( أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص ) حديث شريف [1] أهلـه وقـومـه
هو عمرو بن العاص بن وائل بن هـاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو ابن هـصيص بن كعب بن لؤي بن غالب [2] بن فهر بن مالك بن النضر ابن كنانة بن خزيمة، وفهر بن مالك بن النضر هـو قريش، ومن لم يلد فهر فليس من قريش [3] .
أبو عمرو هـو العاص بن وائل ، أحد أشراف قريش في الجاهلية، وقائـد بني سـهم من قريش في حـرب الفجـار الثاني ، قبل بعثـة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان يوم الفجـار الثاني، بعد عـام الفيـل بعشـرين سنة [4] . [ ص: 45 ]
وقد أدرك الإسلام، ولكنه لم يسلم، إذ مات بمكة المكرمة في السنة الأولى من الهجرة [5] ، وكان أحد سادات قريش الذين مشوا إلى أبي طـالب ، يسألونه أن يكف عنهم رسـول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهـم أبو طالب قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هـو عليه: يظهر دين الله، ويدعو إليه [6] .
وكان أحد زعماء قريش، الذين حاولوا صد النبي صلى الله عليه وسلم عن دعوته، وعرضوا عليه كل المغريات ليكف عنهم، فلم يفلحوا في محاولتهم [7] ، فعرضوا عليه أن يعبد آلهتهم سنة: اللات والعزى، ويعبدوا إلهه سنة، فنزل قوله تعالى: ( قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون ) (الكافرون: 1-2) [8] ، وأنزل الله عز وجل : ( قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ) إلى قوله: ( بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) (الزمر: 64-66) [9] .
ومشى مرة مع عصبة من أشراف قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى التوحيد، فرفضوا دعوته، فأنزل الله عز وجل : ( وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هـذا لشيء يراد ) إلى قوله: ( إلا اختلاق ) (ص:6-7) [10] . [ ص: 46 ]
وكان أحد المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم [11] ، وهو الذي كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال: دعوه، فإنما هـو رجل أبتر لا عقب له، لو قد مات، لقد انقطـع ذكـره، واسترحتم منه. فأنزل الله في ذلك قولـه الكـريم: ( إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر * إن شانئك هـو الأبتر ) (الكوثر:1-3) [12] مما هـو خير من الدنيا وما فيها.. والكوثر: العظيم [13] . وهو الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : (لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس، ويرى معك) ، فأنزل الله تعـالى: ( وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون * ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ) (الأنعام:8-9) [14] .
وكان خباب بن الأرت [15] صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قينا بمكة يعمل السيوف، وكان قد باع من العاص بن وائل سيوفا، عملها له، حتى إذا كان له عليه مال، فجاء يتقاضاه، فقال له: (يا خباب! أليس يزعم محمد، صاحبكم هـذا، الذي أنت على دينه، أن في الجنة ما ابتغى [ ص: 47 ] أهلها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم؟ قال خباب : (بلى) ، قال: (فأنظرني إلى يوم القيامة يا خباب; حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هـنالك حقك، فوالله، لا تكون أنت وأصحابك يا خباب، آثر عند الله مني، ولا أعظم حظا في ذلك) . فأنزل الله تعالى فيه: ( أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ) ، إلى قوله تعالى: ( ونرثه ما يقول ويأتينا فردا ) (مريم:77-80) [16] .
ومع ذلك فقد كان العاص يحترم حرية الرأي، فقد زجر الذين أرادوا سوءا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه من قريش ، حين أعلن عمر إسلامه على الملأ، فقال العاص للذين أرادوا الاعتداء على عمر لإسلامه: (رجل اختار لنفسه أمرا، فماذا تريدون؟! أترون بني عدي يسلمون لكم صاحبهم هـذا؟! خلوا على الرجل) [17] وهذا يدل على أنه كان عاقلا، يتسم ببعد النظر، بالإضافة إلى تمسكه بحرية الرأي.
وكان العاص من أغنياء قريش، يلبس الحلة [18] ، ويرتدي الديباج مزورا [19] بالذهب [20] ، فهو من المترفين حقا، وذو ثراء عريض.
وكان مشهورا بالكرم وحسن الوفادة، ومعاونة المحتاج، وقد مات العاص بن وائل، بين مكة والأبواء [21] ، والمدينة بالأبواء في رواية، وهو [ ص: 48 ] ما نرجحه، لوجود هـذا النص عليه، وهو قول الشاعر:
يا رب زق [22] كالحمار وجفنـة كفيت خلاف الركب مدفع أرثد [23]
* وفي العاص بن وائل ، يقول الزبعرى :أصاب ابن سلمى خلة [24] من صديقـه ولولا ابن سلمى لم يكن لك راتق
فآوى وحيـا إذ أتـاه بخلـة وأعرض عنه الأقربون الأصـادق
فإما أصب يوما من الدهر نصـرة أتتك وإني بابن سلمى لصـادق
وإلا تكن إلا لسـاني فإنـه بحسن الذي أسديت عني لناطـق
ثمـال [25] يعيش المقتـرون بفضله وسيب [26] ربيع ليس فيه صواعق [27]
وأم العاص بن وائل: سلمى البلوية ، من بلي من قضاعة [28] .
لقد كان العاص من أشراف قريش المتميزين [29] .
وأم عمرو بن العاص هـي: سلمى بنت حرملة ، تلقب بالنابغة من بني عنزة ، أصابتها رماح العرب، فبيعت بسوق عكاظ، فاشتراها الفاكهة بن المغيرة ، ثم اشتراها عبد الله بن جدعان ، ثم صارت إلى العاص بن وائل ، فأنجبت عمرا [30] وإخوته لأمه: عروة بن أثاثة العدوي [31] ، كان من مهاجرة الحبشة، وأرنب بنت عفيف بن العاصي [32] ، وعقبة بن نافع [33] بن عبد القيس بن لقيط من بني الحارث بن فهر القرشي [34] .
وفي رواية ثانية، أن أم عمرو بن العاص حبشية [35] ، والرواية الأولى متواترة في المصادر المعتمدة، لذلك نرجحها على الرواية الثانية.
وعمرو من بني سهم ، وهم بطن من عشرة أبطن من قريش ، انتهى إليها الشرف قبل الإسلام هـم: هـاشم ، وأمية ، ونوفل ، وعبد الدار ، وتيم ، وأسد ، ومخزوم ، وعدي ، وجمح ، وسهم [36] ، وكان لكل بطن [ ص: 50 ] من هـذه البطون واجب خاص، فكان بنو سهم أصحاب الحكومة في قريش ، والحكومة عمل يشبه القضاء، بحيث كان يحتكم القرشيون وغيرهم، ممن يفد على مكة من العرب، إلى زعماء بني سهم، فيما يقع بينهم من الخصومات، وهذا يدل على أنهم كانوا أصحاب رأي وحلم ودهاء واتزان وحصافة.
وكان لبني سهم أيضا، الرئاسة على الأموال الخاصة بآلهة قريش، وهي أشبه شيء بالأوقاف العامة.. وفي قبضة صاحب هـذا العمل الأموال المحجرة -كما كانوا يسمونها- يتصرف فيها حسب ما تقتضيه القواعد التي جروا عليها في العمل بأموال أوثانهم وأصنامهم.
وقد اشتهر بنو سهم بالغزو، والشرف، والشعر، وفصل الخصومات، واليسار [37] ، فنشأ عمرو في هـذه البيئة الحضرية بمكة، التي لم تنقطع صلتها بالبداوة في التربية، والناحية الاجتماعية، والاقتصادية، والدينية، وترعرع في رعاية والده، رئيس بني سهم، وأحد رجالات قريش، وزعمائها، ورؤسائها، وأشرافها البارزين، الذي كان معروفا برجاحة العقل، وبعد النظر، وسعة الأفق، والكفاية القيادية، والتجارب العملية، والثراء، وبرعاية والدته الذكية القوية، ويكفي دليلا على تجاربها في الحياة وذكائها وصلابتها، أنها أم عمرو، وأم عقبة بن نافع، وهما من أعظم قادة الفتح الإسلامي، ومن أبرز الولاة والإداريين والأمراء.
لقد كانت بيئة عمرو التي نشأ فيها وترعرع، صالحة لتنشئة القادة والإداريين. [ ص: 51 ]