19 - وكان عمرو يطبق مبدأ: تحشيد القوة، وهو حشد أعظم قوة مادية ومعنوية، واستخدامها في الزمان والمكان المناسبين.
فقد قاد سرية ذات السلاسل ، فلما قرب من قضاعة بلغه أن لهم جمعا غفيرا، فاستمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في مائتين، وعقد له لواء، وبعث معه سراة المهاجرين والأنصار ، وأمره أن يلحق بعمرو ، وأن يكونا جميعا، ولا يختلفا، وبذلك استطاع عمرو حشد القوة المناسبة للواجب المناسب، فانتصر على قضاعة، وأنجز واجب سريته كما ينبغي.
وارتدت قضاعة بعد التحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، فعقد أبو بكر الصديق، رضي الله عنه لواء لعمرو على جيش من جيوش المسلمين، وأمره بقتال قضاعة، فسار عمرو في الطريق الذي سلكه في سرية ذات السلاسل، حتى وصل بلاد قضاعة، فأعمل السيف في [ ص: 59 ] رقابهم، وغلبهم على أمرهم، لأن الجيش الذي تولى قيادته كان متكامل الحشد، قادرا على النهوض بأداء واجبه بنجاح.
وكانت جيوش المسلمين متفرقة في بلاد الشام، وكان كل جيش من تلك الجيوش بقيادة قائد من قادة المسلمين، فأشار عمرو على قادة المسلمين بالاجتماع في اليرموك ، وتوحيد قيادتهم، لمواجهة الروم بجيوش موحدة، وقيادة موحدة، لإمكان إحراز النصر عليهم؛ لأن بقاء جيوش المسلمين متفرقة في بلاد الشام، يؤدي إلى أن تبقى ضعيفة تجاه جيش الروم الموحد قوة وقيادة، وأن تقاتل جيوش الروم كل جيش من جيوش المسلمين على انفراد، دون أن يتعاون المسلمون على قتال عدوهم، لتفرق تلك الجيوش، ووجودها متباعدة، وبقيادات شتى.. فكان رأي عمرو باجتماع جيوش المسلمين في اليرموك، وتوحيد قيادتهم، مما أدى إلى استكمال تحشيد الجيش الإسلامي استعدادا لخوض المعركة بقوات موحدة، وقيادة موحدة، لا بقوات متفرقة، وقيادات كثيرة.
وتحشيد القوة للمسلمين في اليرموك، مثال عملي رائع على تطبيق هـذا المبدأ بشكل مثالي، يقود إلى النصر.
وهذا الحشد لجيوش المسلمين في موضع واحد، اختاره المسلمون لأنفسهم، ولم يختره عدوهم لهم، وتوحيد قيادتهم، واختيار موعد [ ص: 60 ] نشوب القتال دون أن يضطرهم عدوهم إلى نشوب القتال، كان بمشورة عمرو وتوجيهه، ويمكن أن يكون درسا مهما جدا من الدروس المستفادة، التي ينبغي على العسكريين المسلمين تعلمها بصورة متقنة، وتطبيقها عمليا في الحرب.
وهذا الدرس ينبغي أن يعلم في الكليات العسكرية، وكليات الأركان والقيادة، وجامعات الدراسات العسكرية العليا، فخير الدروس ما كان مستفادا من معارك المسلمين، وتاريخهم المجيد، لأنه طبق على أرضهم، وطبقه أمثالهم من الرجال.
وفي فتح مصر، قاد عمرو في المعارك التمهيدية قبل معركة (بابليون) الحاسمة، جيشا تعداده ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل، " وحاصر عمرو حصن بابليون بجيشه القليل عددا، فكان أقل من أن يستطيع فتح هـذا الحصن الحصين، فكتب إلى عمر بن الخطاب يستمده، فأمده بأربعة آلاف [1] ، على كل ألف رجل منهم رجل من الأبطال، وكتب إليه: إني قد أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف منهم رجل مقام الألف، الزبير بن العوام ، والمقداد بن عمرو ، وعبـادة بن الصـامت ، ومسلمة بن مخلد ، -وقـال آخـرون: بـل خارجة بن حذافة الرابـع، لا يعدون مسلمة- إن معك اثنى عشر ألفا، ولا يغلب اثنا عشر ألفا من قلة. " [2] . [ ص: 61 ]
وفي رواية أخرى، أن عمر بن الخطاب أشفق على عمرو ، فأرسل الزبير في أثره في اثنى عشر ألفا، فشهد معه الفتح [3] .
ومهما يكن من أمر، فإن عمرا انتظر المدد، فحشد جيشه حول حصن بابليون بعد وصول المدد إليه، فأصبح جيشه قادرا على فتح حصن بابليون، فحاصر الحصن حتى استسلم، فكانت معركة حصن بابليون معركة حاسمة، فتحت أبواب مصر للفاتحين المسلمين.
" وكان عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، قد دخل على عمر بن الخطاب، رضي الله عنه ، فقال عمر: كتبت إلى عمرو بن العاص، يسير إلى مصر من الشام. فقال عثمان: يا أمير المؤمنين! إن عمرا لمجرأ، وفيه إقدام وحب للإمارة، وأخشى أن يخرج من غير ثقة ولا جماعة، فيعرض المسلمين للهلكة، رجاء فرصة لا يدري تكون أم لا. " [4] .
كان جريئا، مقداما، محبا للإمارة بحق، ولكنه لا يخرج من غير ثقة، ولا جماعة، بل يحسب لكل أمر حسابه، ويدخل في حسابه أسوأ الاحتمالات، ويتخذ لكل أمر عدته، ولكل معضلة ما يفرجها.. ومن حساباته تطبيق مبدأ: تحشيد القوى، أو تحشيد القوة، تطبيقا مثاليا، دون أن يترك للمجازفة أي مجال. [ ص: 62 ]
20 - وكان يطبق مبدأ: الاقتصاد بالمجهود، وهو استخدام أصغر القوات للحماية، أو لتحويل انتباه العدو إلى جهة أخرى، أو صد قوة معادية أكبر منها، على أن تكون القوات المستخدمة قادرة على النهوض بواجبها، وتحقيق الهدف من الواجب الذي أسند إليها.. والاقتصاد بالمجهود يدل على الاستخدام المتوازن للقوى، والتصرف الحكيم بالمواد العسكرية، لغرض الحصول على التحشد المؤثر في الزمان والمكان الحاسمين.
وليس مبدأ: الاقتصاد بالمجهود، مناقضا لمبدأ: تحشيد القوة، بل هـما متكاملان: الأول يحول دون التبذير بالقوة، بدون مسوغ، فهو حشد القوة الكافية للواجب المعين، دون إسراف ولا تبذير، ولا إفراط ولا تفريط، فهما حشد القوة المناسبة للواجب المناسب، في الزمان والمكان المناسبين.
وقد طبق مبدأ: الاقتصاد بالمجهود في معاركه كافة عدا سرية ذات السلاسل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وحصار حصن بابليون في فتوح مصر على عهد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه ، أما في معاركه الكثيرة الأخرى، في حرب الردة ، وفتوح الشام ، وفتوح مصر وليبيا ، فاقتصر على القوات المتيسرة لديه، واستفاد من القوات المحلية المتيسرة أيضا.
وكمثال على تطبيقه مبدأ: الاقتصاد بالمجهود، ما فعله بعد فتح [ ص: 63 ] حصن بابليون، فإنه وجه قادته شمالا، وغربا، وجنوبا، لاستكمال فتح مصر بالقوات المتيسرة لديه، فخاض قادته معارك استثمار الفوز، التي تكون اعتياديا بعد المعركة الحاسمة، وهي معركة بابليون، واستكملوا فتح مصر، من الصعيد حتى الدلتا، ولم يبق غير الإسكندرية، فسار عمرو على رأس قواته لفتحها، وحقق هـدفه في الفتح، دون أن يكلف الخليفة بقوات جديدة، فكان عمرو بحق مريحا لقيادته العليا، لا يكلفها ما تطيق ولا ما لا تطيق.
ولا نعلم أنه استمد الخليفة في فتح ليبيا، بل اكتفى بقواته المتيسرة لديه، على الرغم من طول خطوط مواصلاته، وبعد المسافة الشاسعة بين قاعدته المتقدمة في الفسطاط، وبين طرابلس في ليبيا .
ويبدو أن ثقة عمرو العالية، بشجاعته وإقدامه، اختصر له الطريق في كثير من المواقف، لتحقيق أهدافه بسهولة ويسر، كاقتحامه مقرات قادة الأعداء، كأنه رسول المسلمين، واقتحامه حصون الأعداء، مع قليل من جنده، كما اقتحم حصن الإسكندرية [5] ، مما عرض نفسه لأعظم الأخطار، ومع ذلك فقد كان عمرو في قيادته، من الأمثلة الأسوة في تطبيق مبدأ الاقتصاد بالمجهود.