5- في النوبـة [1]
لما فتح المسلمون مصر ، غزوا النوبة ، فقفل المسلمون بالجراحات، وذهاب الحدق من جودة الرمي، فسموا رماة الحدق [2] ، فقد أراد عمرو أن يؤمن مصر من الجنوب، فبعث عقبة بن نافع الفهري ، فدخلت خيول المسلمين النوبة، كما تدخل صوائف [3] الروم، فلقي المسلمون [ ص: 132 ] بالنوبة قتالا شديدا. لقد لاقاهم النوبيون، فرشقوهم بالنبل، حتى جرح عامتهم، فانصرفوا بجراحات كثيرة، وحدق مفقوءة، فسمي النوبيون (رماة الحدق) ، ولم يصالحهم عمرو ، ودأب على مهاجمتهم بين حين وآخر، حتى عزل عن مصر ، وولي عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فصالحهم، فكانت بينهم وبين المسلمين هـدنة، يعطيهم المسلمون شيئا من القمح والعدس، ويعطيهم النوبيون رقيقا [4] .
وقد ذكر شيخ من حمير قال: (شهدت النوبة مرتين، في ولاية عمر بن الخطاب ، فلم أر قوما أحد في حرب منهم! لقد رأيت أحدهم يقول للمسلم: أين تحب أن أضع سهمي منك؟ فربما عبث الفتى منا، فقال: في مكان كذا! فلا يخطئه!! كانوا يكثرون الرمي بالنبل، فما يكاد يرى من نبلهم في الأرض شيء [5] ! فخرجوا إلينا ذات يوم فصافونا، ونحن نريد أن نجعلها حملة واحدة بالسيوف، فما قدرنا على معالجتهم، رمونا حتى ذهبت الأعين، فعدت مائة وخمسين عينا مفقوءة، فقلنا: ما لهؤلاء خير من الصلح، إن سلبهم لقليل، وإن نكايتهم لشديدة، فلم يصالحهم عمرو، ولم يزل يكالبهم حتى نزع، وولي عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فصالحهم [6] . [ ص: 133 ]
وقد فتحت مصر سنة عشرين الهجرية، كما ذكرنا، والتعرض بالنوبة الأول بقيادة عقبة بن نافع ، لا بد أن يكون بعد فتح الصعيد ، فمن الواضح أن التعرض الإسلامي بالنوبة كان سنة إحدى وعشرين الهجرية [7] ، لأن عقبة بعد ذلك أصبح ميدان جهاده في ليبيا ، كما ذكرنا، ولم يعد إلى مصر قائدا، بل تولى إفريقية ، واقتصر نشاطه العسكري على تلك المناطق والأصقاع. وهكذا كان عمرو أول من فكر في فتح النوبة ، ومهد لفتحها.