الإنـسـان
1- الـوالـي
لما أسلم
عمرو ، قربه النبي صلى الله عليه وسلم ، لمعرفته، وشجاعته، وولاه غزاة ذات السلاسل ، واستعمله على
عمان ، فمات النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو أميرها
[1] ،
( قال عمرو: بعث إلي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: خذ عليك ثيابك وسلاحك، ثم ائتني. فأتيته، فقال: إني أريد أن أبعثك على جيش، فيسلمك الله، ويغنمك، وأرغب لك من المال رغبة صالحة. فقلت: يا رسول الله! ما أسلمت من أجل المال، بل أسلمت رغبة في الإسلام. فقال: يا عمرو! نعما بالمال الصالح للمرء الصالح ) [2] .
وكان النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ، يقول عن عمرو:
( عمرو ابن العاص من صالحي قريش ) [3] ، فقد أسلم عمرو وحسن إسلامه، وأخلص لدينه، وكان إيمانه راسخا، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في عمرو:
( أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص ) [4] .
[ ص: 137 ]
ولما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعثه
أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، أميرا من أمراء
الشام ، فشهد معارك فتح الشام
[5] في أيام أبي بكر الصديق، قائدا وإداريا.
وولاه
عمر بن الخطاب رضي الله عنه ،
فلسطين ،
والأردن [6] ، ثم كتب إليه أن يسير إلى
مصر ، ففتحها عمرو، فولاه مصر، إلى أن مات عمر بن الخطاب
[7] .
لقد كان عمر، إذا استعمل عاملا، كتب عليه كتابا، وأشهد عليه رهطا من
الأنصار ، أن لا يركب برذونا، ولا يأكل نقيا، ولا يلبس رقيقا، ولا يغلق بابه دون حاجة المسلمين.. وكان يكتب إلى أمراء الأمصار: " بأن لكم معاشر الولاة، حقا على الرعية، ولهم مثل ذلك، فإنه ليس من حلم أحب إلى الله، ولا أعم نفعا، من حلم إمام ورفقه، وأنه ليس جهل أبغض إلى الله، ولا أعم ضررا، من جهل إمام وخرقه، وإنه من يطلب العافية فيمن بين ظهرانيه، ينزل الله عليه العافية من فوقه "
[8] .
" وكان عمر يقول: ( من استعمل رجلا لمودة أو لقرابة، لا يشغله إلا ذاك، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين "
[9] ، وكان يقول: ( " أيما عامل لي ظلم أحدا، فبلغني مظلمته، فلم أغيرها، فأنا ظلمته "
[10] .
[ ص: 138 ]
عن
أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال: (كنا عند
عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، إذ جاء رجل من أهل
مصر ، فقال: يا أمير المؤمنين! هـذا مقام العائذ بك. قال: وما لك؟ قال: أجرى
عمرو بن العاص الخيل بمصر، فأقبلت فرس لي، فلما ترا آها الناس، قام
محمد بن عمرو فقال: فرسي، ورب الكعبة! فلما دنا مني عرفته، فقلت: فرسي ورب الكعبة! فقام يضربني بالسوط، ويقول: خذها.. خذها.. وأنا ابن الأكرمين! فوالله ما زاد عمر على أن قال: اجلس! ثم كتب إلى عمرو: (إذا جاءك كتابي هـذا، فأقبل، وأقبل معك بابنك محمد. فدعا عمرو ابنه فقال: أحدثت حدثا؟! أجنيت جناية؟! قال: لا. قال: فما بال عمر يكتب فيك؟ فقدما على عمر، فوالله إنا لعند عمر بـ (
منى )
[11] ، إذ نحن بعمرو، وقد أقبل في إزار ورداء، فجعل عمر يلتفت، هـل يرى ابنه، فإذا هـو خلف أبيه، فقال: أين المصري؟ فقال: هـا أنا ذا. قال: دونك الدرة، اضرب بها ابن الأكرمين.. اضرب بها ابن الأكرمين.. اضرب بها ابن الأكرمين.. فضربه، حتى أثخنه، ثم قال: أجلها على صلعة عمرو، فوالله ما ضربك إلا بفضل سلطانه. فقال: يا أمير المؤمنين! لقد ضربت من ضربني. فقال: أما والله لو ضربته، ما حلنا بينك وبينه، حتى تكون أنت الذي تدعـه! يا عمرو! متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أحرارا أمهم؟؟ ثم التفت إلى المصري فقال: انصرف راشدا، فإن رابك ريب فاكتب إلي)
[12] .
[ ص: 139 ]
بل " حاسب
عمر بن الخطاب عمرا، وقاسمه ماله، فقد كتب إلى عمرو: (من عبد الله عمر بن الخطاب، إلى
عمرو بن العاص . سلام عليك. أما بعد، فإنه بلغني أنك فشت لك فاشية من خيل، وإبل، وغنم، وعبيد، وعهدي بك قبل ذلك أن لا مال عندك، فاكتب إلي من أين أصل هـذا المال، ولا تكتمه) . "
" فكان جواب عمرو: (من عمرو بن العاص، إلى عبد الله عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين. سلام عليك. فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هـو، أما بعد، فإنه أتاني كتاب أمير المؤمنين، يذكر فيه ما فشا لي، وأنه يعرفني قبل ذلك، لا مال لي. وإني أعلم أمير المؤمنين، أني ببلد السعر به رخيص، وأني أعالج من الحرفة والزراعة ما يعالجه أهله
[13] ، وليس في رزق أمير المؤمنين سعة، وبالله لو رأيت خيانتك حلالا، ما خنتك، فأقصر أيها الرجل، فإن لنا أحسابا، هـي خير من العمل لك، إن رجعنا إليها، عشنـا بها، ولعمـري! إن عنـدك من يذم معيشتـه، ولا تذم له. وذكرت أن عندك
[14] من
المهاجرين الأولين، من هـو خير مني
[15] ، فأنى كان ذلك، ولم نفتح قفلك، ولم نشركك في عملك "
[16] ) .
" فكتب إليه عمر: (أما بعد، فإني والله ما أنا من أساطيرك التي
[ ص: 140 ] تسطر، ونسقك الكلام في
[17] غير مرجع، وما يغني عنك أن تزكي نفسك، وقد بعثت إليك
محمد بن مسلمة [18] ، فشاطره مالك، فإنكم أيها الأمراء جلستم على عيون المال، ثم لم يعوزكم عذر، تجمعون لأبنائكم، وتمهدون لأنفسكم، أما إنكم تجمعون العار، وتورثون النار
[19] ، والسلام) . "
فلما قدم عليه محمد بن مسلمة، صنع له طعاما كثيرا، فأبى محمد بن مسلمة أن يأكل منه شيئا، فقال له
عمرو : (اتحرمون طعامنا؟) فقال: (لو قدمت إلي طعام الضيف أكلته، ولكنك قدمت إلي طعاما هـو تقدمة شر! والله لا أشرب عندك الماء، فاكتب لي كل شيء هـو لك، ولا تكتمه) ، فشاطره ماله بأجمعه، حتى بقيت نعلاه، فأخذ إحداهما وترك الأخرى
[20] .. وقد قاسم
عمر بن الخطاب أموال كثير من عماله، ممن هـو أفضل من
عمرو إيمانا وسابقة، ولم يقتصر على مقاسمة عمرو وحده.
" لقد كان عمـر بن الخطاب، إذا نظـر إلى عمـرو يمشـي يقـول: (ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميرا "
[21] .
[ ص: 141 ] " وكان
عمر بن الخطاب ، إذا استضعف رجلا في رأيه وعقله، قال: (أشهد أن خالقك، وخالق عمرو واحد " ) ، يريد خالق الأضداد
[22] .
" وكان عمر بن الخطاب، إذا رأى الرجل يتلجلج، يقول: (أشهد أن خالق هـذا وخالق
عمرو بن العاص واحد " )
[23] .
ولعل في ذكر بعض إنجازاته العظيمة في
مصر ، ما يسوغ اختياره واليا من عمر بن الخطاب على مصر، وهو المعروف بحرصه الشديد على اختيار الرجل المناسب للعمل المناسب.
فقد فتح عمرو مصر كلها، وفتح
ليبيا كلها، كما ذكرنا، وليس هـذا الفتح الواسع بقليل، وقد بنى
مدينة الفسطاط .. ولسبب تسمية مصر بالفسطاط أقوال كثيرة، منها: أن عمرا لما أراد التوجه لفتح الإسكندرية أمر بنزع فسطاطه (خيمته) ، فإذا فيه يمامة قد فرخت، فقال عمرو: (لقد تحرم منا بمتحرم) ، فأمر به، فأقر كما هـو، وأوصى به صاحب القصر، فلما قفل المسلمون من الإسكندرية قالوا: أين ننزل؟، قالوا: الفسطاط -يعنون فسطاط عمرو، الذي خلفه بمصر، مضروبا لأجل اليمامة، فغلب عليه ذلك.
ولما رجع عمرو من الإسكندرية سنة إحدى وعشرين الهجرية، نزل موضع فسطاطه، وتنافست القبائل بعضها مع بعض في المواضع، فولى
[ ص: 142 ] عمرو معاوية بن حديج وغيره على
الخطط ، وكانوا هـم الذين نزلوا الناس، وفصلوا بين القبائل، وذلك في سنة إحدى وعشرين الهجرية
[24] .
كما بنى عمرو جامع عمرو بن العاص
بالفسطاط ، وكان موضعه خانا، فلما رجعوا من
الإسكندرية بعد فتحها، سأل عمرو صاحبه أن يجعله مسجدا، فقال له صاحبه: (إني أتصدق به على المسلمين) ، وسلمه إليهم، فبني الجامع سنة إحدى وعشرين الهجرية، وكان طوله خمسين ذراعا في عرض ثلاثين ذراعا، ويقال: إنه وقف على إقامة قبلته ثمانون رجلا من الصحابة. ولم يكن لهذا المسجد محراب مجوف، فجعل له محراب مجوف بعد عمرو. وكان للمسجد بابان يقابلان دار عمرو بن العاص، وبابان في بحريه، وبابان في غربيه، وكان الخارج من شارع القناديل، يجد ركن الجامع الشرقي محاذيا لركن دار عمرو الغربي، وكان طوله من القبلة إلى البحري مثل طول دار عمرو، وسقفه مطأطأ جدا، ولا صحن له، وكان الناس يصطفون بفنائه، وكان بينه وبين دار عمرو سبعة أذرع، وكان الطريق محيطا به من جميع جوانبه، وكان عمرو قد اتخذ منبرا، فكتب إليه
عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يعزم عليه في كسره، ويقول: ( " أما بحسبك أن تقوم قائما، والمسلمون تحت عقبيك " ) ، فكسره عمرو
[25] .
[ ص: 143 ]
وجعل
عمرو أهل
مصر ، أهل ذمة، فوضع عليهم الجزية في رقابهم، والخراج في أرضهم، وكتب بذلك إلى
عمر بن الخطاب . فأجازه
[26] ، ولم يقسم الأرض بأمر عمر، الذي كتب إليه: (أقرها حتى يغزو منها حبل الحبلة
[27] ) .
وجمع عمرو الفعلة، واحتفر الخليج، الذي بحاشية
الفسطاط ، الذي يقال له: خليج أمير المؤمنين، فساقه من النيل إلى (
القلزم )
[28] ، فلم يأت الحول، حتى جرت به السفن، فحمل فيه ما أراد من الطعام إلى
المدينة ومكة ، ثم لم يزل يحمل فيه الطعام، حتى حمل فيه بعد
عمر بن عبد العزيز ، ثم ضيعته الولاة بعد ذلك، فترك وغلب عليه الرمل، فانقطع، فصار منتهاه إلى ذنب (
التمساح )
[29] ، من ناحية (
طحا )
[30] القلزم
[31] .
[ ص: 144 ]
ولكن أهم ما أنجزه
عمرو في المجالات الإدارية وغيرها،، هـو إدخال العربية لغة، والإسلام دينا، في
مصر وليبيا .. وفي غير هـذين القطرين العربيين المسلمين، مما فتح من الأقطار شرقا وغربا، امتدت من
عمان على
الخليج العربي شرقا إلى بلاد
الشام على البحر الأبيض المتوسط غربا، فكان فتحه فتحا مستداما من أيامه الأولى، حتى اليوم، وسيبقى كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لأنه كان فتح مبادئ، يعتمد اللغة والدين، ولم يكن استعبادا، يعتمد السيف والقهر.
فقد أسر المسلمون في مصر من
الروم والقبط ، فأمر عمرو بردهم إلى قراهم، وصيرهم أهل ذمة، على أن يخيروهم بين الإسلام وبين دينهم، فإن أسلم فهو من المسلمين له ما لهم، وعليه ما عليهم، وإن اختار دينه فيعاد إلى قريته
[32] .
ولما انتهى المسلمون إلى (
بلهيب )
[33] ، في طريقهم بعد فتح الإسكندية ، أرسل صاحب
الإسكندرية إلى عمرو: (إني كنت أخرج الجزية إلى من هـو أبغض إلي منكم معشر العرب،
لفارس والروم، فإن أحببت أن أعطيك الجزية، على أن ترد ما أصبتم من سبايا أرضي، فعلت) .
[ ص: 145 ]
وبعث إليه
عمرو : (إن ورائي أميرا لا أستطيع أن أضع أمرا دونه، فإن شئت أن أمسك عنك، وتمسك عني، حتى أكتب إليه بالذي عرضت علي، فإن قبل ذلك منك قبلت، وإن أمرني بغير ذلك مضيت لأمره) ، فوافق صاحب
الإسكندرية .
وكتب عمرو إلى
عمر بن الخطاب ، وكان لا يخفون على الجند كتابا كتبوا به، يذكر له الذي عرض عليه صاحب الإسكندرية، وقال: (... وفي أيدينا بقايا من سبيهم) . وجاء جواب عمر، وفيه: ( " أما بعد. فإنه جاء في كتابك تذكر أن صاحب الإسكندرية عرض أن يعطيك الجزية، على أن ترد عليه ما أصيب من سبايا أرضه، ولعمري لجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين، أحب إلينا من فيء يقسم، ثم كأنه لم يكن، فاعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية ، على أن تخيروا من في أيديكم من سبيهم، بين الإسلام، وبين دين قومه، فمن اختار منهم الإسلام، فهو من المسلمين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، ومن اختار دين قومه، وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل دينه... " ) .
وجمع المسلمون ما بأيديهم من السبايا، واجتمعت
النصارى ، فيتقدم الرجل من السبايا، ويخير بين الإسلام والنصرانية، فإذا اختار الإسلام كبر المسلمون، ثم يضمه المسلمون إلى صفوفهم، وإذا اختار النصرانية، نخرت النصارى، ثم حازوه إليهم، وقد كان بين السبايـا،
[ ص: 146 ] أبو مريم عبد الله بن عبد الرحمن ، الذي اختار الإسلام، فأصبح عريف زبيد
[34] ، فقد عرض المسلمون عليه الإسلام، وعرض عليه
النصارى النصرانية، وأبوه وأمه وإخوته في النصارى، فاختار الإسلام
[35] .
وحين حاصـر عمـرو
حصـن بابليـون ، أرسـل إلى حماة الحصـن: (لا تعجلونا لنعذر إليكم، وترون رأيكم بعد) ، فكفوا أصحابهم، وأرسل إليهم
عمرو : (إني بارز، فليبرز إلي أبو مريم
وأبو مريام ) ، فأجابوه إلى ذلك، وآمن بعضهم بعضا، فقال لهم عمرو: (أنتما راهبا هـذه البلدة، فاسمعا: إن الله عز وجل بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأمره به، وأمرنا به محمد صلى الله عليه وسلم ، وأدى إلينا كل الذي أمر به، ثم مضى صلوات الله عليه ورحمته، وقد قضى الذي عليه، وتركنا على الواضحة، وكان مما أمرنا به الإعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية ، وبذلنا له المنعة، وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم، وأوصانا بكم حفظا لرحمنا فيكم، وإن لكم إن أجبتمونا بذلك ذمة إلى ذمة. ومما عهد إلينا أميرنا: استوصوا بالقبطيين خيرا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا بالقبطيين خيرا، لأن لهم رحما وذمة)
[36] .. فما تم الفتح، أوكاد، إلا وكان من
[ ص: 147 ] أهل
مصر في جيش
عمرو جنود، بلغ قسم منهم رتبة عريف على إخوانه العرب الأقحاح المسلمين.
فلا عجب أن يكون
القبط لعمرو أعوانا
[37] ، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط لفتح الإسكندرية ، فعاونوا المسلمين معاونات عسكرية وإدارية، ساعدتهم على الفتح
[38] ، ولم ينقض القبط ولا
المقوقس الصلح، الذي عقدوه بينهم وبين الفاتحين، كما نقض
الروم [39] ، لأن القبط أعجبوا بعدل المسلمين بقدر كرههم لظلم الروم، وهذا ما يقرره المؤرخون المسلمون، والأقباط القدامى، ولا عبرة لادعاءات غير المنصفين من المستشرقين والمؤرخين الأجانب المحدثين، فوراء ادعاءاتهم تحيز
للنصرانية ، يناقض الموضوعية وحوادث التاريخ.
والحق أن عمرا أثبت كفاية إدارية فذة في ولايته لمصر، ولو كانت محاسبة
عمر بن الخطاب لعمرو على المال، كما ذكرنا، لخيانة عمرو في أمانته على المال، لما أبقاه لحظة واحدة على مصر، وقد حاسب عمر بن الخطاب كل عماله أشد الحساب على المال، ومنهم من هـو أفضل من عمرو سابقة، وتدينا، وورعا، وتقوى، ولكن عمر كان يحب أن يبقى عماله مثلا رفيعا في النقاء، والبعد عن الشبهات، حتى يكونوا موضع
[ ص: 148 ] ثقة رعيتهم الكاملة المطلقة، فهو يحاسبهم حرصا عليهم ورغبة في استكمال سيطرتهم على رعيتهم، وتبادل الثقة الكاملة المطلقة، بين الحكام والمحكومين.. والثقة المتبادلة، أهم كثيرا من المال، وأجدى للحاكم والمحكوم.
وأقره
عثمان بن عفان رضي الله عنه ، على
مصر أربع سنين، أو نحوها، ثم عزله عنها، وولاها
عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري ، فقد بويع عثمان بالخلافة، في شهر المحرم لثلاث مضين منه، سنة أربع وعشرين الهجرية
[40] .. وعزل عثمان عن مصر عمرا سنة سبع وعشرين الهجرية
[41] ، فقد عزل عمرو عن خراج مصر سنة سبع وعشرين الهجرية، واستعمل عليه عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان أخا عثمان من الرضاعة، فتباغيا، " وكتب عمـرو إلى عثمـان يقـول: ( إن عبد الله قد كسر علي مكيدة الحرب " ) ، " وكتب عبد الله بن سعد إلى عثمان: (إن عمرا كسر علي الخراج " ) ، فعزل عثمان عمرا، واستقدمه، واستعمل بدله عبد الله على حرب مصر وخراجها
[42] ولم يعد إلى مصر من جديد حتى سنة ثمان وثلاثين الهجرية
[43] ، فقد سيره
معاوية بن أبي سفيان إلى مصر، فاستنقذها من
[ ص: 149 ] محمد بن أبي بكر الصديق ، عامل
علي بن أبي طالب على
مصر ، فاستعمله
معاوية عليها إلى أن مات
[44] .
لقد عمل
عمرو على مصر
لعمر بن الخطاب سنتين،
ولعثمان بن عفان أربع سنين إلا شهرين، ولمعاوية بن أبي سفيان سنتين إلا شهرا
[45] ، ثم مات عمرو، فانتهت بموته حياة فاتح من أعظم الفاتحين، وإداري من ألمع الإدرايين، بعد أن نهض بواجبه في الفتح والإدارة على أحسن وجه، إذ لا يمـاري أحـد في أهميـة فتوحـاته، وبقـائها على الدهـر، ولا يجادل عاقل في قابليته الإدارية الفذة، وقد سجل عمرو صفحات ناصعة في تاريخ الإسلام، فاتحا وإداريا، كما أن صفحاته مشرقة في سائر تواريخ الأمم الأخرى، شرقية وغربية، وقديما وحديثا.
الإنـسـان
1- الـوالـي
لما أسلم
عمرو ، قرّبه النبي صلى الله عليه وسلم ، لمعرفته، وشجاعته، وولاّه غُزاة ذات السلاسل ، واستعمله على
عُمان ، فمات النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو أميرها
[1] ،
( قال عمرو: بعث إليّ النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: خذ عليك ثيابك وسلاحك، ثم ائتني. فأتيته، فقال: إني أريدُ أن أَبْعَثَك على جيش، فَيُسَلِّمَك اللهُ، ويُغْنِمَك، وأرغبُ لك من المال رغبةً صالحة. فقلتُ: يا رسولَ الله! ما أسلمتُ من أجل المال، بل أسلمتُ رغبةً في الإسلام. فقال: يا عمرو! نَعِمًا بالمالِ الصالح للمرءِ الصالح ) [2] .
وكان النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ، يقول عن عمرو:
( عمرو ابن العاص من صالحي قريش ) [3] ، فقد أسلم عمرو وحسن إسلامه، وأخلص لدينه، وكان إيمانه راسخًا، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في عمرو:
( أسلم الناسُ وآمن عمرو بن العاص ) [4] .
[ ص: 137 ]
ولما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعثه
أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، أميرًا من أمراء
الشام ، فشهد معارك فتح الشام
[5] في أيام أبي بكر الصديق، قائدًا وإداريًا.
وولاّه
عمر بن الخطاب رضي الله عنه ،
فلسطين ،
والأردن [6] ، ثم كتب إليه أن يسير إلى
مصر ، ففتحها عمرو، فولاّه مصر، إلى أن مات عمر بن الخطاب
[7] .
لقد كان عمر، إذا استعمل عاملًا، كتب عليه كتابًا، وأشهد عليه رَهْطًا من
الأنصار ، أن لا يركب بِرْذَوْنًا، ولا يأكل نقيًّا، ولا يلبس رقيقًا، ولا يغلق بابه دون حاجة المسلمين.. وكان يكتب إلى أمراء الأمصار: " بأنّ لكم معاشر الولاة، حقًا على الرعيّة، ولهم مثل ذلك، فإنه ليس من حلمٍ أحبّ إلى الله، ولا أعمّ نفعًا، من حِلم إمام ورِفْقِه، وأنه ليس جهل أبغض إلى الله، ولا أعم ضررًا، من جَهْل إمام وخُرْقِه، وإنه مَنْ يطلب العافية فيمن بين ظهرانيه، يُنزل اللهُ عليه العافيةَ من فوقه "
[8] .
" وكان عمر يقول: ( مَن استعمل رجلًا لمودّة أو لقرابة، لا يُشغله إلاَّ ذاك، فقد خان الله ورسولهَ والمؤمنين "
[9] ، وكان يقول: ( " أيّما عامل لي ظَلَمَ أحدًا، فبلغني مظلمتُه، فلم أغيّرْها، فأنا ظلمتُه "
[10] .
[ ص: 138 ]
عن
أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال: (كنّا عند
عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، إذ جاء رجل من أهل
مصر ، فقال: يا أمير المؤمنين! هـذا مقام العائذ بك. قال: وما لك؟ قال: أجرى
عمرو بن العاص الخيل بمصر، فأقبلت فرس لي، فلمّا ترا آها الناس، قام
محمد بن عمرو فقال: فرسي، وربّ الكعبة! فلما دنا مني عرفته، فقلتُ: فرسي وربّ الكعبة! فقام يضربني بالسوط، ويقول: خذها.. خذها.. وأنا ابن الأكرمين! فوالله ما زاد عُمَرُ على أن قال: اجلس! ثم كتب إلى عمرو: (إذا جاءك كتابي هـذا، فأَقْبِل، وأَقْبِل معك بابنك محمد. فدعا عمرو ابنه فقال: أحدثت حَدَثًا؟! أَجَنَيتَ جِناية؟! قال: لا. قال: فما بَالُ عُمَر يكتب فيك؟ فقدما على عُمَر، فوالله إنّا لعند عمر بـ (
مِنَى )
[11] ، إذ نحن بعمرو، وقد أقبل في إزارٍ ورداء، فجعل عمر يلتفت، هـل يرى ابنه، فإذا هـو خلف أبيه، فقال: أين المصري؟ فقال: هـا أنا ذا. قال: دونك الدِّرَّة، اضربْ بها ابن الأكرمين.. اضربْ بها ابن الأكرمين.. اضرب بها ابن الأكرمين.. فضربه، حتى أثخنه، ثم قال: أجِلْها على صَلْعَة عمرو، فوالله ما ضربك إلا بفضل سلطانه. فقال: يا أمير المؤمنين! لقد ضربتُ مَن ضَرَبَني. فقال: أما والله لو ضربته، ما حُلْنَا بَيْنَك وبينه، حتى تكون أنت الذي تدعـه! يا عمرو! متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أحرارًا أُمُّهُم؟؟ ثم التفت إلى المصري فقال: انصرف راشدًا، فإن رابك ريبٌ فاكتب إليّ)
[12] .
[ ص: 139 ]
بل " حاسب
عمر بن الخطاب عَمْرًا، وقاسمه ماله، فقد كتب إلى عمرو: (من عبدِ الله عُمَرَ بن الخطاب، إلى
عمرو بن العاص . سلام عليك. أما بعد، فإنه بلغني أنك فشت لك فاشيةٌ من خيلٍ، وإبل، وغَنَم، وعبيد، وعهدي بك قبل ذلك أن لا مال عندك، فاكتب إليَّ مِن أين أصل هـذا المال، ولا تكتُمْه) . "
" فكان جواب عمرو: (من عمرو بن العاص، إلى عبد الله عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين. سلام عليك. فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هـو، أما بعد، فإنه أتاني كتاب أمير المؤمنين، يذكر فيه ما فشا لي، وأنه يعرفني قبل ذلك، لا مال لي. وإني أُعْلِم أميرَ المؤمنين، أني ببلدٍ السِّعر به رخيص، وأني أُعالج من الحِرْفَة والزراعة ما يعالجه أهله
[13] ، وليس في رزق أمير المؤمنين سَعَة، وبالله لو رأيت خيانتك حلالًا، ما خُنتُك، فأَقْصِر أيها الرجل، فإن لنا أحسابًا، هـي خير من العمل لك، إن رجعنا إليها، عشنـا بها، ولَعَمْـري! إن عنـدك من يَذُمّ معيشتـه، ولا تُذَمّ له. وذكرت أن عندك
[14] من
المهاجرين الأولين، مَنْ هـو خير مني
[15] ، فأنَّى كان ذلك، ولم نَفْتَح قُفْلَك، ولم نَشْرِكْك في عملك "
[16] ) .
" فكتب إليه عمر: (أما بعد، فإني والله ما أنا من أساطيرك التي
[ ص: 140 ] تُسَطِّر، ونَسْقك الكلام في
[17] غير مَرجع، وما يُغني عنك أن تُزَكِّي نَفْسَك، وقد بعثتُ إليك
محمد بن مسلمة [18] ، فشاطِرْه مالك، فإنّكم أيها الأمراء جلستم على عيون المال، ثم لم يُعوزكم عُذْر، تجمعون لأبنائكم، وتُمَهِّدون لأنفسكم، أما إنّكم تجمعون العار، وتُوَرِّثون النار
[19] ، والسلام) . "
فلما قدم عليه محمد بن مسلمة، صنع له طعامًا كثيرًا، فأبى محمد بن مَسْلَمة أن يأكل منه شيئًا، فقال له
عمرو : (اتحرِّمون طعامنا؟) فقال: (لو قَدَّمتَ إليّ طعامَ الضَّيف أكلتُه، ولكنّك قدّمتَ إليّ طعامًا هـو تَقْدمة شرٍ! والله لا أشربُ عندك الماءَ، فاكتُبْ لي كُلَّ شيءٍ هـو لك، ولا تكْتُمه) ، فشاطره ماله بأجمعه، حتى بقيت نعلاه، فأخذ إحداهما وترك الأخرى
[20] .. وقد قاسم
عمر بن الخطاب أموال كثير من عماله، ممن هـو أفضل من
عمرو إيمانًا وسابقة، ولم يقتصر على مقاسمة عمرو وحده.
" لقد كان عمـر بن الخطاب، إذا نظـر إلى عمـرو يمشـي يقـول: (ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميرًا "
[21] .
[ ص: 141 ] " وكان
عمر بن الخطاب ، إذا استضعف رجلًا في رأيه وعقله، قال: (أشهد أن خالقك، وخالق عمرو واحد " ) ، يريد خالق الأضداد
[22] .
" وكان عمر بن الخطاب، إذا رأى الرجل يتلجلج، يقول: (أشهد أن خالقَ هـذا وخالقَ
عمرو بن العاص واحد " )
[23] .
ولعل في ذكر بعض إنجازاته العظيمة في
مصر ، ما يسوِّغ اختياره واليًا من عمر بن الخطاب على مصر، وهو المعروف بحرصه الشديد على اختيار الرجل المناسب للعمل المناسب.
فقد فتح عمرو مصر كلها، وفتح
ليبيا كلها، كما ذكرنا، وليس هـذا الفتح الواسع بقليل، وقد بنى
مدينة الفسطاط .. ولسبب تسمية مصر بالفسطاط أقوال كثيرة، منها: أن عَمرًا لما أراد التوجه لفتح الإسكندرية أمر بنزع فسطاطه (خيمته) ، فإذا فيه يمامة قد فَرخت، فقال عمرو: (لقد تحرّم منّا بمتحرّم) ، فأمر به، فأُقِرَّ كما هـو، وأوصى به صاحب القصر، فلما قفل المسلمون من الإسكندرية قالوا: أين ننزل؟، قالوا: الفُسطاط -يعنون فسطاط عمرو، الذي خلّفه بمصر، مضروبًا لأجل اليمامة، فغلب عليه ذلك.
ولما رجع عمرو من الإسكندرية سنة إحدى وعشرين الهجرية، نزل موضع فسطاطه، وتنافست القبائل بعضها مع بعض في المواضع، فولَّى
[ ص: 142 ] عمرو معاويةَ بن حُديج وغيره على
الخطط ، وكانوا هـم الذين نزّلوا الناس، وفصلوا بين القبائل، وذلك في سنة إحدى وعشرين الهجرية
[24] .
كما بنى عمرو جامع عمرو بن العاص
بالفُسطاط ، وكان موضعه خانًا، فلما رجعوا من
الإسكندرية بعد فتحها، سأل عمرو صاحبه أن يجعله مسجدًا، فقال له صاحبه: (إني أتصدّق به على المسلمين) ، وسلّمه إليهم، فبُني الجامع سنة إحدى وعشرين الهجرية، وكان طوله خمسين ذراعًا في عرض ثلاثين ذراعًا، ويقال: إنه وقف على إقامة قِبْلَتِه ثمانون رجلًا من الصحابة. ولم يكن لهذا المسجد محراب مجوّف، فجُعل له محراب مجوّف بعد عمرو. وكان للمسجد بابان يقابلان دار عمرو بن العاص، وبابان في بحريّه، وبابان في غربيّه، وكان الخارج من شارع القناديل، يجد ركن الجامع الشرقيّ محاذيًا لرُكْنِ دار عمرو الغربيّ، وكان طُولُه من القِبْلَة إلى البحريّ مثلَ طولِ دار عمرو، وسقْفُه مطأطأ جدًا، ولا صَحْنَ له، وكان الناس يصطفون بفنائه، وكان بينه وبين دار عمرو سبعة أذرع، وكان الطريق محيطًا به من جميع جوانبه، وكان عمرو قد اتخذ منبرًا، فكتب إليه
عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يَعْزم عليه في كسره، ويقول: ( " أما بحسبك أن تقوم قائمًا، والمسلمون تحت عَقِبَيْك " ) ، فكسره عمرو
[25] .
[ ص: 143 ]
وجعل
عمرو أهل
مصر ، أهل ذمة، فوضع عليهم الجزية في رقابهم، والخراج في أرضهم، وكتب بذلك إلى
عمر بن الخطاب . فأجازه
[26] ، ولم يقسم الأرض بأمر عمر، الذي كتب إليه: (أقرّها حتى يغزو منها حَبَلُ الحَبَلة
[27] ) .
وجمع عمرو الفَعَلة، واحتفر الخليج، الذي بحاشية
الفسطاط ، الذي يقال له: خليج أمير المؤمنين، فساقه من النيل إلى (
القُلْزُم )
[28] ، فلم يأت الحول، حتى جرت به السُّفن، فحمل فيه ما أراد من الطعام إلى
المدينة ومكة ، ثم لم يزل يُحمل فيه الطعام، حتى حمل فيه بعد
عمر بن عبد العزيز ، ثم ضيّعته الولاة بعد ذلك، فتُرِكَ وغَلب عليه الرمل، فانقطع، فصار مُنْتَهَاه إلى ذنب (
التِمْساح )
[29] ، من ناحية (
طحا )
[30] القُلْزُم
[31] .
[ ص: 144 ]
ولكن أهم ما أنجزه
عمرو في المجالات الإدارية وغيرها،، هـو إدخال العربية لغة، والإسلام دينًا، في
مصر وليبيا .. وفي غير هـذين القُطْرين العربيّين المسلمَيْن، مما فتح من الأقطار شرقًا وغربًا، امتدت من
عُمان على
الخليج العربي شرقًا إلى بلاد
الشام على البحر الأبيض المتوسط غربًا، فكان فَتْحُهُ فَتْحًا مُسْتَدَامًا من أيامه الأولى، حتى اليوم، وسيبقى كذلك حتى يَرِثَ اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها، لأنه كان فتح مبادئ، يعتمد اللغة والدين، ولم يكن استعبادًا، يعتمد السيف والقهر.
فقد أسر المسلمون في مصر من
الروم والقبط ، فأمر عمرو بردّهم إلى قراهم، وصيّرهم أهل ذمة، على أن يخيّروهم بين الإسلام وبين دينهم، فإن أسلم فهو من المسلمين له ما لهم، وعليه ما عليهم، وإن اختار دينه فيُعاد إلى قريته
[32] .
ولما انتهى المسلمون إلى (
بَلْهيب )
[33] ، في طريقهم بعد فتح الإسكندية ، أرسل صاحب
الإسكندرية إلى عمرو: (إني كنتُ أخرج الجزية إلى مَن هـو أبغض إليّ منكم معشر العرب،
لفارس والروم، فإن أحببتَ أن أعطيك الجزية، على أن ترد ما أصبتم من سبايا أرضي، فعلتُ) .
[ ص: 145 ]
وبعث إليه
عمرو : (إن ورائي أميرًا لا أستطيع أن أضع أمرًا دونه، فإن شئت أن أمسك عنك، وتُمسك عني، حتى أكتب إليه بالذي عرضتَ عليّ، فإن قبل ذلك منك قبلتُ، وإن أمرني بغير ذلك مضيتُ لأمره) ، فوافق صاحب
الإسكندرية .
وكتب عمرو إلى
عمر بن الخطاب ، وكان لا يُخفون على الجند كتابًا كتبوا به، يذكر له الذي عرض عليه صاحبُ الإسكندرية، وقال: (... وفي أيدينا بقايا من سَبْيهم) . وجاء جواب عمر، وفيه: ( " أما بعد. فإنه جاء في كتابك تذكر أن صاحب الإسكندرية عرض أن يعطيك الجزية، على أن تردّ عليه ما أصيب من سبايا أرضه، ولَعمري لَجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين، أحبّ إلينا من فَيءٍ يُقسم، ثم كأنه لم يكن، فاعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية ، على أن تُخيِّروا مَن في أيديكم مِن سَبْيهم، بين الإسلام، وبين دين قومه، فمن اختار منهم الإسلام، فهو من المسلمين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، ومَنْ اختار دين قومه، وُضع عليه من الجزية ما يُوضع على أهل دينه... " ) .
وجمع المسلمون ما بأيديهم من السبايا، واجتمعت
النصارى ، فيتقدم الرّجل من السبايا، ويُخيّر بين الإسلام والنصرانية، فإذا اختار الإسلام كبّر المسلمون، ثم يضمّه المسلمون إلى صفوفهم، وإذا اختار النصرانية، نخرت النصارى، ثم حازوه إليهم، وقد كان بين السبايـا،
[ ص: 146 ] أبو مريم عبد الله بن عبد الرحمن ، الذي اختار الإسلام، فأصبح عريف زُبَيْد
[34] ، فقد عرض المسلمون عليه الإسلام، وعرض عليه
النصارى النصرانية، وأبوه وأمه وإخوته في النصارى، فاختار الإسلام
[35] .
وحين حاصـر عمـرو
حصـن بابليـون ، أرسـل إلى حُماة الحصـن: (لا تعجِّلونا لنعذر إليكم، وترون رأيكم بعد) ، فكَفُّوا أصحابهم، وأرسل إليهم
عمرو : (إني بارز، فليبرز إليّ أبو مريم
وأبو مريام ) ، فأجابوه إلى ذلك، وآمن بعضهم بعضًا، فقال لهم عمرو: (أنتما راهبا هـذه البلدة، فاسمعا: إن الله عز وجل بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأمره به، وأمرنا به محمد صلى الله عليه وسلم ، وأَدَّى إلينا كل الذي أُمر به، ثم مضى صلوات الله عليه ورحمته، وقد قضى الذي عليه، وتركنا على الواضحة، وكان ممّا أمرنا به الإعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومَن لم يجبنا عَرَضنا عليه الجزية ، وبذلنا له المنعة، وقد أَعْلَمَنَا أنَّا مُفْتَتِحُوكُم، وأوصانا بكم حِفْظًا لرَحِمنا فيكم، وإنَّ لكم إن أجبتمونا بذلك ذمَّةً إلى ذمَّةً. ومما عهد إلينا أميرنا: استوصوا بالقِبْطِيِّين خيرًا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا بالقبطيِّين خيرًا، لأن لهم رَحمًا وذمة)
[36] .. فما تمّ الفتح، أوكاد، إلا وكان من
[ ص: 147 ] أهل
مصر في جيش
عمرو جنود، بلغ قسم منهم رتبة عريف على إخوانه العرب الأقحاح المسلمين.
فلا عجب أن يكون
القِبط لعمرو أعوانًا
[37] ، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط لفتح الإسكندرية ، فعاونوا المسلمين معاونات عسكرية وإدارية، ساعدتهم على الفتح
[38] ، ولم ينقض القبط ولا
المقوقس الصلح، الذي عقدوه بينهم وبين الفاتحين، كما نقض
الروم [39] ، لأن القبط أعجبوا بعدل المسلمين بقدر كُرههم لظلم الروم، وهذا ما يقرره المؤرخون المسلمون، والأقباط القُدامى، ولا عبرة لادعاءات غير المنصفين من المستشرقين والمؤرخين الأجانب المحدثين، فوراء ادعاءاتهم تحيّز
للنصرانية ، يناقض الموضوعية وحوادث التاريخ.
والحق أن عَمْرًا أثبت كفاية إدارية فذة في ولايته لمصر، ولو كانت محاسبة
عمر بن الخطاب لعمرو على المال، كما ذكرنا، لخيانة عمرو في أمانته على المال، لما أبقاه لحظة واحدة على مصر، وقد حاسب عمر بن الخطاب كل عماله أشد الحساب على المال، ومنهم مَن هـو أفضل من عمرو سابقة، وتدينًا، وورعًا، وتقوى، ولكن عُمر كان يحب أن يبقى عماله مثلًا رفيعًا في النقاء، والبعد عن الشبهات، حتى يكونوا موضع
[ ص: 148 ] ثقة رعيتهم الكاملة المطلقة، فهو يحاسبهم حرصًا عليهم ورغبة في استكمال سيطرتهم على رعيتهم، وتبادل الثقة الكاملة المطلقة، بين الحكام والمحكومين.. والثقة المتبادلة، أهم كثيرًا من المال، وأجدى للحاكم والمحكوم.
وأقره
عثمان بن عفان رضي الله عنه ، على
مصر أربع سنين، أو نحوها، ثم عزله عنها، وولاّها
عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح العامري ، فقد بويع عثمان بالخلافة، في شهر المحرّم لثلاث مضين منه، سنة أربع وعشرين الهجرية
[40] .. وعزل عثمان عن مصر عَمْرًا سنة سبع وعشرين الهجرية
[41] ، فقد عُزل عمرو عن خَرَاج مصر سنة سبع وعشرين الهجرية، واستُعمل عليه عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، وكان أخا عثمان من الرضاعة، فتباغيا، " وكتب عمـرو إلى عثمـان يقـول: ( إن عبد الله قد كسر عليّ مكيدة الحرب " ) ، " وكتب عبد الله بن سعد إلى عثمان: (إن عَمرًا كسر عليّ الخراج " ) ، فعزل عثمان عمرًا، واستقدمه، واستعمل بدله عبد الله على حرب مصر وَخَرَاجها
[42] ولم يعد إلى مصر من جديد حتى سنة ثمان وثلاثين الهجرية
[43] ، فقد سيّره
معاوية بن أبي سفيان إلى مصر، فاستنقذها من
[ ص: 149 ] محمد بن أبي بكر الصديق ، عامل
عليّ بن أبي طالب على
مصر ، فاستعمله
معاوية عليها إلى أن مات
[44] .
لقد عمل
عمرو على مصر
لعمر بن الخطاب سنتين،
ولعثمان بن عفان أربع سنين إلا شهرين، ولمعاوية بن أبي سفيان سنتين إلا شهرًا
[45] ، ثم مات عمرو، فانتهت بموته حياة فاتح من أعظم الفاتحين، وإداري من ألمع الإدرايين، بعد أن نهض بواجبه في الفتح والإدارة على أحسن وجه، إذ لا يمـاري أحـد في أهميـة فتوحـاته، وبقـائها على الدهـر، ولا يجادل عاقل في قابليته الإدارية الفذّة، وقد سجّل عمرو صفحات ناصعة في تاريخ الإسلام، فاتحًا وإداريًا، كما أن صفحاته مشرقة في سائر تواريخ الأمم الأخرى، شرقية وغربية، وقديمًا وحديثًا.