24 - وكان يطبق مبدأ: إدامة المعنويات، وهي الصفات التي تميز الرجال الملتزمين بالعقيدة الراسخة، والضبط المتين، بها تظهر الطاعة القائمة على الحب، وتبرز الشجاعة في القتال، والصبر على تحمل المشاق، وتبرز المزايا، التي تجعل المقاتل مطيعا، باسلا، صبورا.
وقد كان رجال عمرو من الصحابة والتابعين، من القرن الأول الهجري، خير القرون على الإطلاق، المتميز بالإيمان الراسخ، والجهاد في سبيل الله، والتضحية، والفداء.
" حاصر عمرو حصن بابليون، فلما أبطأ الفتح عليـه، قـال الزبيـر ابن العوام : إني أهب نفسي لله، أرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين، فوضع سلما إلى جانب الحصن، ثم صعد، وأمرهم إذا [ ص: 70 ] سمعوا تكبيره، أن يجيبوه جميعا، فما شعر المسلمون إلا والزبير على رأس الحصن يكبر، ومعه السيف، وتحامل الناس على السلم، حتى نهاهم عمرو خوفا من أن ينكسر، ولما اقتحم الزبير، وتبعه من تبعه، وكبر وكبر من معه، وأجابهم المسلمون من خارج الحصن، لم يشك أهل الحصن أن المسلمين قد اقتحموا الحصن جميعا، فهربوا. وعمد الزبير وأصحابه إلى باب الحصن، ففتحوه، واقتحم المسلمون الحصن " [1] .
ولما حصر المسلمون حصن بابليون، كان عبادة بن الصامت في ناحية يصلي وفرسه عنده، فرآه قوم من الروم، فخرجوا إليه، ولما دنوا منه سلم من صلاته، ووثب على فرسه، ثم حمل عليهم، ولما رأوه غير مكذب عنهم، ولوا راجعين، وتبعهم، فجعلوا يلقون مناطقهم ومتاعهم ليشغلوه بذلك عن طلبهم، فلا يلتفت إليهم، حتى دخلوا الحصن، ورمي عبادة من فوق الحصن بالحجارة فرجع، ولم يعرض لشيء، مما كانوا طرحوا من متاعهم، حتى رجع إلى موضعه الذي كان به، فاستقبل الصلاة، وخرج الروم إلى متاعهم يجمعونه. [2] .
وقتل أحد المسلمين أحد جنود الروم، فلم يبال بالذي قتله، ولم يرغب في سلبه، ولم ينزعه عنه، وقد كان سلبه ثياب الديباج، وعصابة من الذهب، ولم يطلب دابته، ولم يلتفت إلى شيء من ذلك، [ ص: 71 ] وهو يرفع صوته بالقرآن الكريم، وانصرف حتى بلغ خيمته، فنزل عن فرسه، فربطه، وركز رمحه، ولم يعلم أحدا من أصحابه [3] .
تلك نماذج من رجال عمرو الملتزمين بالعقيدة الراسخة، ومن الطبيعي أن رجاله ليسوا جميعا كالزبير في شجاعته، وكعبادة وصاحبه في تعففهما، ولكن الأكثرية كذلك، والحكم للأكثرية على كل حال.
ولما حاصر المسلمون الإسكندرية ، قال صاحب المقدمة: (لا تعجلوا، حتى آمركم برأيي) ، فلما فتح الباب، دخل رجلان من رجاله، فقتلا، فبكى صاحب المقدمة، فقيل له: لم بكيت، وهما شهيدان؟! فقال: (ليت أنهما شهيدان! لقد ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يدخل الجنة عاص. ) وقد أمرت ألا يدخلوا حتى يأتيهم رأيي، فدخلوا بغير إذني [4] .
وقد علمت أن أصحاب عمرو في سرية ذات السلاسل ، جمعوا حطبا، يريدون أن يصطلوا ليلا، وهم شاتون في أرض باردة، فمنعهم عمرو، فشق ذلك عليهم، حتى كلمه في ذلك بعض المهاجرين، فغالظه، فقال عمرو: أمرت أن تسمع لي وتطيع، قال: فأفعل [5] .
أما تحلي عمرو بالضبط المتين، فقد ذكرناه في مكانه، وهو ضبط متين إلى أبعد الحدود. [ ص: 72 ]
وتلك نماذج من تحلي رجال عمرو بالضبط المتين، وهو ضبط يعتبر مفخرة من مفاخر جيش المسلمين في الصدر الأول للإسلام، بل يمكن اعتباره مثالا رائعا يحتذى في كل زمان ومكان، في كل جيش قديم وحديث.
فلا عجب أن يصبر رجال عمرو على تحمل المشاق صبرا جميلا، وأن يستقتلوا في ميادين القتال، فتنتصر الفئة القليلة على الفئة الكبيرة بإذن الله، ولكن بعد أن تساقط المجاهدون شهداء، فكانت نسبة الشهداء في مسيرة حروب الردة والفتوح من الصحابة ثمانين بالمائة، إذ كل خمسة منهم، مات واحد منهم حتف أنفه على فراشه، واستشهد أربعة منهم في ساحات الجهاد.
ولكن القول: بأن العقيدة الراسخة، والضبط المتين، ترفع معنويات المقاتلين، لا يغني عن كل قول، فالواقع أن صفات القائد المتميزة في الشجاعة والإقدام والذكاء، والمزايا الأخرى التي ذكرناها، التي تجعل منه أسوة حسنة لرجاله، عامل مهم من عوامل رفع المعنويات وإدامتها.
كما أن القائد المجرب المنتصر، الذي يقود رجاله من نصر إلى نصر، عامل مهم جدا من عوامل رفع المعنويات وإدامتها.
وقد ذكرنا مزايا قيادة عمرو المتميزة، التي تجعله مثالا شخصيا لرجاله، وبتلك المزايا كان قائدا منتصرا، لم يخسر معركة خاضها، [ ص: 73 ] وانتصر في كل معركة قادها. هـذا القائد المتمكن، يقود رجالا من ذوي العقيدة الراسخة، والإيمان العميق، والضبط المتين، لذلك كان القائد يطبق مبدأ إدامة المعنويات، في رجال لا تزعزع معنوياتهم الخطوب والأهوال.