وفي إطار هـذا، تعالج المقدمة الأجزاء، والموضوعات التالية:
الديباجة: وفيها يذكر ابن خلدون، أنه طالع كتب المؤرخين، فوجدهم (لم يلاحظوا أسباب الوقائع، والأحوال، ولم يراعوا ولا رفضوا [ ص: 95 ] ترهات الأحاديث، ولا دفعوها، فالتحقيق قليل، وطرف التنقيح في الغالب كليل) ، فوضع هـذا الكتاب، الذي يصف منهجه فيه [1] قائلا: (وسلكت في ترتيبه وتبويبه، واخترعته من بين المناحي، مذهبا عجيبا، وطريقة مبتدعة وأسلوبا، وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية، ما يمتعكم بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرف كيف دخل أهل هـذه الدول من أبوابها، حتى تنزع من التقليد يدك، وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال، وما بعدك) .
وهذه الديباجة لا تعدو أن تكون (مقدمة) للمقدمة، بالمعنى المعروف للمقدمات، من شرح المنهج، ومن بيان الجديد الذي يعتقد الكاتب أنه يضيفه، وأسباب التأليف، ومنهجه الجديد.
1 - الكتاب الأول ويتكون من
مقدمة: في فضل علم التاريخ، وتحقيق مذاهبه، والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط والأوهام، وذكر شيء من أسبابها.
الباب الأول: في العمران البشري على الجملة، وفيه ست مقدمات:
الأولى: في أن الاجتماع الإنساني ضروري .. الثانية والثالثة والرابعة والخامسة، في قسط العمران من الأرض، وفي الأقاليم، وتأثير الهواء في [ ص: 96 ] ألوان البشر وأخلاقهم، وشئون معاشهم .. والسادسة، في الوحي والرؤيا، وفي أصناف المدركين للغيب من البشر بالفطرة أو الرياضة، وفي حقيقة النبوة والكهانة والعرافة.
الباب الثاني: في العمران البدوي، والأمم الوحشية، والقبائل، ومايعرض في ذلك من الأحوال
2 - الكتاب الثاني ويتكون من
الباب الثالث: وهو في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية، وفيه كلام عن نشأة الدول وتطورها، قوة ثم ضعفا، مع بيان أنه (إذا تحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد، وحصول الترف والدعة، أقبلت الدولة على الهرم، وذلك أن للدول أعمارا طبيعية كما للأشخاص، وعمر الدولة (لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال، لأن الجيل الأول لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحشها، من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد، فلا تزال بذلك سورة العصبية محفوظة فيهم، فحسهم مرهف، وجانبهم مرهوب، والناس لهم مغلوبون.. والجيل الثاني تحول حالهم بالملك والترفه من البداوة إلى الحضارة، ومن الشظف إلى الترف والخصب، ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به، وكسل الباقين عن السعي فيه... وأما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة والخشونة، كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هـم فيه من ملكة القهر، ويبلغ منهم الترف غايته... فيصيرون عيالا على الدولة، وتسقط العصبية بالجملة، وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة. [ ص: 97 ]
الباب الرابع: في البلدان والأمصار، وسائر العمران، وما يعرض في ذلك من الأحوال.
الباب الخامس: في المعاش ووجوهه، من الكسب والصنائع، وما يعرض في ذلك كله من الأحوال.
3 - الكتاب الثالث ويتكون من
الباب السادس: في العلوم وأصنافها، والتعليم وطرقه، وسائر وجوهه، وفيه يصف العلم والتعليم بأنها شيء طبيعي في العمران البشري، وأن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة، ويضرب لذلك مثلا حال (بغداد، وقرطبة، والقيروان، والبصرة، والكوفة، لما كثر عمرانها في صدر الإسلام، واستوت فيها الحضارة، كيف زخرت فيها بحار العلم، وتفننوا في اصطلاحات التعليم وأصناف العلوم، واستنباط المسائل والفنون، حتى أربوا على المتقدمين، وفاتوا المتأخرين، ولما تناقص عمرانها وابذعر سكانها، انطوى ذلك البساط بما عليه جملة، وفقد العلم بها والتعليم، وانتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام [2] إن هـذه المقدمة، إنشاء لعلم جديد، سماه ابن خلدون: (العمران) ، وأطلق بعضهم عليه تجاوزا: (الاجتماع) ، وهم كثيرون جدا، وبعضهم حاول ربطه بفلسفة التاريخ، وهم كثيرون، وبعضهم مثل الدكتور (محمد محمود ربيع) صاحب كتاب: (النظرية السياسية لابن خلدون) وبدرجة ما (محمد عابد الجابري) ، وغيرهما، حاولوا ربطه بعلم السياسة. والحق أن العلم الذي يمكن أن تكون المقدمة تعبيرا عنه، بدرجة أكبر من كل هـذه [ ص: 98 ] العلوم، هـو علم (الحضارة) أو فلسفة الحضارة... إنه ذلك العلم الذي ينتظم العلوم السابقة وغيرها، بطريقته الخاصة وأسلوبه المتميز، وهو العلم الذي سماه ابن خلدون: (العمران) .
إننا إذا حاولنا القيام بعمل تركيبي لمفردات المقدمة، التي أوردناها سلفا، فإننا لن نستطيع الوصول إلى قواعد كلية تنتظم هـذه المفردات، خارج نطاق (علم الحضـارة) ، الجـامع لكل هـذه المنظـومـة. كما أننا لو حاولنا توظيف هـذه المفردات وفق منهجية علمية، وصولا للأهداف التي حددها لنا ابن خلدون نفسه، فإننا سننتهي إلى النتيجة السابقة نفسها، فوظيفة علم العمران عند ابن خلدون تتجاوز (التاريخ) ، لأن التاريخ يقتصر على ذكر ما حدث، أما علم العمران فيبين لنا: كيف ولماذا حدث، بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه، وهو علم يشرح من أحوال العمران والتمدن وما يعرض في الاجتماع الإنساني، ليعرفك كيف دخل أهل الدولة من أبوابها، ويعطيك لحوادث الدول عللا وأسبابا. وكذلك في المقابل يعرفك بخروج أهل الدولة من التاريخ، ويعرفك على كل واقع منتظر، أي الصيرورة التاريخية، والشروط التي توجبها، والعوامل الفاعلة فيها [3] وتكاد صورة هـذا العلم تتماثل مع علم الحضارة، بقدر ما تبتعد عن علم التاريخ التقليدي، أو عن علمي الاجتماع والسياسة، بالمنهجية والتركيز المعروفين في عصرنا.
وهذه الخصائص ذات الطابع الشمولي أو الحضاري للمقدمة، التي لا تخلو من معالجة قضايا تاريخية، واجتماعية، وسياسية، واقتصادية، وأنثروبولوجية، ونفسية، في سياق مترابط ذي نسيج حضاري، يعطي [ ص: 99 ] للمقدمة أصالتها الإسلامية، عندما ندرك أن النظرة الإسلامية بعامة والقرآنية بخاصة، تعالج الإنسان الفرد والمجتمع والحضارة، بهذا الشمول وبهذا الترابط العضوي.
مع أن كثيرا ممن تأثروا بأيديولوجيات وافدة، قد حاولوا إخضاع المقدمة لعقائدهم المذهبية أو العنصرية، إلا أن الدكتور (عبدالرحمن بدوي) قد شذ عن هـؤلاء، فتحدث عن أصالة مقدمة ابن خلدون في عدد كبير من الجوانب، ثم انتهى إلى أن المميز الأكبر بين ابن خلدون وبين فلاسفة الحضارة والاجتماع، أن فلسفة الحضارة عند ابن خلدون تتلون باللون الديني، على عادته في كل المقدمة، كما أن المميز الأكبر أيضا عنده -كما يقول بدوي- هـو غلبة الروح الدينية على اتجاهه في التفسير والتعليل. وهو أمر مفهوم بطبعه لدى مفكر ينتسب بكل روحه إلى الحضارة الإسلامية وإلى العصر الوسيط. ومن العسير أن نعثر في تأويلاته وتعليلاته على نزعة عقلية صريحة. وأنى لنا أن نظفر بها عند رجل - حسب رأي الدكتور عبدالرحمن بدوي - يؤمن بالكهانة والرؤيا والسحر، ويسمح للخوارق بأن تدخل عوامل في توجيه الأحداث التاريخية!!
ومع اختلافنا مع الدكتور (بدوي) في بعض عباراته ونظراته، ومع إيماننا بأن تحليل ابن خلدون لهذه القضايا يبقى في إطار النظرة القرآنية، ولا يشذ عنها، إلا أننا -مع ذلك- نوافقه على جوهر القضية، وهو الأصالة الإسلامية، (والقرآنية بخاصة) لمقدمة ابن خلدون. [ ص: 100 ]