإسلامية والإنسانية!!

وابن خلدون، يمثل واحدا من هـؤلاء العباقرة.. وكل محاولة لتوجيه فكره ماديا، أو علمانيا، أو ثوريا ضد التراث، هـي محاولة ساذجة، تمثل إسقاطا أيديولوجيا منحرفا، وهي تصور مذاهب أصحابها، وعصورهم، ولا تعبر عن فكر ابن خلدون... ومع ذلك فإن ابن خلدون، وأمثاله من عباقرة حضارتنا، سبقوا عصورهم، وقدموا فكرا قادرا على محاورة كل العصور، وإلهامها... لسبب جوهري، هـو أنهم استمدوا فكرهم من مصادر الإسلام الحية، الباقية، القادرة على التأثير دوما، (كأن عهدها بالوجود أمس) ، لأن بنيتها الفكرية جاءت لتكون صالحة لكل زمان ومكان...

إننا -لهذا- نرفض كل محاولات تحجيم أثر ابن خلدون أو غيره من أسلافنا العباقرة، بدعوى أن ذلك (خلط بين نظم الفكر المحدد بالتاريخ، والمنطق الخاص بكل ثقافة) [8] ، ونحن نؤمن بأن أثر عباقرتنا، أثر عالمي، يعرفه الدارسون المنصفون، ويعرفون كذلك قنواته المكانية والزمانية والعلمية... [ ص: 40 ]

إن النص التالي الذي يقدمه (محمد عابد الجابري) ، حول (ما تبقى من الخلدونية) ، يعد بحق دليلا من الأدلة القوية، على انسياب الأثر الخلدوني، عبر القرون حتى عصرنا الحديث:

( إن الستة قرون الماضية التي تفصلنا عن ابن خلدون، لا تشكل حاجزا بيننا وبين مقدمته... بل لعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إن (المقدمة) تكاد تكون المؤلف العربي الوحيد، الذي نحس عند مطالعته بأنه يتحدث فعلا إلينا، وبأنه فعلا منا وإلينا، وبالتالي نشعر بأنه أكثر معاصرة منا لأنفسنا وواقعنا... وبعبارة أخرى، إننا عندما نقرأ (المقدمة) نشعر بأننا نقرأ ما لم نكتبه بعد، ونسمع فعلا ما لم نقله بعد) [9] ...

إن قوانين ابن خلدون، وإن كانت مستقاة من ثقافته الخاصة، ووعيه التاريخي، وتجاربه، والإطار الذي استطاع أن يمتد إليه، إلا أنها ككل النظريات والقوانين، تمتد لتكون قابلة للتكرار، عبر الزمان والمكان، وبدون هـذا الامتداد تفقد كل إشعاعاتها، ويفقد صاحبها أثره في التاريخ.

ومن الغريب أننا نواجه -في مرحلتنا الراهنة- حربا على هـذه المسلمات والبديهيات. ومن الأغرب أن هـذه الحرب يقودها بعض المحسوبين على حضارتنا وديننا، الذين وقعوا تحت ظروف ضاغطة وعجزوا عن الصمود، والاستجابة الملائمة للتحدي على النحو الذي قدمه محمد إقبال، [ ص: 41 ] وعبد العزيز جاويش [10] ، ومالك بن نبي، ومحمد ضياء الدين الريس، وغيرهم من الذين فقهوا شروط النهضة، وقوانين التفـاعل الحضاري .. بل انسحقوا، وباعوا أنفسهم، وضمائرهم.

ونحن في الحقيقة، نواجه مأزقا حقيقيا، حيث يعمد الاستعمار ومؤسساته إلى تقديم هـؤلاء المنهزمين، على أنهم من الممثلين للفكر الإسلامي.. وهم -في الحقيقة- رجال من رجاله، يقفون في خندقه، يمجدون حضارته، ويشوهون حضارة أمتهم، ويريدون لو استطاعوا، أن يفرضوا الحضارة الأوروبية بكل سلبياتها، على البشرية كلها، بدعوى أنه لا طريق في الحاضر ولا المستقبل غيرها... وهو أمر خطير، لم يقله المفكرون الأوروبيون المنصفون أنفسهم... إنهم ملكيون أكثر من الملك، وأوروبيون أكثر من الأوروبيين...!!

وهذا الكتاب، محاولة لإنصاف رمز عظيم من رموزنا العملاقة، وإنقاذه من ظلم الإسقاطات المادية والعلمانية والقومية اللادينية!! [ ص: 42 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية