ابن خلـدون نبتة حضارته .. وليس ثمرة عصره فقط!!
كان عبد الرحمن بن خلـدون ( 732 - 808هـ ) ( 1332م - 1406م) ، شخصية غير متوقعة، بالنسبة لعصره، ذلك العصر الذي بلغ تفكك العالم الإسلامي فيه مبلغه بين دويلات طائفية، بعد أن كانت دولة الموحدين، قد سقطت في المغرب، والأندلس، في منتصف القرن السابع الهجري، وحوصر المسلمون في غرناطة، ووادي آش، فيما يعرف باسم دولة بني الأحمر في غرناطة، أو مملكة بني نصر الغرناطية (630 - 897هـ) ، بينما سقطت الوحدة المغربية، فانقسم المغرب إلى دويلات صغيرة على رأسها دولة بني مرين، التي قامت في المغرب الأقصى رسميا سنة 668هـ ، ودولة بني زيان الزناتية (عبد الواد) التي قامت في المغرب الأوسط (الجزائر) سنة 733هـ على يد يغمراسن بن زيان، ودولة بني حفص في المغرب الأدنى (تونس) التي أسسها أبوحفص زعيم هـنتانة، وأعلن استقلالها عن الموحدين حفيده أبوزكريا سنة (724هـ - 1323م) .
كان المناخ السياسي في المغرب مضطربا بدرجة كبيرة، فكانت الفتن كثيرة الوقوع بين الدويلات الطائفية، بل كثيرة الوقوع بين أبناء البيت الواحد في الدولة الواحدة، ولا ننسى أن هـذه الدويلات قامت على أكتاف خيانة الموحدين، وكما عانت دولة بني عبد الواد الزناتية من المصائب والويلات من بني حفص جارتهم التونسية، فكذلك عانى الحفصيون وبنو عبد الواد من نزعة بني مرين المستمرة للسيطرة على المغرب كله، وقد نجحوا فعلا في أواخر عهد السلطان أبي الحسن الذي [ ص: 43 ] تولى عرش فاس سنة 731، في انتزاع أجزاء كبيرة من الدولتين السابقتين!! وبالجملة فقد كانت كل واحدة من هـذه الدول عدوة لجارتها المباشرة، حليفة للتي بعدها، مما جعلها تعيش في حروب لا تقف ولاتهدأ. وقد بقي الصراع بعد انقراض الموحدين، قائما على أشده بين المرينيين وبني عبد الواد من جهة، وبين هـؤلاء والحفصيين من جهة أخرى. وقد قوى هـذا الصراع، وزاد من تفاقم الأوضاع، قيام إمارات في كل من بجاية وقسنطينة، واستقلال القبائل الكبرى، وعدم استقرار ولائها لهذا الجانب أو ذاك [1] ففي هـذه الظروف السيئة، نشأ وعاش ابن خلدون، المولود في مدينة تونس، في غرة رمضان 732هـ ، في عائلة نبيلة تباهي بنسبها العربي، الذي يرجع إلى أصل يمني حضرمي، وبنسبها الإسلامي الذي يرجع إلى وائل بن حجر الصحابي المعروف، الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم ، بالبركة يوم وفد عليه في عام الوفود، معلنا إسلامه، كما تفاخر بتاريخها السياسي والاجتماعي في كل من إشبيلية وتونس.
وكانت الأسرة الخلدونية -لتاريخها- مندفعة للدخول في حمأة هـذه الصراعات، كما كانت شخصية ابن خلدون -بالإضافة لتاريخ أسرته، وظروف عصره- دافعا قويا لدخول هـذا المعترك.
وفي مثل هـذه الظروف السياسية القاسية، في المغرب والأندلس، سيطرت المناهج التربويـة الخاضعـة للمنهج التقليـدي، الذي لا يسـمح إلا قليـلا بالابتـكار والإبـداع، وحسب هـذه الطريقـة، التي بسـطها [ ص: 44 ] ابن خلدون في سيرته الذاتية، التي كتبها لنفسه، أن تحقق الانتماء إلى الإسلام والحضارة الإسلامية والعربية.
فعندما بلغ عبد الرحمن سن التعلم، بدأ بحفظ القرآن وتجويده، حسب المنهج الذي كان متبعا حينئذ في كثير من البلاد الإسلامية، وكانت المساجد حينئذ أهم مواطن التعليم. ففيها كان يحفظ القرآن ويجوده بالقراءات على حفظته ومجوديه، وفيها كان يتلقى العلم على المشيخة. ولا يزال أهل تونس يعرفون إلى الآن، المسجد الذي كان يختلف إليه ابن خلدون في فاتحة دراسته، ويعرف بمسجد القبة [2] ، وقد درس ابن خلدون العلوم الشرعية، من تفسير، وحديث، وفقه، على المذهب المالكي، وأصول، وتوحيد، والعلوم اللسانية، من لغة، ونحو، وصرف، وأدب، ثم درس المنطق والفلسفة، والعلوم الطبيعية، والرياضيات.
وكان ابن خلدون وفيا لأساتذته بدءا من والده (معلمه الأول) ، ففصل الحديث في ترجمته لنفسه، في كتابه: (التعريف بابن خلدون، ورحلته غربا وشرقا) عن حياة كل منهم، وعن الفروع التي تعلمها على أيديهم، وحدد الكتب التي درسها عليهم، كاللامية في القراءات، والرائية في رسم المصحف للشاطبي، والتسهيل في النحو لابن مالك، والمعلقات، وبعض شعر أبي تمام والمتنبي، وصحيح مسلم، وموطأ مالك، وعلوم الحديث لابن الصلاح، والتهذيب للبرادعي، ومختصر المدونة [ ص: 45 ] لسحنون في الفقه المالكي، ومختصري ابن الحاجب في الفقه والأصول [3] ، وغيرها من الكتب.
لكن المهم في الأمر، أن عقل ابن خلدون، كان يتحرك من خلال هـذه الدراسات، مسـتوعبا وناقدا، ومستنبطا للخصائص الكلية، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إن قراءة ابن خلدون لكتاب مثل (الأغاني) ، وحفظه لكثير من أشعاره، قد أحدث رد فعل عنده، على خلاف ردود الأفعال، التي تكون عند الآخرين.. لقد تعامل مع الكتاب، على أنه كتاب أدب، فاستعان به بطريقة انتقائية، فأخذ منه ما يخدم المنهج التاريخي السليم، وتقبله وقائع العمران، ورفض ما سوى ذلك، بدليل أن تصوير صاحب الأغاني للحياة السـياسـية والاجتـماعية في العصـر الأموي، يختلـف تمـاما عن تصـوير ابن خلدون.
وهذه القدرة النقدية في مواجهة كتاب الأغاني، والتي مكنت ابن خلدون من رفض كثير من آراء الأصفهاني، وإنصاف الدولتين الأموية والعباسية، سياسيا واجتماعيا، لم يستطع أن يفهمها الدكتور طه حسين، فأنكر اطلاع ابن خلدون على كتاب (الأغاني) ، ووقع بذلك في سقطة شنيعة، من سقطاته الكثيرة، التي احتشدت بها رسالته بالفرنسية عن (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية) ، التي كانت مجرد جمع تلفيقي لمثالب خيالية ضد ابن خلدون، أراد بها طه حسين ممالأة أساتذته الفرنسيين، وتشويه العملاق الأصيل، عبد الرحمن بن خلدون.
وكما يقول أستاذنا الدكتور على عبد الواحد وافي، رحمه الله، فإن [ ص: 46 ] (ابن خلدون) لم يقرأ كتاب (الأغاني) فحسب، بل حفظ كثيرا من أشعاره، ونقل كثيرا من نصوصه في المقدمة، وفي العبر، بل لخص في مقدمته نفسها موضوع هـذا الكتاب ومسائله وطريقته، ونقل عنه عبارات بنفسها، ومدحه ككتاب أدب ولغة [4] ، ولكنه رفضه ككتاب تاريخ بصفة إجمالية.
كان ابن خلدون ابن الثقافة الإسلامية الشرعية اللغوية، وكان عميقا في قراءته للقرآن، واعتماده عليه، وانطلاقه منه، وقد حرص وهو يبسط نظرية العمران، على تدعيم كلامه بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والمأثور عن الصحابة، أو التابعين، ومن ناحية أخرى، حرص على أن يختم كل فصل من فصول المقدمة بآية قرآنية أو أكثر، أو بحديث نبوي، أو ابتهال إلى الله، وقد تتبع أستاذنا الدكتور مصطفى الشكعة نهايات فصول المقدمة، وأورد المأثورات التي وردت فيها [5] .وهذا يدل على جذور ثقافة ابن خلدون وأفكاره، لكن هـذا لا يعني أن ابن خلـدون كان ابن بيئـته، وحصاد مجتمعه، الـذي عاش فيه [6] [ ص: 47 ]
لقد كان عصره عصر تقليد وجمود، لكن ابن خلدون أحسن القفز إلى المصادر الأصلية، بعيدا عن ضغط الواقع الجامد، وعن وطأة اللحظة التاريخية بكل أثقالها السياسية والاجتماعية والثقافية، وأحسن الاتصال المباشر بالقيم والأفكار الدائمة الحياة في القرآن، والسيرة، والسنة، وعصور الألق، والازدهار، والتجارب الوضيئة والمستمرة -بدرجة ما- في كل العصور.
والحق أننا بدون تصور هـذا القفز بعيدا عن ضغط الواقع، والاتصال المباشر بمصادر الإسلام، والتجارب التي تمثل حقائقه، وتنطلق منها، لا نجد تفسيرا صحيحا، لظهور عباقرة الإسلام، ومجددي حقائقه في النفوس، أفرادا كانوا أو جماعات.
وهكذا فإن ابن خلـدون لم يـكن رجـلا يستسلم للفكر الساكن، أو للواقع الجامد، كما لم يكن رجلا يقف متفلسفا أمام الوقائع، أو مسجلا لها وحسب، بل كان رجلا من صناع التاريخ، يغوص فيه، مهما كانت الأوحال والأخطاء، ويتقلب يمينا ويسارا، لعله يجد ضالته، تماما كما كان سلفه العظيم (علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، المتوفى سنة 456هـ) ، يتقلب بين ملوك الطوائف، لعله يجد فيهم راشدا، أو لعله يستطيع أن ينفخ في جذوة الدولة الأموية الأندلسية المنطفئة. وقد ذاق الرجلان السجن والتشريد، ويئسا من الناس، ومـالا إلى العزلة.. هـذا في ( منت ليشم ) قريبا من لبلة بغرب الأندلس، وصاحبنا ابن خلدون في قلعة بني سلامة، قريبا من فرندة بولاية وهران (ولاية تاهرت في التنظيم الحديث بالجمهورية الجزائرية) !!
فكلاهما كان في توتره وتفاعله، وفي تعامله الثقافي، حتى مع اللامية والرائية، والمدونة، وشرح المدونة، عقلا كبيرا قادرا على التفاعل [ ص: 48 ] الخلاق، ليس بالثورة، ولا بالخيانة للتراث، ولا بالاستعلاء عليه، ولا برميه بالماضوية، والجمود، والتاريخية الجامدة، ولكن ببعث الروح فيه، والانطلاق من قاعدته، كما ينطلق الصاروخ إلى الآفاق، من قاعدة صلبة مثبتة بالأرض!!
لا يمكن لأي باحث في سيرة ابن خلدون، أن يتجاهل سنة (749هـ) التي تمثل السنة السابعة عشرة من عمره، ففيها حدث الطاعون الجارف، الذي عم العالم الإسلامي من سمرقند إلى الأندلس، والذي سماه ابن خلدون: (الفناء الكبير) ، أو (الطاعون الجارف) ، وفيه هـلك أبواه، وأكثر من كان يأخذ عنهم العلم من مشيخته.. وعكف ابن خلدون على طلب العلم، حتى استدعاه بعد ثلاث سنوات، الوزير أبو محمد بن فزاكين، المستبد، بتونس، لكتابة العلامة عن سلطانه أبي إسحاق [7] ، أي وضع عبارة: (الحمد لله، والشكر لله) ، والديباجة في المخاطبات الرسمية.
وفي سنة 755هـ ، وقيل 756، استدعاه إلى فاس [8] ، السلطان أبو عنان المريني -بعد سعي ابن خلدون- فأمضى هـناك تسع سنوات مستمرا في عمله، ضمن الكتاب والموقعين، وهو عمل رأى ابن خلدون نفسه فوقه، فعمل على الانشغال بتثقيف نفسه، متعرضا للاتهامات بالتآمر، ودخول السجن بين الحين والحين، والتقلب في المواقع المختلفة.
ويقول ابن خلدون عن هـذه الفترة: (وعاد السلطان أبو عنان إلى فاس، وجمع أهل العلم للتحليق بمجلسه، وجرى ذكري عنده، وهو ينتقي طلبة العلم للمذاكرة في ذلك المجلس، فأخبره الذين لقيتهم [ ص: 49 ] بتونس عني، ووصفوني له، فكتب إلى الحاجب يستقدمني، فقدمت عليه، سنة خمس وخمسين، ونظمـني في أهـل مجلسـه العلـمي، وألزمـني شـهود الصلـوات معـه، ثم استعملني في كتابته، والتوقيع بين يديه، على كره مني، إذ كنت لم أعهد مثله لسلفي، وعكفت على النظر والقراءة، ولقاء المشيخة من أهل المغرب، ومن أهل الأندلس، الوافدين في غرض السفارة، وحصلت على الإفادة منهم على البغية) [9] ( ولهذا وطد ابن خلدون العزم على خوض غمار الدسائس السياسية، ليحقق مطامحه وآماله، فلم تمض سوى سنتين على التحاق ابن خلدون ببلاط السلطان أبي عنان المريني، حتى تآمر عليه هـو والأمير أبو عبد الرحمن محمد الحفصي صاحب بجاية المخلوع، وكان أسيرا بفاس، فاتفق ابن خلدون مع هـذا الأمير المخلوع على تدبير مؤامرة لتحريره، واسترداد ملكه، على أن يوليه منصب الحجابة، متى تم له الأمر، فبلغ أبا عنان خبر هـذه المؤامرة فقبض على ابن خلـدون، وعلى الأمير المخلـوع، وأودعهما سجنه، وذلك سـنة 758هـ) [10] وبين سنتي 764 و766 كان اليأس قد دب إلى نفس ابن خلدون، من المعترك السياسي في المغرب، فرحل إلى الأندلس، متوجها أولا إلى السلطان أبي عبد الله محمد بن يوسف بن نصر، ثالث ملوك بني الأحمر، وباني مسجد الحمراء في غرناطة، ومكلفا ثانيا من السلطان نفسه، بالسفارة عنه إلى (بدرو) ، الطاغية ملك قشتالة، فارتحل إلى إشبيلية ولقي الطاغية، وأبرم الصلح، وعاين آثار أجداده بإشبيلية، [ ص: 50 ] وعرض عليه الطاغية الإقامة عنده، وأن يرد عليه تراث آبائه بإشبيلية فاعتذر. [11] ( وقد طابت الحياة له في الأندلس، واستقدم أهله، وهيأ لهم جميع أسباب الراحة، إلا أن أمد هـذه السعادة لم يطل، إذ يبدو أن ابن الخطيب قد داخلته الغيرة بسبب الحظوة التي نالها ابن خلدون عند السلطان، فأخذ يسعى به لدى السلطان ابن الأحمر، حتى تكدر صفو العلاقات بينهما، وحدثت الجفوة بين الرجلين، فأدرك ابن خلدون أنه لم يبق له مقام في الأندلس، وأن لا مناص من الرحيل عنها) [12] ولعشر سنوات تالية (766-776) ، انغمس ابن خلدون في الحياة السياسية، متقلبا في أتون الفتن، التي وقعت بين أصحاب بجاية، وقسنطينة، وتلمسان، من بني مرين، وبني زيان، وقد راودته نفسه غير مرة بالاعتزال، فاعتزل ببسكرة طورا، وبرباط الشيخ الولي أبي مرين طورا آخر، وبفاس طورا ثالثا، وأعتقد أن هـذه السنوات كانت من أسوأ فترات حياة ابن خلدون.
( ولم تكن تنتهي هـذه السنوات العشر، حتى وجد ابن خلدون، أن الأبواب قد سدت في وجهه، وأصبح موضع ريبة جميع أمراء المغرب، [ ص: 51 ] فخلف أسرته بفاس، وجاز إلى الأندلس ثانية، في ربيع سنة 776هـ ، لينزل ضيفا على سلطان غرناطة ابن الأحمر، لكن بلاط فاس توجس خيفة من إقامته في الأندلس، وخشي من دسائسه، فمنع عائلته من الالتحاق به، وفاوض سلطان غرناطة بتسليمه، فأبى تسليمه إليهم، فطلبوا إليه إبعاده إلى تلمسان، فأجابهم لذلك.) [13] وكان هـذا السلوك ثمرة من ثمرات هـذه التجارب السياسية المرة التي وضع ابن خلدون نفسه فيها [14] وعندما عاد ابن خلدون إلى المغرب بعد رحلة فاشلة إلى الأندلس، حاول أمراء المغرب المتحاربون تسخيره لخدمتهم. لكنه كان قد اتخذ قرارا باعتزال هـذه الفتن كلها، ولهذا لجأ إلى أحياء أولاد عريف في قلعة (جبل كزول) ، فأنزلوه بعد أن استقدموا له أهله من تلمسان، في قلعة ابن سلامة، الواقعة قريبا من فرندة، وقريبا من تاهرت في الجزائر (المغرب الأوسط) ، وفي هـذه القلعة أقام ابن خلدون أربع سنوات كتب المقدمة في خمسة أشهر منها، خلال سنة 779ه، (متخليا عن الشواغل كلها، وشرعت في تأليف هـذا الكتاب، وأنا مقيم بها، وأكملت المقدمة منه على هـذا النحو الغريب، الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة، فسالت فيها شآبيب الكلام، والمعاني، على الفكر، حتى امتخضت زبدتها، وتألفت نتائجها [15] ) .. ومن ثم بدأ ابن خلدون في كتابة تاريخه الموسوم بكتاب [ ص: 52 ] العبر، وديوان المبتدأ والخبر في ديوان العرب والعجم والبربر، معتمدا على الكثير من حفظه وعلى قوة ذاكرته) [16] لكن ابن خلدون اكتشف أن مشروعه الفكري من العمق والسعة، بحيث لا يصلح معه هـذا الاعتزال، وما يقتضيه من ابتعاد عن مصادر المعرفة والمعلومات، ولهذا رأى من الضروري أن يعمل على العودة إلى تونس، ليستعين بما في خزائن آثارها من مخطوطات وكتب، على إتمام مشروعه، وقد مهد لتلك العودة بالكتابة إلى السلطان أبي العباس، ملتمسا منه أن يسمح له بالعودة، وأن يعفو عنه، فتحقق له ما أراد.
وفي أواسط سنة 780هـ رجع ابن خلدون إلى تونس، راغبا في اعتزال المناصب، والعكوف على مشروعه العلمي، لكن خصومه لم يتركوه، فسرعان ما كثرت ضده الوشايات، يقودها الفقيه المعـروف محمد ابن عرفة، ومع أنها لم تنجح، لثبات السلطان أبي العباس على حمايته، وأمره له بالإكباب على تأليف كتاب العبر [17] ، إلا أن ابن خلدون، بعد أن أمضى أربع سنوات في تونس، سئم مكابدة الأحقاد، فتوسل إلى السلطان في تخليـة سـبيله، لقضـاء فريضـة الحـج، حـتى أذن لـه، فـركـب البحـر إلى الإسـكندرية فوصـلها في شـوال 784هـ ، وودع المغرب والأندلس إلى غير رجعة.
وفي الفترة المصرية التي امتدت حوالي ربع قرن، تألق عبد الرحمن ابن خلدون، وأعاد تنقيح (المقدمة) و (العبر) ، في ظلال القاهرة، التي كانت يومئذ (خضرة الدنيا) ، (وبستان العلم) ، (ومحشر الأمم) ، [ ص: 53 ] (ومدرج الذر من البشر) ، (وإيوان الإسلام) ، (وكرسي الملك) [18] ، فدرس بأزهرها [19] ، يـوم كان أزهـر الدنيا، الذي يجله العالم الإسـلامي كله، ولا يتجاسر على النيل منه أحد! ثم تولى التدريس في مدرسة القمحية [20] ، التي كانت بجوار جامع عمرو بن العاص، ثم قضاء المالكية بمجلس الحكم بالمدرسة الصالحية [21] ، ملتزما بشريعة الله، محاربا الفساد، الذي كان من قدر مصر، في ذلك العصر، وكان قدرها في عهود أخرى كثيرة، عرفناها من كتب التاريخ. ومع ذلك فلم تسكت حوادث الدهر عن ابن خلدون، ففجعته في أولاده جميعا، فقد غرقت السفينة التي قدموا فيها من تونس، فمات أهله وولده، (وذهب الموجود والسكن والمولود، فعظم المصاب، والجزع، ورجح الزهد) [22] ، وطلب الإعفاء من منصبه، وعزم على الحج، وقضى فريضته، وذهب لزيارة بيت المقدس سنة 802هـ ، والتقى بتيمورلنك سنة 803هـ في دمشق، ثم عاد إلى القاهرة، فأعيد إلى منصبه للقضاء على مذهب المالكية، وظل يتقلب فيه بين تولية وعزل [23] ، حتى لقي الله (غفر الله له) في الخامس والعشرين من رمضان سنة808هـ . [ ص: 54 ]
هذه الحياة القلقة المتوترة، في هـذه الظروف السياسية والقبلية المعقدة، لم تكن قادرة - بحد ذاتها - على إفراز رجل من طراز عبدالرحمن بن خلدون، لو لم يكن هـناك ما يقف ابن خلدون فوقه، غير هـذه الأرضية الهشة، وهذا الواقع العفن المظلم.. ولم يكن هـذا الذي وقف ابن خلدون فوقه، غير هـذه الحضارة الإسلامية، وتراثها العظيم، وأصولها الثابتة القوية.
هذا الرجل الكبير، صاحب هـذا العقل الموسوعي، الرجل الذي ينغمس في الأحداث، لكنه يبقى وثيق الصلة بالفكر والتراث، يحلم بلحظة الاعتزال ليبحث -لمغربه وأمته- عن حل جذري، يمتد إلى أعماق الرؤية الحضارية، ويتجاوز اللعبة السياسية الظاهرة.
هذا الرجل، كان يخترق تراثه، ويعرف إمكانات أمته الحضارية في الانبعاث، ويدرك أن الواقع نتاج خطأ في الرؤية، وفقر في الفكر، وضباب في الوعي الحضاري.
لقد كان ابن خلدون، قد يئس من الإصلاح عن طريق السياسة، ولعله وهو يحقق طموحه المشروع، المنطلق من شعوره بفوقيته وعبقريته، كان يحاول، وهو يتقلب في المناصب، أن يجد مكانا ملائما، يستطيع التغيير من خلاله، لكنه وجد هـذا الطريق السياسي مغلقا، فالحكام المتصارعون (الطائفيون) ، في المغرب والأندلس، ينظرون إلى أي منصب في دولهم الطائفية، حتى ولو كان منصب الحاجب (أو رئيس الوزراء) ، على أنه منصب تنفيذي، وعلى صاحبه أن يكون مترجما لهوى الحاكم، [ ص: 55 ] وأن لايحاول أن يكون عقلا مستقلا، يضاف إلى عقل الحاكم، بل عليه أن يكون - لكي يبقى وينجـح - جزءا من عقـل الحـاكم، يبرر له ما يريده، أو شارحا للمتن، الذي يمليه عليه الحاكم المعصوم!! وقد لا تكون شخصية (الحاجب) ، أو (الوزير) ، ملغاة تماما، لكن من المؤكد أن القرارات الكبرى، التي تتصل بالسيادة والحفاظ على (الدولة) ، وطموحات صاحبها، تبقى في فترة كالتي عاش فيها ابن خلدون، غير قابلة للاجتهاد، أو التعدد في الرأي، وبالتالي فأقصى ما يستطيعه السياسي التنفيذي من تغيير، يبقى في مستوى الجزئيات المعاشية الاجتماعية، والاقتصادية، وليس في البناء العام! كان الإصلاح عن طريق الفكر هـو المتاح، بل والمطلوب، حتى ولو تأخر الزمان بعض الوقت، فذلك خير من الاستسلام اليائس، وكان ابن خلدون مدركا أن هـذا هـو حصاد تراكمات سياسية، ونفسية، وعقلية، سيطرت على المغرب والأندلس، بعد سقوط الموحدين في موقعة الأرك (609هـ) ، وظهور الدول الوارثة المتطاحنة في المغرب، وسقوط المدن الأندلسية، وانحسار الإسلام في الأندلس، في غرناطة ووادي آش تحت إمرة بني نصر القحطانيين. إن هـذا الواقع المريض لم يكن يملك الدواء، لكنه كان يملك عوامل الإثارة التي تدفع الطبيب للبحث عن الدواء. كان ثقل الواقع السياسي والمعاشي، وما يكتنفه من أمراض وعوارض قدرية من الله (كالطاعون الأسود) ، أو الخلافات السياسية القبلية، التي أفرزها خروج قطار المجتمع عن قضبانه الصحيحة. [ ص: 56 ]
كان هـذا الواقع بأوزاره، يقوم بعملية الشحن الكبيرة، لابن خلدون، وبخاصة أنه عاش هـذا الواقع في أسوأ مستوياته، في المستوى السياسي العفن، وكان تراث ابن خلدون الموسوعي، ورصيده في الفقه الحضاري الإسلامي، والوعي التاريخي، يشدانه إلى العكوف على تقعيد وسائل الخروج من هـذا الواقع.. إنه فقيه ومفتي، وهذا يقتضي استيعابه الكبير للمعطيات القرآنية، التي قدمت رصيدا كبيرا، لأحوال الأمم السابقة، صعودا وانكسارا.
ويقتضي استيعابه للسيرة النبوية الشريفة، والنموذج الأعلى، الذي قدمه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته في دولة المدينة الراشدة، ثم تجارب الأمويين والعباسيين السياسية والحضارية، كما أن ثقافته الشرعية تقتضي إلماما كبيرا بأصول الفقه، وهو علم المنطق الإسلامي.
كل هـذه العناصر المكونة لثقافته، لا يمكن إغفال نصيبها في فكره وفي إبداعه، لا سيما وأنه ظل موصولا بها، ولم ينقطع عنها، أو يعلن ثورته عليها، بل بقي يتقلب في مناصب القضاء، والإفتاء على الفقه المالكي، حتى أواخر أيام حياته في القاهرة!
( لم يكن محيط ابن خلدون -الذي هـو الواقع- عاجزا عجزا كليا، بحيث إنه لم يجد في هـذا المحيط أي تراث منهجي، أو مفهومي، يسعفه في تسمية وتحليل الواقع الماثل أمامه) [24] .. فهذا الخلاء أو (الفراغ) [ ص: 57 ] الكامل، غير ممكن في واقع ينتمي إلى حضارة عظيمة، ذات مصادر ثابتة حاضرة دائما كالحضارة الإسلامية!
إن سيادة الفوضى، وضعف الفاعلية، وغياب العقل، وسطحية الارتباط بالمصادر لدى العامة والصفوة، هـي العوامل التي تشل الواقع، وتجهض محاولات بعثه، حتى ولو كان المجتمع مكدسا بالتراث الثري، والمفاهيم الفاعلة.
إن (الإرسال) موجود وقوي، لكن (الاستقبال) ضعيف وراكد!!
وكانت أكبر المعيقات، التي يواجهها ابن خلدون، تتمثل في ضغط هـذا الواقع، وكان في حاجة ماسة إلى الفرصة التي يستطيع فيها الخروج من هـذا الواقع وتجاوزه، وبالتالي رصده بطريقة منهجية تنظيرية في ضوء رصيده الثقافي، وثوابته الحضارية، ومعطيات الواقع أيضا.
وعندما جاد الله عليه بالعزلة في قلعة بني سلامة، وجدت الأفكار المختزنة فرصتها للبروز، فكان أن ولدت (مقدمة ابن خلدون) ، كاملة الأعضاء، واضحة القسمات.. إنها لم تكن ثمرة هـذه البيئة الراكدة، بل كانت نبتة شرعية لمصادر عظيمة، وموروث ثقافي، وحضاري كبير!! [ ص: 58 ]