5- الخطـيب
كان عمرو خطيبا مصقعا، من ألمع خطباء الصحابة، رضي الله عنهم ، وقد شهد أحدهم
[1] خطبة لعمرو، فقال: (رحت أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة تهجيرا
[2] ، وذلك آخر الشتاء بعد حميم
النصارى [3] بأيام يسيرة، فأطلنا الركوع، إذ أقبل رجال بأيديهم السياط، يزجرون الناس، فذعرت! فقلت: يا أبت! من هـؤلاء؟! فقال: يا بني! هـؤلاء الشرط. فأقام المؤذنون الصلاة، فقام
عمرو بن العاص على المنبر، فرأيت رجلا ربعة، قصير القامة، وافر الهامة، أدعج
[4] ، أبلج
[5] ، عليه ثياب موشية، كأن به العقيان
[6] يأتلق، عليه حلة وعمامة وجبة، فحمد الله وأثنى عليه حمدا موجزا، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ، ووعظ الناس، وأمرهم ونهاهم، فسمعته يحض على الزكاة، وصلة الأرحام، ويأمر بالاقتصاد، وينهى عن الفضول
[7] ، وكثرة العيال، وقال في ذلك: ( " يا معشر الناس! إياكم وخلالا أربعة، فإنها تدعو إلى النصب بعد الراحة،
[ ص: 163 ] وإلى الضيق بعد السعة، وإلى المذلة بعد العزة، إياكم وكثرة العيال، وإخفاض الحال، وتضييع المال، والقيل بعد القـال، في غيـر درك
[8] ولا نوال "
[9] ، ثم إنه لا بد من فراغ يئول إليه المرء في توديع جسمه، والتدبير لشأنه، وتخليته بين نفسه وبين شهواتها، ومن صار إلى ذلك، فليأخذ بالقصد والنصيب الأقل، ولا يضيع المرء في فراغه نصيب العلم من نفسه، فيحور
[10] من الخير عاطلا، وعن حلال الله وحرامه غافلا.
(يا معشر الناس! إنه قد تدلت الجوزاء، وذكت الشعرى، وأقلعت السماء، وارتفع الوباء، وقل الندى، وطاب المرعى، ووضعت الحوامل، ودرجت السخائل
[11] ، وعلى الراعي بحسن رعيته حسن النظر، فحي لكم على بركة الله إلى ريفكم، فنالوا من خيره، ولبنه، وخرافه، وصيده، وأربعوا خيلكم، وأسمنوها، وصونوها، وأكرموها، فإنها جنتكم
[12] من عدوكم، وبها مغنامكم، وأنفالكم، واستوصوا بمن جاورتموه من
القبط خيرا، وإياكم والمشمومات والمعسولات، فإنهن يفسدن الدين، ويقصرن الهمم
[13] ) .
[ ص: 164 ]
والذي يقرأ هـذا الخطاب بإمعان، يتلمس بالإضافة إلى بلاغته وبيانه المشرق، وإيجازه، ووضوح مقاصده، اهتمام
عمرو برعيته، وتوجيههم إلى الصلاح والخير، واهتمامه بالناحيتين الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، فهو بحق رجل دولة بكل معنى الكلمة، يأمر الناس بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويشعر بمسؤولياته في توجيههم، توجيها سليما، يفيدهم في دنياهم وآخرتهم.
ومن نماذج خطبه في الحرب، خطبته في صفين ، فقد أراد
معاوية ابن أبي سفيان أن يخطب بصفين، فقال له عمرو: (دعني أتكلم، فإن أتيت على ما تريد، وإلا كنت من وراء ذلك) ، فأذن له، وتكلم عمرو بكلمات، قال: (قدموا المستلئمة
[14] ، وأخروا الحسر
[15] .. كونوا مقص الشارب
[16] .. أعيرونا أيديكم ساعة.. قد بلغ الحق مفصله
[17] ، إنما هـو ظالم، أو مظلوم)
[18] .
ولا أعرف خطابا في مثل هـذا الموقف، أوضح بيانا، وأجزل عبارة، وأوجز كلاما، وأصح منطقا، مثل هـذا الخطاب، الذي اختصر به تعبية الميدان بكلمات معدودات.
[ ص: 165 ]
5- الخطـيب
كان عمرو خطيبًا مصقعًا، من ألمع خطباء الصحابة، رضي الله عنهم ، وقد شهد أحدهم
[1] خطبة لعمرو، فقال: (رحتُ أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة تهجيرًا
[2] ، وذلك آخر الشتاء بعد حَميم
النصارى [3] بأيام يسيرة، فأطلنا الركوع، إذ أقبل رجال بأيديهم السِّياط، يزجرون الناس، فَذُعِرْتُ! فقلت: يا أبتِ! مَن هـؤلاء؟! فقال: يا بُنيّ! هـؤلاء الشُّرَط. فأقام المؤذنون الصلاة، فقام
عمرو بن العاص على المنبر، فرأيت رجلًا رَبْعَةً، قصير القامة، وافر الهامة، أَدْعَج
[4] ، أَبْلَج
[5] ، عليه ثياب موشِيّة، كأن به العِقْيَان
[6] يأتلق، عليه حُلَّة وعمامة وجُبَّة، فحمد الله وأثنى عليه حمدًا موجزًا، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ، ووعظ الناس، وأمرهم ونهاهم، فسمعته يحضّ على الزكاة، وصِلَة الأرحام، ويأمر بالاقتصاد، وينهى عن الفُضول
[7] ، وكثرة العيال، وقال في ذلك: ( " يا معشر الناس! إياكم وخلالًا أربعة، فإنها تدعو إلى النَّصَب بعد الراحة،
[ ص: 163 ] وإلى الضيق بعد السَّعة، وإلى المذلّة بعد العزة، إياكم وكثرة العيال، وإخفاض الحال، وتضييع المال، والقِيل بعد القـال، في غيـر دَرَك
[8] ولا نوال "
[9] ، ثم إنّه لا بد من فراغ يئول إليه المرء في توديع جسمه، والتدبير لشأنه، وتخليته بين نفسه وبين شهواتها، ومَن صار إلى ذلك، فليأخذ بالقَصْد والنّصيب الأقل، ولا يُضيع المرء في فراغه نصيب العلم من نفسه، فيحُور
[10] من الخير عاطلًا، وعن حلال الله وحرامه غافلًا.
(يا معشر الناس! إنه قد تدلّت الجوزاء، وذَكَتِ الشِّعْرى، وأقلعت السماء، وارتفع الوباء، وقلّ الندى، وطاب المَرْعى، ووضعت الحوامل، ودرجت السّخائل
[11] ، وعلى الرّاعي بحسن رعيته حُسنُ النظر، فحَيَّ لكم على بركة الله إلى ريفكم، فنالوا من خيره، ولبنه، وخِرافِه، وصيده، وأَرْبِعوا خيلكم، وأسمنوها، وصونوها، وأكرموها، فإنها جُنَّتَكم
[12] من عدوكم، وبها مغنامكم، وأنفالكم، واستوصوا بمن جاورتموه من
القِبط خيرًا، وإياكم والمشمومات والمعسولات، فإنهن يُفْسدن الدِّين، ويُقصِّرنَ الهِمم
[13] ) .
[ ص: 164 ]
والذي يقرأ هـذا الخطاب بإمعان، يتلمس بالإضافة إلى بلاغته وبيانه المشرق، وإيجازه، ووضوح مقاصده، اهتمام
عمرو برعيّته، وتوجيههم إلى الصلاح والخير، واهتمامه بالناحيتين الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، فهو بحق رجل دولة بكل معنى الكلمة، يأمر الناس بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويشعر بمسؤولياته في توجيههم، توجيهًا سليمًا، يفيدهم في دنياهم وآخرتهم.
ومن نماذج خطبه في الحرب، خطبته في صِفِّين ، فقد أراد
معاوية ابن أبي سفيان أن يخطب بصِفِّين، فقال له عمرو: (دعني أتكلم، فإن أتيتُ على ما تريد، وإلا كنتَ من وراء ذلك) ، فأذن له، وتكلّم عمرو بكلمات، قال: (قدِّموا المُسْتَلْئِمَة
[14] ، وأخِّروا الحُسَّر
[15] .. كونوا مِقَصَّ الشَّارب
[16] .. أعيرونا أيديكم ساعة.. قد بلغ الحقُّ مَفْصِلَهُ
[17] ، إنما هـو ظالم، أو مظلوم)
[18] .
ولا أعرف خطابًا في مثل هـذا الموقف، أوضح بيانًا، وأجزل عبارة، وأوجز كلامًا، وأصحّ منطقًا، مثل هـذا الخطاب، الذي اختصر به تعبية الميدان بكلمات معدودات.
[ ص: 165 ]